كان الزعيم الوطنى مصطفى كامل فى باريس، حين أصدرت المحكمة المخصوصة فى قضية دنشواى، برئاسة بطرس باشا غالى، أحكامها بالإعدام والسجن والجلد للفلاحين المتهمين فى الحادثة، التى جرت مع جنود إنجليز كانوا يصطادون الحمام فيها يوم 13 يونيو 1906، وفقا لعبدالرحمن الرافعى فى كتابه «مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية».
يذكر «الرافعى» أن مصطفى كامل ذهب إلى أوروبا للاستشفاء، ونصحه الأطباء بأن يلزم الراحة والهدوء، ولم يكد يصله أنباء المحاكمة حتى ثارت نفسه، فكتب فى جريدة «الفيجارو» الفرنسية الشهيرة مقالة كبرى بعنوان «إلى الأمة الإنجليزية والعالم المتمدن»، ونشرت فى عدد 11 يوليو، مثل هذا اليوم، 1906، عرض فيها الحادثة على الضمير الإنسانى فى العالم.
يرى «الرافعى» أن المقالة كانت من أقوى وأبلغ ما كتبه مصطفى كامل بلسان مصر، واستطرد فيها إلى جهاد المصريين فى سبيل الاستقلال، وأبان أن حادثة دنشواى قضت على مزاعم اللورد كرومر «المندوب السامى البريطانى فى مصر»، فيما كان يذيعه من أن الفلاحين المصريين محبون للاحتلال الإنجليزى، ويعتبر «الرافعى» أن هذه المقالة فى ذاتها من أهم حوادث الحركة الوطنية، ومن نتائجها إقالة اللورد كرومر من منصبه، ولهذا ينشر ترجمتها كاملة.
يستهل مصطفى كامل مقالته بالقول: «لقد حدثت حادثة مؤلمة فى قرية من قرى الدلتا بمصر تدعى «دنشواى» تحركت بسببها عواطف الإنسانية فى العالم كله، وقام رجال الفكر مستقلو الأخلاق والأطوار فى إنجلترا رافعين أصواتهم سائلين عما إذا كان يوافق كرامة الدولة البريطانية وشرفها ومصلحتها أن تسمح بأن يرتكب باسمها أمر ظالم قاس، وإنه لمن الواجب على الذين يشغفون حقيقة بالإنسانية والعدل، أن يدرسوا هذه المسألة ويصدروا فيها حكمهم العادل، وهى المسألة الشاغلة لأمة بأسرها».
بعد هذه المقدمة يشرح وقائع الحادثة، وكيف تعامل معها أصحاب الأمر من الإنجليز حتى فقدوا الرشد، وثاروا من قيام المصريين بالمدافعة عن أنفسهم وعن أملاكهم، وبدلا من أن ينظروا إلى الحادثة بسكون جأش ككل المشاجرات والمعارك، بالغوا فيها وجسموها، وأعلنت الصحف المخلصة للاحتلال قبل المحاكمة أن العقوبات والعبرة التى ستضرب للناس ستكون هائلة، فلم يكن العدل هو المنشود فى المسألة بل الانتقام الفظيع».
وعن المحكمة، يقول مصطفى كامل: «اجتمعت المحكمة فى 24 يونيو، وأى محكمة استثنائية لا دستور يقيدها ولا قانون يربطها، ولقضاتها أن يحكموا بكل العقوبات التى تخطر على البال، محكمة أغلبيتها للإنجليز ولا تستأنف أحكامها، ولا تقبل العف، وقضت هذه المحكمة ثلاثة أيام فى نظر القضية، ولم تترك إلا ثلاثين دقيقة لأكثر من خمسين متهما ليقولوا ما عندهم، وأبت سماع أقوال أحد رجال البوليس، حيث أكد أن الضباط الإنجليز أطلقوا العيارات النارية على الأهالى، وبنت حكمها على تأكيدات الضباط الذين كانوا السبب فى المعركة، والذين يعتبرهم العدل فى كل بلد خصوما للمتهمين، وفى 27 يونيو صدر الحكم بشنق أربعة من المصريين وبالأشغال الشاقة المؤبدة على اثنين، وبالأشغال الشاقة لمدة خمس عشرة عام على واحد، وبها لمدة سبع سنوات على ستة، وبالحبس مدة عام مع الجلد على ثلاثة، وبالجلد على خمسة، وجلد كل واحد من هؤلاء خمسين جلدة بكرباج له خمسة ذيول، وقررت المحكمة تنفيذ الحكم فى اليوم التالى، بحيث لم يمض إلا خمسة عشر يوما بين الواقعة وتنفيذ الحكم.
يصف مصطفى كامل الشكل الذى تم به تنفيذ الأحكام فى محل الواقعة، وفى الساعة التى وقعت فيها، ثم يقول: «إن يوم 28 يونيو من عام 1906، سيبقى ذكره فى التاريخ شؤما ونحسا، وهو خليق بأن يذكر فى عداد أيام التناهى فى الهمجية والوحشية»، يضيف: «جئت اليوم أسأل الأمة الإنجليزية نفسها والعالم المتمدن إذا كان يصح التسامح فى إغفال مبادئ العدل وشرائع الإنسانية إلى هذا الحد؟ جئت أسأل الإنجليز الغيورين على سمعة بلادهم وكرامتها أن يقولوا لنا إذا كانوا يرون بسط النفوذ الأدبى والمادى لإنجلترا على مصر بالظلم والعسف وصنوف الهمجية، جئت أسأل الأمة الإنجليزية إذا كان يليق بها أن تترك الممثلين لها فى مصر يلجأون بعد احتلال دام أربعة وعشرين عاما إلى قوانين استثنائية ووسائل همجية بل وأكثر من همجية، ليحكموا مصر ويعلموا المصريين ماهية كرامة الإنسان».
يختتم مصطفى كامل مقاله بالمطالبة بالعدل والمساواة «وألا تكون مصر تلك التى وهبت للعالم أجمل وأرقى مدنية، أرضا تمرح الهمجية فيه»، ويؤكد الرافعى أن المقالة دوت فى أوروبا دويا عظيما، وتناقلتها الصحف فى مختلف البلدان، وكان لبلاغتها وعباراتها المؤثرة وصدورها من زعيم الحركة الوطنية والتعليق عليها فى معظم الصحف الأوروبية والبريطانية صدى بعيد فى الرأى العام الأوروبى والإنجليزى، وتزلزل بعدها مركز اللورد كرومر فى مصر وإنجلترا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة