أن ترحل دون ضجيج، دون صخب، دون مراسم، وكأنّك كنت طيفاً لم تُقدّم شيئاً يُذكر، وقد كنت مُخلصاً في عملك، وأنجزت مشروعك بتؤدة، وعلى نار هادئة، وقد شهد لك نقاد أهل مشروعك بالتميز والتفوق، وتظلّ تسأل ما الحل؟ وأنت تقف على حافة نهر الحياة، والقطار يستعدّ أن يصل للمحطة الأخيرة، ولا تزال تسأل وتسأل، والسؤال مشروع، لكن لا مجيب، وما أصعب أن يعيش الكاتب ويرحل مثل نبات الظلّ الذي يعيش بعيداً عن دائرة الضوء.
هكذا يرحل الكاتب صلاح عبد السيد عن عمر 84 عاماً، في هدوء كما عاش في هدوء، وقد آثر البعد عن صخب الوسط الثقافي، ولم يشتبك في معارك الجوائز الأدبية التي تتجدّد كل عام، عاش بمدينة أكتوبر بالجيزة يجتّر ذكرياته ومشوار العمر، أكثر من ستين عاماً مع الكتابة التي أخلص لها، وخلال المكالمات الهاتفية التي كنّا نتكلم فيها عن الشأن الثقافي، وعلى فترات متباعدة خلال السنوات الخمس الأخيرة، رأيتُه مُستغنيّاً مُتعفّفاً، وقد وجدتُه راضياً عمّا أنجزه في مشروعه الأدبي: سواء في القصة القصيرة أو الرواية أو المسرح عشقه الأول والأخير، خاصة بعد صدور كتبه، طبعة الأعمال الكاملة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأثناء مكالماته الهاتفية شعرتُ بحزنه الكبير من ضعف الإقبال على القراءة، وأسمعه كأنّه يُعزّي نفسه ويُعزيني وهو يسأل نفسه بصوت عال: كيف يتصرف المواطن أمام دخله البسيط؟ هل تراه أو تظنّه يشترى الكتب أم يشترى طعاماً لأولاده؟ ويختتم حديثه معي: الحياة صعبة جداً.
ولد صلاح عبد السيد يوم 2 يونيو 1939 بقرية الحوراني مركز فارسكور محافظة دمياط، كان والده يعمل مُدرّساً بمدرسة القرية الابتدائية؛ لذلك دخل المدرسة مُستمعاً وعمره خمس سنوات، وفي السنة التالية تم قيده بالصف الأول الابتدائي، وهو أكبر إخوته ـــ ثلاثة أولاد وأربع بنات ـــ، وأكمل دراسته بمدرسة فارسكور الابتدائية، ثم مدرسة فارسكور الثانوية، وتفتحت موهبته وبدأ يكتب الشعر أثناء المرحلة الثانوية، وحصل على الثانوية العامة عام 1958؛ ولهذا عندما التحق بكلية التجارة جامعة القاهرة، بحث عن دار الكتب في باب الخلق؛ ليقرأ وينسخ دواوين الشعر، ثم جذبته أضواء المسرح فبدأ يتردّد على مسارح القاهرة، وانجذب كثيراً للمسرح، وبعد السنة الأولى بالقاهرة كان قد هجر الشعر ودار الكتب وتفرغ لمتابعة العروض المسرحية، ربما انشغاله الدائم بمشاهدة العروض المسرحية كان السبب الرئيس لتعثره الدراسي بالجامعة التي ظلّ بها تسع سنوات حتى حصل على بكالوريوس التجارة شعبة إدارة الأعمال عام 1966، وتم تعيّينه بالهيئة العامة للتأمينات أكتوبر عام 1966، وظلّ يعمل بها حتى انتقل للعمل بإدارة الآداب عام 1974، تحت رئاسة الدكتور عبد العزيز الدسوقي، وكانت إدارة تتبع المركز القومي للفنون التشكيلية بوزارة الثقافة، ثم تغيّر اسمها للإدارة العامة للشؤون الأدبية ونقلت تبعيتها للمجلس الأعلى للثقافة، وإدارة الآداب كانت إدارة فاعلة خلال حقبة الخمسينيات والستينيات، إدارة تُصدر سلسلة شهرية لشباب الأدباء بعنوان: كتاب المواهب، وكتاب تذكاري عن كبار الأدباء، ومعجم الأدباء، وتُصدر مجلة الثقافة التي كان يرأس تحريرها دكتور عبد العزيز الدسوقي، وكان يعمل بها كوكبة من الأدباء: محمد السيد عيد، إبراهيم رضوان، محمد كمال محمد، أحمد الشيخ، نبيل فرج.
بدأ صلاح حياته الأدبية بكتابة القصة القصيرة بعد نكسة يونيو عام 1967، وكتب أول رواية: البُصاق، وحازت الجائزة الثانية في نادي القصة عام 1969، ثم كتب روايته الثانية: وسقط وجهي، ونالت الجائزة الثالثة عن نادي القصة عام 1971، وربما لم يرضَ عنهما كل الرضا؛ لذلك قرّر بجرأة شديدة وحزم عدم نشر الروايتين في كتب.
