ربما يبقى الوصول إلى حالة التوافق بين الدول العربية، بمثابة أولوية قصوى، في اللحظة الراهنة، إثر التغييرات الكبيرة التي يشهدها العالم جراء الأزمات المتواترة واحتدام الصراعات، سواء في صورتها الساخنة، على غرار الأوضاع في أوكرانيا، والتي تحولت لساحة للمعركة بين روسيا والغرب من جانب، أو في صورتها الباردة، بين الصين والولايات المتحدة، ومن ورائها حلفائها في أوروبا الغربية على خلفية تجارية، من جانب آخر.
ولعل اللحظة الدولية الراهنة، باتت تتطلب موقفا عربيًا موحدًا تجاه أطراف الصراع الراهن، ليحمل في طياته توافقًا إقليميًا، في إطار صفقة، تبدو البيئة الإقليمية مهيأة لها، في ظل المستجدات الأخيرة، وعلى رأسها عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى التقارب بين القوى العربية ونظيراتها الإقليمية، وهو ما يبدو بوضوح في التقارب الملموس بين مصر وتركيا في الآونة الأخيرة، وكذلك الاتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران، وهي الخطوات التي تحمل إرهاصات لتوسيع دائرة التوافق الإقليمي، ليشمل دولا أخرى مما يساهم بصورة كبيرة في تعزيز الدور الذي يمكن أن يقوم به الإقليم في صورته الجمعية.
ففي الحوار الذي أجراه الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط مؤخرا لـ"إكسترا نيوز"، نجد أن ثمة رصدًا دقيقًا للتغييرات الدولية الكبيرة التي يشهدها العالم، وتداعياتها على العالم العربي، وهو ما يتطلب التعامل معها انطلاقًا من الهوية العربية، تحت مظلة الجامعة العربية، ومنها إلى النطاق الإقليمي الأوسع، عبر البناء على التطورات المذكورة، وهو ما يمكن من خلاله توحيد المواقف الإقليمية في مواجهة التحديات العالمية الناجمة عن الصراعات الحالية، وما ينجم عنها من تطورات قد تخرج عن السيطرة، إذا ما وصلت إلى حد حرب عالمية جديدة، قد تزداد تفاقمًا، إذا لجأت خلالها القوى المتصارعة إلى استخدام السلاح النووى، وهو ما يمثل تهديدا للكوكب بأسره.
إلا أن رهان الأمين العام ورهان العرب جميعا، يتجسد في الانطلاق من صيغة توافقية عربية، نحو صفقة إقليمية متزنة أوسع نطاقًا، وهو ما يتطلب قدرا من الهدوء في التعاطي مع القضايا المثارة على الساحة الدولية، وهو أبداه أبو الغيط في حديثه عن المواقف التي تتبناها سوريا، بعد استئناف نشاطها بالجامعة العربية، ومدى قدرتها على التوافق مع التوجهات الجمعية لمحيطها العربي، لتبدأ مرحلة جديدة من اللقاء والبناء والمصافحة، على حد تعبيره.
الموقف العربية الجمعي يبدو مرهونًا إلى حد كبير بالمواقف التي تتبناها أطراف الصراع من القضايا العربية، وفي القلب منها القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية العرب المركزية، وهو ما يمثل تغييرًا كبيرًا عن النهج الحيادي الذي تبنته مجموعة من الدول، إبان الحرب الباردة، في إطار منظمة عدم الانحياز، عبر التحول نحو ما يسمى بـ"الحياد الإيجابي"، وهو ما يمثل نقطة تحول مهمة في المواقف العربية، والتي باتت تبتعد عن الدوران في فلك واحد، طيلة العقود الماضية، في ظل زمن الهيمنة الأحادية، والتي سيطرت خلالها الولايات المتحدة على زمام الأمور الدولية بمفردها.
التغيير الكبير في الموقف العربي الجمعي، يمثل انعكاسا صريحا للمشهد الدولي المتغير، ليس فقط في إطار الصعود الكبير لقوى يمكنها مزاحمة واشنطن على قمة النظام العالمي، وإنما أيضا صعود الدور الذي باتت تلعبه القوى المنافسة للولايات المتحدة في قضايا المنطقة، سواء على المستوى العربي أو الإقليمي، ربما آخرها الدور الصيني في الاتفاق السعودي الإيراني، وكذلك الدور الروسي الذي يحمل دعمًا للفلسطينيين، بعد عقود من الوساطات التي اتسمت بقدر كبير من الانحياز لصالح إسرائيل.
وهنا يمكننا القول بأن التغييرات الكبيرة في المشهد الدولي الراهن، برغم ما تحمله من تداعيات صعبة على العالم، وفي والقلب منه المنطقة العربية، تمثل فرصة استثنائية، لإعادة صياغة السياسات الاقليمية، عبر تحقيق التوافق العربي أولا، ومنه نحو صياغة موقف إقليمي موحد، يساهم في التخفيف من حدة التداعيات الكبيرة للازمات الناجمة عن الصراعات الحالية، بينما يفتح الباب أمام خدمة القضايا المشتركة، والتي تمثل أولوية قصوى لعقود طويلة من الزمن، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ناهيك عن تصاعد دور الاقليم بأسره للقيام بدور أكبر على المستوى الدولي.