في مدينتنا القابعة في وسط دلتا نيل مصر، وفي أثناء التخطيط لتوسعات المدينة في نهاية الثمانينيات من القرن السابق، تم إنشاء شارع جديد على تخوم المدينة تحد معظمه أراض زراعية، وتم إطلاق اسم أحد شهداء المحافظة في حرب أكتوبر عليه، وهو الشهيد طيار عاطف السادات شقيق الرئيس السادات، الذي أصر أن يكون في أول الطلعات الجوية، وكان من أوائل من نالوا الشهادة في هذه الحرب المجيدة، رغبة في ربط الاسم في أذهان أبناء البلد بمن قدموا فداء للوطن يجب تقديره وتذكره، وشيئا فشيئا امتد العمران للمنطقة، وصار الشارع مملوءا بالعمارات الجديدة الحديثة، التي حرص أصحابها أن يكون أسفلها محال ذات مساحات واسعة، حيث بدأت المنطقة باتساعها تجذب صغار المستثمرين، ثم كبارهم، ثم الشركات التي تقدم علامات تجارية مشهورة وربما عالمية، فأصبح هذا الشارع مكانا لنزهة شباب الجامعات الذين اجتذبهم البريق الجديد ذي العلامات التي أدخلتهم مباشرة في أتون عالم جديد، كان ملتقاهم الذي وجدوا فيه الحداثة والمتسع، وربما المجال الذي يمارسون فيه مظاهر تلك العولمة ومنها الاحتفال بأعياد غير معروفة لدى آبائهم مثل الفالانتين، لكنهم استثقلوا الاسم الذي لا يعرفون عنه الكثير، أسموه شارع الموضة أو الشارع الجديد، ثم في النهاية استمرأوا أن يكون هذا الشارع يشبه قطعة من أوروبا بواجهاته الملونة فأطلقوا عليه اسم "شارع باريس".
في زياراتي لهذه المدينة أحب أن أتردد على الحلواني المشهور بها الذي افتتح فرعا له بهذا الشارع، غير أني أفضل الفرع القديم، وفي مرة طلبت من الشاب الذي يعمل بهذا الفرع، والذي يبدو عليه أنه جامعي يعمل هناك لحين إيجاد فرصة عمل حقيقية، طلبت منه نوعا معينا فقال لي إنه في الفرع الآخر في شارع باريس، فقلت له تقصد شارع عاطف السادات، أشار إلى أنه لا يعرف هذا الاسم للشارع، فسألته إن كان يعرف من هو عاطف السادات فأخبرني بأنه ربما يكون أحد أقارب الرئيس السادات!!
دهشتي بالطبع كانت كبيرة، فقد كنت أتوقع أن يعرف الشاب الجامعي من هو صاحب الاسم، ولذلك طرح السؤال نفسه، لماذا لم يعرف؟ من السبب؟ لماذا يترك أصلا في هويته ليتمسح في قشرة هوية أخرى؟ ثم هل يرتبط كل ذلك ببقاء تاريخنا داخل بطون الكتب عوضا عن وجوده في وعي وأذهان أبنائنا، لنتركهم نهبا لثقافات أخرى بعيدة على الرغم من وجود عناصر ثقافتهم بين أيديهم، وكيف يمكن لنا أن نرد هؤلاء ردا جميلا إلى أنفسهم، وعوامل الثقة في أصولهم.
في ظني أن الأثر الذي يخلفه هذا الانزياح ليس مجرد اسم يفقده أبناءنا، بل إنهم يفقدون كل تراكمات هذا الاسم في داخلهم، مما يهدد بجعل الرابط بينهم وبين هذا الوطن مجرد كونهم يعيشون فيه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة