غلبت ذكريات التاريخ على الجو العام فى آخر لقاء بين الرئيس الليبى معمر القذافى والكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، بمقر إقامة القذافى فى «باب العزيزية» يوم 17 يوليو 2010، وجاء بدعوة من الرئيس الليبى وبعد انقطاع دام 11 عاما، حيث كان آخر لقاء بينهما فى قصر القبة بالقاهرة يوم 13 مارس 1999.
سافر «هيكل» بطائرة خاصة أرسلها القذافى إلى مطار العلمين على الساحل الشمالى بالقرب من قرية «الرواد»، حيث يقيم هيكل فى بيته الصيفى، واصطحب معه الكاتب الصحفى عبدالله السناوى، الذى يكشف عن وقائع هذه الرحلة فى كتابه «أحاديث برقاش، هيكل بلا حواجز»، مشيرا إلى أنها استغرقت 16 ساعة، وعادا فى نفس اليوم بالقرب من منتصف الليل.
فى صباح اليوم التالى مبكرا، 18 يوليو، مثل هذا اليوم، 2010، اتصل هيكل من قرية «الرواد» بالسناوى للاطمئنان عليه، ويكشف «السناوى» أنه رغم ذكريات التاريخ التى غلبت على الجو العام فى اللقاء، إلا أن «القذافى» كانت لديه أسئلة فى الحاضر شغلته، ويؤكد: «اللقاء كله لم يكن للنشر، وكنت شاهدا مؤتمنا عليه»، وعملا بصون الأمانة يكتفى «السناوى» بذكر رؤوس الموضوعات التى أثيرت، ويعلق عليها دون الغوص فى تفاصيلها، مع شرحه لأجواء اللقاء.
فى حديث الذكريات استعاد القذافى بعض مشاهد اليوم الأول من الوصول إلى الحكم «الأول من سبتمبر 1969»، وحرص على أن يودع لدى هيكل شهادته الخاصة عليها فأهداه كتابا سجل فيه وقائعها، وكتب عليه بخط يده: «مع تحياتى وتقديرى للأخ محمد حسنين هيكل».
كان «القذافى» يرتدى بدلة خضراء نقشت عليها خريطة أفريقيا بصورة متكررة وفوقها عباءة بنية.. يعلق السناوى: «كان ذلك الزى من بعض تقاليعه التى استخدمت للإساءة إليه، والنيل منه ووصفه بالجنون، حسب الصورة التى ألح عليها الرئيسان «السادات»، و«مبارك» وقادة عرب آخرون.. يؤكد: «لم يكن مجنونا، فهذا محض هراء شاع، كانت له شطحاته التى تستعصى على التفسير، لكنه وظفها لما يطلب ويريد».
يدلل «السناوى» على ذلك بقوله إنه طرح سؤالا عليه حول الإحباط من أقواله وتصرفاته وسياساته الجديدة فى علاقته مع أمريكا، ورفعه لقضية ضد 34 صحفيا مصريا «كنت أنا كاتب هذه الزاوية واحدا منهم» فى ديسمبر 2003، لمعارضتهم إقدامه بعد احتلال العراق على القبول غير المشروط لتفتيش دولى عن أسلحة الدمار الشامل، والالتزام بالتخلص من أى قدرات تتيح لها إنتاج تلك الأسلحة وتدمير أى صواريخ تفوق المدى المعترف به أمريكيا، وتسليم أى وثائق عن برامج أو مشروعات لإنتاج أو حيازة أسلحة للمخابرات الأمريكية البريطانية.
لم يستفز القذافى مما سمعه، بتأكيد السناوى، مضيفا: «استمع إلى ما قلت كأنه لم يكن يعرفه»، وقال: «هل يعجبك الوضع العربى؟ وهل يعجبك حسنى مبارك الذى يعتبر القومية العربية موضة قديمة؟، على كل حال أدعوك إلى أن تذهب الآن لترى بنفسك الثمن الذى دفعناه فى مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية»، أشار بيده اليمنى إلى بيته المهدم، يعلق السناوى: «هكذا غير مسار الحديث، وهو رجل عود نفسه على التحدث فيما يريد لا فيما يطرح عليه».
سأله السناوى عما نشر فى ذلك الصباح عن صفقة الإفراج عن «المقراحى»، حيث أعلنت وزارتا الخارجية فى واشنطن ولندن أن شركة «بى. بى» البترولية العملاقة استخدمت نفوذها لدى اسكتلندا للإفراج عن المتهم الليبى فى قضية «لوكيربى»، فى صفقة وقعت بمقتضاها ليبيا عقود تنقيب عن البترول مع الشركة البريطانية العملاقة، وبإجابة مقتضبة قال: «نحن جاهزون»، قاصدا مواجهة أى احتمالات للتحرش العسكرى بليبيا.
يؤكد السناوى، أنه على عكس التصورات التى شاعت عن اندفاعاته التى لا تعرف سقفا أو حدا، بدا فى ذلك اليوم هادئا، يتحكم فيما يريد قوله، وإذا ما أفلتت العبارات فإنه يلفت الانتباه أن ذلك ليس للنشر، وعند بعض المحطات كانت إجاباته مقتضبة للغاية خشية أن يتورط فى تصريحات ملتهبة أمام صحفى ينشرها.
يضيف: «على طريقته الخاصة اللاذعة وصف القمة الثقافية العربية المرتقبة برئاسته بأنها شىء يدعو للسخرية، قائلا: «أى قمة ثقافية لهؤلاء الحكام الجهلة؟»، يكشف السناوى: «ما إن أفلتت عبارته بكل رسائلها التى قد تستتبعها مشاكل هو فى غنى عنها، حتى أدرك أن صحفيا يسأل، وأن النشر له عواقبه، نظر نحو الأستاذ هيكل، وكان أحمد قذاف الدم يتابع دون أن يتدخل، طالبا عدم النشر».
انتهى اللقاء، ويؤكد السناوى: «عند باب الطائرة كان آخر ما قاله «هيكل» لقذاف الدم، وهو يغادر طرابلس: «لن أرى ابن عمك مرة أخرى»، وكانت تلك نبوءة، ففى 20 أكتوبر عام 2011 وقعت جريمة اغتياله.