وبعد سنتين كتب روايته الثالثة: اصح يا نايم، نالت الجائزة الأولى والميدالية الذهبية من نادي القصة عام 1973، فقرّر أن تكون أول رواية ينشرها، ثم كتب روايته الرابعة: السّادة، ثم انتقل للكتابة للمسرح، فكتب أول مسرحية: قول يا رب، عام 1972، ونالت الجائزة الأولى من الثقافة الجماهيرية، وعُرضت على مسرحها، وكتب عن حرب أكتوبر 1973 مسرحية: كفر الشراقوة، نالت جائزة المجلس الأعلى للثقافة عام 1974، ثم مسرحية: الأرشيفجي نالت جائزة نادي المسرح، وعُرضت على مسرح الطليعة، ثم مسرحية: العرائس، وعُرضت على المسرح الحديث.
نال صلاح جائزة محمود تيمور للقصة القصيرة من المجلس الأعلى للثقافة عام 1993، وجائزة الدولة التشجيعية في الآداب ووسام العلوم والفنون من المجلس الأعلى للثقافة، عن المجموعة القصصية: إنَّه ينبثق عام 1994.
وقد أثرى المكتبة العربية بالعديد من الكتب، فنشر ثمان مجموعات قصصية: الجثَّة 1981، غربة 1986، صراع 1988، العصفور 1990، إنه ينبثق 1993، وهذا ما جرى للزرافة 2000، البنت اليمامة 2005، عُكارة الجسد 2009، ونشر ست روايات: اصح يا نايم 1994، الحائط 2009، العنتر 2012، السّادة 2014، حكايات عن العربيد 2001، الفحل 2017، ونشر سبع مسرحيات: الأرشيفجي 1985، العرائس 1987، يا آل عَبْس 1993، الوطاويط 1995، الرجل الذي انقسم 2005، حلم أبو زيد 2010، قول يا رب 2010، ونشر للأطفال: ثلاث مسرحيات للأطفال 1995، سجين الكوخ، قصص للأطفال 2000.
ولا أزال أذكر شهادة ناقد له مصداقية كبيرة عن مجموعته القصصية: الجثة، فيكتب الدكتور سيد حامد النساج: جميل أن تصدر أول مجموعة قصصية لشاب، وهي تحمل في أعطافها خصائص تكشف عن تميّزها، وعن استقلالها، وعمّا يمكن أن يجعلها ترتبط باسم كاتبها على مدار سنوات إبداعه الفنّي، والمجموعة بشكل لافت، تتسم ببعض سمات منها: الآنية، وفهم التقنية الصحيحة للقصة القصيرة، والابتعاد عن الإغراب والتعقيد، وهذا نابع من وعي الكاتب بمستوى قارئه وبكيفية الوصول إليه والتأثير فيه، ممّا استلزم اللجوء إلى طريقة السرد أقرب إلى الشكل الشعبي المألوف في رواية الأخبار والحكايات والسِيّر، فإنه لا شك وِفّق في هذه الخطوة الفنيّة الأولى: شكلاً ومضموناً.. إنه ابن مخلص صادق لقضايا مجتمعه، مُصوّر فنان، ينتخب الموقف، واللحظة، والحدث، والحركة، والفكرة، انتخاباً ذكياً واعياً.
وشهادة أخرى من ناقد وزان وموضوعي عن مجموعته القصصية التي نالت جائزة الدولة التشجيعية في الآداب: إنه ينبثق، فيكتب الدكتور على الراعي: في هذه المجموعة اللافتة للنظر يلعب لحم البشر دوراً رئيساً في كثير من قصصها، هو تارة مصدر اشتهاء وتطلّع طبقي، سرعان ما تنطفئ ناره قسراً، وتعقبه هزيمة مؤكدة، كما يحدث في قصة: ساروتا، يأخذ صلاح عبد السيد مادته من واقع الحياة بطبقاتها المُتعدّدة، ويريد أن يُطلق في قصصه نداءً واضحاً إلى التحرّر من القيود، وإلى التعاطف، ويحنو حنوّاً خاصاً على الطفل العبيط في قصة: الرحلة، ويقتطع من مادة القص الشعبي قصته الأخّاذة: الديناصور، ويُقدّم لنا بهذه مجموعة ذكية من القصص.
أخيراً هذا هو القاص والروائي والمسرحي صلاح عبد السيد الذي يرحل بعد أن كتب ثلاثين عملا أدبيّاً ولم يتلف النقاد لمشروعه الأدبي ويُقدّروه حقّ قدره، ولم ينل ما يستحقه من جوائز الدولة الرفيعة، فيرحل وفي صدره غصّة كبيرة من طاحونة الحركة الأدبية، ويرحل وفي فمه مياه كثيرة بطعم المرّارة، وقد آثر ألا يبوح بها استغناءً وتعفّفاً.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة