في عام 1807 جردت إنجلترا حملة بحرية على مصر بقيادة الجنرال فريزر الذي جاء في قوة مقدارها ستة آلاف مقاتل محملين على خمس وعشرين بارجة، وكان هذا العدد ضئيلا بالمقارنة بحملة نابليون التي كان قوامها 36ألف مقاتل، لكن الإنجليز اعتمدوا على اتفاقهم مع المماليك بقيادة محمد بك الألفي الذي كان رجلهم بمصر مقابل وعده بأن يحكم مصر بديلا لمحمد علي الذي اختاره مشايخ المصريين، لكن الألفي قد مات قبل وصول الحملة بقليل، وهو ما جعل فريزر يبدأ في التفاوض مع أمين أغا محافظ الإسكندرية وهو من ضباط الأستانة فوافق في مارس من العام نفسه على تسليم الإسكندرية، ونال مكافأته عن ذلك، فاحتل الأسطول الإسكندرية وبدأ في الإعداد للحملة البرية التي كان أول أهدافها مصب النيل القريب في رشيد.
كان محافظ رشيد علي بك السلانكلي وحاميته المقدرة بسبعمائة جندي، نموذجا للوطنية فقد عزم على مقاومة الإنجليز بمعاونة أهالي المدينة، فقد كان محمد علي وجيشه في الصعيد لمحاربة المماليك، ودعا السلانكلي الناس فاستجابوا، فأمر بأن تنقل المراكب إلى البر الشرقي من النيل حتى لا يجد الرجال مفرا أو مهربا، على طريقة طارق بن زياد، فالبحر وراءهم والعدو أمامهم، ثم أمر بعودة الحامية والأهالي إلى المدينة وأن يعتصموا داخل المنازل ويخلوا الشوارع تماما، حتى إذا دخلها الإنجليز توهموا أن المحافظ اعتزم تسليمها أسوة بالإسكندرية، فما إن دخلوها متعبين من السير في الرمال استكانوا إلى الراحة، وحينها بدأ الهجوم.
جحيم تم فتحه على المحتل، فتم قتل 170 جندي وجرح 250 وأسر 120، وقتل قائد الحملة على رشيد الجنرال ويكوب، وتقهقر الجيش الإنجليزي خائبا إلى الإسكندرية.
يتحدث الجبرتي عن نصيب المصريين من المعركة وكيف أنهم عند علمهم بأمر الحملة آثروا الدفاع عن بلدهم بنفسهم ورفضوا مددا من جنود المماليك، خشية أنهم بعد انتصارهم يقومون بأعمالهم المعتادة من السلب والاعتداء على الأهالي، وهو الأمر الذي أكدته الحوادث، ففي حلمة فريزر نجد أن كل الحاميات المملوكية قد فرت عند العلم باقتراب الحملة، في حين تولى الدفاع عن الثغور والمدن أهلها من المصريين، حتى أن الإنجليز حاولوا العودة لرشيد وحاصروها وضربوها بالمدافع التي خربت الكثير من مبانيها وقتلت العديد من أهلها، لكن المدينة لم تسلم حتى أتاها المدد من جيش محمد علي فانسحب الإنجليز وكانت تلك بداية نهاية حملة فريزر.
تعد هذه الواقعة مثالا حيا لبدء تشكل القومية المصرية الحديثة والتي كان فيها المصريون يبذلون حياتهم للدفاع عن وطنهم، لكن تذكرها الآن يجعلنا نتساءل تساؤلا مشروعا حول مدى معرفتنا بتلك التفاصيل الداعية للفخر، ولماذا يتم التعامل في أدبيات التاريخ الأكثر شهرة مع الجانب السياسي للحدث فقط، في حين أن الجانب الإنساني والاجتماعي يمثل أهمية بالغة تجعلنا نقف يقينا على بدايات تشكل الهوية القومية الحديثة، ثم التساؤل لدى صناع الدراما والسينما والوثائقيات المصرية، ألا ترون أننا في حاجة إلى استخراج مثل هذه الوقائع من كتب التاريخ وإعادة إحيائها مرة أخرى داخل وعي أبنائنا.
في ظني أن تاريخنا يذخر بالقصص والملاحم التي يمكنها صناعة محتوى جاذب، كما في ظني دائما أننا نحتاج إلى أن نعلم أبناءنا جوانب من تاريخنا بصورة تركز على التفاصيل المتعلقة بالإنسان المصري وقدراته وبطولاته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة