كانت الساعة الأولى بعد ظهر 28 يونيو، مثل هذا اليوم، 1906، حين وصل المتهمون فى حادثة دنشواى إلى ساحة تنفيذ الأحكام، التى أصدرتها المحكمة ضدهم يوم 27 يونيو 1906، كانوا فى السلاسل والأغلال، ومن حولهم الجنود الإنجليز يحملون البنادق خلف ظهورهم والسيوف مسلولة فى أيديهم، وورائهم جنود مصريون، وفقا للكاتب الصحفى أحمد حلمى أفندى الذى تابع الحدث يوميا من موقعه لجريدة اللواء برئاسة مصطفى كامل، وأعادت مجلة «المجلة العربية» النشر فى عددها التذكارى عن الحادث أول فبراير 1908.
يؤكد «حلمى» أن الساحة التى اختيرت فى دنشواى لنصب مشانق الإعدام وبجانبها آلة التعذيب، كانت هى «نفس البقعة الدموية الحمراء التى وقف فيها الكابتن بول»، ونفذت الأحكام فى نفس اللحظة التى حدثت فيها الواقعة الأولى يوم 13 يونيو 1906، ويقدم «حلمى» وصفا تفصيليا مأساويا للحظات تنفيذ الأحكام، قائلا:
«كان جناب المستر متشل مستشار الداخلية وسعادة مدير المنوفية فى عربة، ونزلا ووقفا بين آلتى التعذيب والإعدام، وطلب «على حسن محفوظ» ابن حسن محفوظ، أول المحكوم عليهم بالإعدام، السماح له بمقابلة والده، وكان معه ورقة وقلم رصاص ليقيد ما يوصيه به والده، لكن طلبه قوبل بالرفض، وعند الساعة الأولى والدقيقة 30 بعد الظهر، صاح البروجى، فاعتلا الجنود الإنجليز ظهور الجياد، ونودى النداء العسكرى، فسلوا سيوفهم وجاء المغسلون، ومعهم طشت وحلة فيها ماء وكوز وقماش أبيض ودكة الغسل ونعش».
«بعد دقيقة أخرج حسن على محفوظ وهو فى الخامسة والسبعين من عمره، يرتدى جلبابا أسود ولبدة بيضاء، وحوله أربعة عساكر مصريين يحملون البنادق وفى أطرافها السونكى، فوقف بين يدى جناب المستشار، وأخذ سعادة مدير المنوفية يتلو خلاصة الحكم، ثم تقدم عشماوى وشد وثاقه من الخلف فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله»، ثم صعد إلى المشنقة بقدمين ثابتتين، وأوقف ووجهه متجه إلى البلدة ليراها قبل موته، وبين موقعه هذا ومنزله نحو خمسين أو ستين مترا على الأكثر.
كان نساؤه وأولاده وأحفاده فوق سطح المنزل يراهم ويرونه، فلما نظروا ضجوا ضجيجا عاليا وصاحوا وأعولوا، فنادى بأعلى صوته قائلا: «يا محمد يا شاذلى، يا أحمد يا زايد، يا محمد يا عمر، الله يخرب بيوتكم، الله يظلمكم»، وكان صوته هذا يسمعه بقية المحكوم عليهم بالإعدام ثم وضع عشماوى الحبل فى عنقه وحرك لولب المشنقة، فهوى الرجل وهو ناظر إلى بيته».. كان دعاء محفوظ على شاذلى وهو عمدة دنشواى، وزايد وعمر، لأنهم شهدوا ضده، وفقا لصلاح عيسى فى كتابه «حكايات من دفتر الوطن».
يذكر «حلمى» أنه جىء بحسن إسماعيل السيسى المحكوم عليه بسنة سجن والجلد، لتنفيذ أمر الجلد وهو ينظر إلى المشنوق معلقا، وجردوه من ملابسه وأبقوه بالسراويل فقط ثم صلبوه على الآلة، بحيث كان ظهره إلى جهة البلد ليرى النساء من السطوح الضرب وهو نازل عليه، ثم جىء بإبراهيم حسنين السيسى لتنفيذ أمر جلده، ثم بيوسف حسين سليم وصعد إلى المشنقة، فوقف ووجهه نحو البلدة وصاح بأعلى صوته متشهدا، ثم قال: «اللهم انتقم من الظالمين» مرتين، ولما نظر النساء من فوق السطوح أعولن وبكين، وبين الواقفين رجل يونانى فى متوسط العمر يبكى.
ثم جىء بمحمد غباشى السيد على لتنفيذ أمر الجلد، ومن بعده السيد الفولى، وجئ بالمشنوق الثالث السيد على سالم، وأصعدوه إلى المشنقة فنظر إلى النساء فوق السطوح وقال: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله»، وأضاف: «أنا مسلم وموحد بالله إنى برىء من كل دين يخالف دين الإسلام، ووضع عشماوى الحبل فى عنقه وأدار الآلة فهوى وأعولت النساء بشدة وحدة، وجئ بالمجلود الخامس وهو عزب عمر محفوظ، ثم المجلود السادس عبدالهادى حسن شاهين».
يضيف «حلمى»: «كانت الساعة الثانية والدقيقة 15 فأنزلت جثة المشنوق «السيد على سالم»، وصعد إلى المنصة المستر لاينس، أمين مخازن البوليس، وقصر حبل المشنقة استعدادا للمشنوق القادم وهو أقوى من السابقين، وأشدهم بأسا وأضخمهم جسما وأصلبهم عضلا. جىء بمحمد درويش زهران، وقرأ عليه المدير الحكم، فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.. اللهم عوضنا خيرا، اللهم أمتنا على دين الإسلام، يا رب عوضنا خير»، واستمر على هذه الأقوال حتى وصل إلى أعلى المشنقة، ووضع عشماوى الحبل فى عنقه، وتعطل فى إدارة اللولب فى الحال، فصاح زهران: «اخلص، انهى» ثم هوى، وتقوس وهو معلق تقوسا شديدا».
فى الساعة الثانية و25 دقيقة جىء بالمجلود السابع وهو محمد أحمد السيسى، ويؤكد «حلمى»: «حينئذ كاد دمى أن يتجمد فى عروقى من تلك المناظر الفظيعة، فلم استطع الوقوف بعد الذى شاهدته فقلت راجعا، وركبت عربتى وبينما كان السائق يلهب خيولها بسوطه، كنت أسمع صياح ذلك الرجل يلهب الجلاد جسمه بسوطه، وكانت الأحزان والكآبة باسطة على بيوت القرية».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة