حرباً لا تتوقف، وقتال لا ينقطع تشهده الحرب الأوكرانية على صعيد الميدان وفى أروقة الدبلوماسية، وكذلك على صعيد التخابر والتجسس بين موسكو وكييف.. فبين صفوف الجنود والآليات العسكرية، وخلف الخطوط خلايا تم انتقاء عناصرها بعناية ليكونوا بمثابة "جنرالات الظل" بينهم من تسلل فى مهام نوعية لخدمة بلاده ، ومن ضمنهم من اختار طريق العمالة وانضم لصفوف "الطابور الخامس" ، ليتنافسوا فى جمع معلومات كانت على مدار تلك الحرب الممتدة صيداً ثمينا مهد طريق لعمليات عسكرية ناجحة ، أو حال دون تقدم ميدانى غير مدروس.
"مهندس روستوف".. جاسوس فى قلب قلاع الصناعات العسكرية الروسية
وفى نهاية مايو الماضى، وفى وقت توارت فيه مبادرات السلام وارتفع الحديث عن تعثر الحسم الروسى أمام "الهجوم المضاد" الذى حشد الغرب لترجيح كفة أوكرانيا من خلاله ، أعلنت هيئة الأمن الفيدرالية الروسية اعتقال مهندس ومصمم فى إحدى شركات الصناعات الدفاعية الروسية جراء تعاونه مع المخابرات العسكرية الأوكرانية.
ذكر مركز العلاقات العامة بالهيئة، فى بيان له ، أن هيئة الأمن الفيدرالية قامت بتوثيق واعتراض الأنشطة غير القانونية لمهندس ومصمم بإحدى مؤسسات المجمع الصناعى العسكرى فى "روستوف" على نهر الدون.
وأشار المركز إلى أن المواطن الروسى المتهم قام من فبراير إلى إبريل الماضيين، فى إطار المراسلات على شبكة الإنترنت، بمراسلة موظف بمديرية المخابرات الرئيسية التابعة لوزارة الدفاع الأوكرانية ونقل المتهم له معلومات استباقية حول مواقع المؤسسات الصناعية الدفاعية، وكذلك أنظمة الدفاع الجوى، ومواقع تمركز أفراد القوات المسلحة الروسية فى إقليم روستوف على نهر الدون.
وشدد على أن دائرة التحقيق فى هيئة الأمن الفيدرالية الروسية قد رفعت قضية جنائية بموجب المادة 275 من قانون العقوبات الروسى بتهمة "الخيانة العظمى"، التجسس، حيث يواجه المهندس الروسى عقوبة بالسجن مدى الحياة.
الحنين إلى روسيا.. أزمة هوية فى قلب كييف
المهندس الجاسوس لم يكن الأول فى حرب الجواسيس ، خاصة لتشابك المشهد الروسى ـ الأوكرانى لدرجة يمكن اعتبارها "أزمة هوية".. ففى تقرير لمجلة فورين بوليسى الأمريكية يناير الماضى من داخل الأراضى الأوكرانية ، قال مواطنون أغلبهم مسنين ، إنهم يرون العيش تحت إدارة روسية أفضل ، وهو ما اعتبرته المجلة بمثابة قناعة تغذى فكر كثيرين فى تعاونهم مع الروس خلال الحرب.
وفى التقرير تحدثت عجوز سبعينية لم تكشف عن هويتها قرب مستشفى خيرسون الرئيسى بأوكرانيا عن مشاعرها حيال الصراع الدائر وقالت: "الوضع كان أفضل عندما كان الروس هنا، والقرم جزء من روسيا"، وتابعت كلامها وهى تشيد بالرئيس الروسى فلاديمير بوتين، لتعكس بما لا يدع مجالًا لشك مشاعر لا تستطيع كييف إنكارها بشكل واضح.
ومع الاختلاف فى تصنيف الولاءات المتعددة ما بين مشاعر صادقة أم عمالة، نقل تقرير فورين بوليسى عن رائد أوكرانى من اللواء الميكانيكى 59، سيرجى تسيهوتسكى إن "أى شخص" يمكن أن يكون عميلًا روسيا أو خائنًا ولا يهم العمر أو الخلفيات. وتابع: "العملاء الرئيسيين خرجوا من خيرسون، لكن بقى الكثيرون غيرهم".
وأشارت التقرير إلى أن المخبرين والخونة والعملاء دعموا روسيا فى محاربة أوكرانيا منذ البداية، وساعدوا فى تحديد مواقع الأهداف فى جميع أنحاء البلاد، وتمكنوا من التسلل إلى الحكومة، وقد اعتقل الآلاف منهم العام الماضى وفتحت مئات القضايا ضدهم أمام المحاكم.
ورغم ما أجرى من تغييرات جذرية منذ بداية الحرب العام الماضى فإن التقرير يرى أن النفوذ الروسى لا يزال متجذرا فى أجزاء واسعة من أوكرانيا، ولا تزال أيديولوجية الكرملين تعتبر أوكرانيا إلى حد كبير جزءا تاريخيا من روسيا.
وفى وقت سابق، اعترف المتحدث باسم جهاز الأمن الأوكرانى أرتيم ديختيارينكو بأن الجهاز نفسه يحتاج إلى "تطهير من العملاء والخونة"، وقال: "من المؤسف أن هناك عملاء معادون فى أعلى المناصب وبين كبار المسؤولين.
ونقل التقرير عن إيرينا فيدوريف رئيسة تحرير "تشيسنو" (Chesno) -وهى منظمة سياسية غير ربحية مقرها كييف- قولها إن "عملاء الروس موجودون فى كل مكان، فى الحكومة والنظام القضائى والكنيسة، وهم أعضاء فى البرلمان وقضاة وقساوسة ومدنيون بالطبع".
كنائس فى دائرة الشك
حديث فيدوريف عن ولاء الكنائس داخل أوكرانيا لم يكن وليد اللحظة، فمنذ بداية الحرب الأوكرانية، كان ملف الدين من بين أكثر الملفات الشائكة، حيث يتواجد فى بلد الصراع نحو 30 مليونا من الأرثوذكس مقسمين بين الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو، وبين اثنتين من الكنائس الأرثوذكسية الأخرى، إحداهما الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة.
وفى ليلة عيد الميلاد الماضى، أشاد الرئيس الروسى فلادمير بوتين بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية لدعمها قوات بلاده التى تقاتل فى أوكرانيا. وأصدر الكرملين هذه الرسالة بعد أن حضر الرئيس الروسى قداس عيد الميلاد للكنيسة الأرثوذكسية بمفرده داخل كاتدرائية فى الكرملين بدل الانضمام إلى المصلين فى احتفال عام.
وأوضح بوتين أنه يعد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية قوة مهمة لتحقيق الاستقرار فى المجتمع فى وقت يشهد "صداما تاريخيا" بين روسيا والغرب بسبب أوكرانيا وقضايا أخرى.
وقال بوتين أنه "من دواعى سرورى أن أشير إلى المساهمة البناءة الضخمة التى تقدمها الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والطوائف المسيحية الأخرى فى روسيا من أجل توحيد المجتمع والحفاظ على ذاكرتنا التاريخية وتعليم الشباب وتعزيز مؤسسة الأسرة".
وفى تقرير منفصل اعتبرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية الكنائس الأرثوذكسية فى أوكرانيا بمثابة "أدوات تجسس"، ونقلت عن مسئولين أوكرانيين قولهم إنهم أقدموا على اتخاذ إجراءات صارمة ضد أحد أفرع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الذى يصفونه بأنه قوة تخريبية تنفذ أوامر الكرملين.
وذكر التقرير أن رئيس دير لإحدى الكنائس الأرثوذكسية فى شرق أوكرانيا كان فى مهمة دينية على ما يبدو، وعندما اندلعت الحرب ظل بجانب رعيته وزار مستشفى للصلاة مع الجنود الجرحى.
ولكن فى واقع الأمر -وفقا لسجلات المحكمة- كان رئيس الدير واسمه أندريه بافلينكو يعمل بهمة ونشاط لقتل الجنود والناشطين الأوكرانيين، بمن فيهم كاهن من كنيسة أرثوذكسية منافسة فى مدينته، سيفيرودونيتسك.
وورد فى الأدلة التى قُدمت أثناء مثوله أمام محكمة أوكرانية أن بافلينكو كتب إلى ضابط روسى فى مارس الماضى أنه يجب قتل كاهن تلك الكنيسة. وأظهرت تلك الأدلة أن بافلينكو أرسل إلى الجيش الروسى قوائم بأسماء أشخاص لاعتقالهم بمجرد احتلال المدينة.
ورغم أن بافلينكو قد أُدين فى المحكمة اعتباره جاسوسا، فإنه سُلِّم إلى روسيا فى عملية تبادل للأسرى.
ولم تكن تلك حالة معزولة، وفق تقرير "نيويورك تايمز"، ففى نوفمبر الماضى اعتقلت السلطات الأوكرانية أكثر من 30 من رجال الدين والراهبات من إحدى الأذرع الأوكرانية للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، للاشتباه بهم.
وتشكل الكنيسة الموالية لروسيا -وهى إحدى الكنائس الأرثوذكسية الكبرى فى البلاد- "تهديدا تخريبيا فريدا"، حسب توصيف أجهزة الأمن الأوكرانية. وتعد هذه الكنيسة من الكيانات التى تغلغل فيها قساوسة ورهبان وراهبات ساعدوا روسيا فى حربها على أوكرانيا، وفق تقرير "نيويورك تايمز".
وأوضحت الصحيفة أن السلطات شنّت فى الأيام الأخيرة سلسلة من العمليات لتفتيش الكنائس والأديرة، وإصدار مراسيم وسنّ قوانين تقيد نشاط الكنيسة الموالية لروسيا التى يطلق عليها اسم مربك هو "الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو".
وكان الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى قد طلب من برلمان بلاده فى ديسمبر الماضى حظر أى كنيسة تخضع لروسيا.
وأثارت الإجراءات الصارمة التى اتخذتها أوكرانيا ضد الكنيسة الأرثوذكسية احتجاجات قوية من الكنيسة والحكومة الروسية التى وصفتها بأنها اعتداء على الحرية الدينية.
ويقول زيلينسكى -وهو يهودى الديانة- إن الحملة لا علاقة لها بالحريات الدينية التى يجادلون أنها لا تنطبق على أعمال التجسس أو إثارة الفتنة أو التخريب أو الخيانة.
ووصفت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، فى أوائل ديسمبر، اتهام قساوستها وكهنتها بالتعاون مع روسيا بأنها "لم تثبت صحتها ولا أساس لها".
وأشارت الصحيفة إلى أن الكنيسة الموالية لروسيا، والتى لا تزال تمثل ملايين الأوكرانيين، تصر على أنها قطعت العلاقات مع السلطة الكنسية الروسية منذ بداية الحرب.
وتابعت فى تقريرها أن الأدلة على معاملة الكنائس على أنها أدوات لتحقيق المآرب الروسية أمر شائع، فقد كشفت عمليات التفتيش عن أموال طائلة وأعلام دول سابقة كانت تابعة لروسيا فى شرق أوكرانيا، ومنشورات طبعها الجيش الروسى لتوزيعها فى "الأراضى المحتلة".
محاولات لتطهير الجبهة الداخلية
وقبل عام، حاول النظام الأوكرانى الإقدام على محاولات تطهير للجبهة الداخلية، حيث أقر البرلمان إقالة رئيس الأجهزة الأمنية إيفان باكانوف، والنائبة العامة إيرينا فينيديكتوفا باقتراح من رئيس البلاد فولوديمير زيلينسكى بسبب عجزهما عن مكافحة الجواسيس والمتعاونين مع روسيا.
وكان زيلينسكى قال أنه سيستغنى عن رئيس الأجهزة الأمنية والنائبة العامة لعدم كفاية الجهود التى يبذلانها فى مكافحة الجواسيس. وقال الرئيس الأوكرانى "قررتُ إعادة النظر فى بعض المسؤولين داخل إدارة الأجهزة الأمنية"، فى حين اشتبه بارتكاب 3 من كبار المسؤولين فى هذه المؤسسة الخيانة العظمى فى الأشهر الأخيرة.
وقال أندريه سميرنوف، نائب رئيس مكتب الرئاسة الأوكرانية فى تصريحات متلفزة حيها إن أوكرانيا سوف تستمر فى تحديد هوية الأشخاص الذين "يعملون لصالح العدو، والذين يسربون معلومات للعدو.
ومنذ قرار البرلمان الأوكرانى، وحتى الآن، تتوالى الإقالات من حين إلى آخر فى صفوف القيادات الأوكرانية، لكن يبدوا أن الاختراقات الداخلية لا تزال بحاجة إلى المزيد، وهو ما عكسته حادثة مقتل وزير الداخلية الأوكرانى وقيادات أمنية عصر الأربعاء الماضى، بعد تحطم طائرته أعلى مبنى يضم حضانة أطفال فى ضواحى العاصمة كييف، لأسباب لا تزال مجهولة، وتعليق مبهم للمتحدث باسم قيادة القوات الجوية الأوكرانية، الذى قال أنه من السابق لأوانه الحديث عن أسباب تحطم المروحية، موضحا أن التحقيق سيستغرق وقتا.