أشكال عدة تتخذها الدبلوماسية، بينما يبقى الطابع الرسمى طاغيا عليها، فى ظل ارتباطها بالعلاقات بين الدول، وهو ما يبدو فى استحداث العديد من المناصب، بين الحين والأخر، داخل أروقة المؤسسات الرسمية، والتي تبتعد أحيانا عن وزارة الخارجية في العديد من الدول، بينما يحمل أصحابها أدوارا معتبرة، على غرار منصب المبعوث الرئاسي لأزمة معينة، سواء في دولة معينة، على غرار اختيار وزير الخارجية الفرنسي السابق جان إيف لودريان، مبعوثا للرئيس إيمانويل ماكرون، في لبنان، أو لأزمات أكثر شمولية، تعاني منها مجموعة من الدول، أو ربما كل دول العالم، على غرار المبعوث الأمريكي للمناخ جون كيرى، وهما نموذجان يتبعان مباشرة مؤسسة الرئاسة في بلديهما، في الوقت الذي يحملان فيه أجندات ترتبط بصورة مباشرة بالعلاقات الخارجية، وتأثير دولتيهما في المحيط الدولي والعالمي، وهو ما يعكس أهميتهما بصورة كبيرة، في خدمة أجنداتهما الخارجية.
إلا أن وظيفة "المبعوث الرئاسي" ربما لا تخلو من الطابع الرسمي، الذي تتسم به الحالة الدبلوماسية في صورتها الكلية، ناهيك عن تبعيتها المؤسساتية للرئاسة، وهو ما يضفى عليها جانبا بروتوكوليا، لا يختلف كثيرا عن طبيعة العمل الدبلوماسي، وبالتالي يعجز أصحاب مثل هذه الوظيفة أحيانا عن كسر الجمود الناجم عن التوتر في العلاقات، أو تصلب المواقف الدولية تجاه قضية معينة، وهو ما يثير الحاجة الملحة إلى استحداث دبلوماسية جديدة، يمكننا نتسميتها بـ"دبلوماسية الظل"، تبتعد جزئيا عن "الرسمية"، بينما يمكنها تحريك المياه الراكدة في الملفات العالقة بين الدول، وهو ما من شأنه تمهيد الطريق أمام المؤسسات الرسمية استكمال الطريق نحو الوصول إلى حلول بإمكانها التحقق على أرض الواقع، عبر شخصيات مستساغة دوليا، لديهم من الخبرة والحنكة ما يؤهلهم لكسب ثقة الخصوم والحلفاء على حد سواء.
ولعل النموذج الأبرز في هذا الإطار، يتجسد في وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، والذي احتفل بذكرى ميلاده الـ100، قبل شهور قليلة، بينما مازالت لديه القدرة الكبيرة على تقديم رؤى واضحة تجاه دور بلاده على الساحة العالمية، وتقييم علاقاتها مع محيطها العالمي، سواء فيما يتعلق بالحلفاء أو الخصوم، في المرحلة المقبلة، وهو ما دفع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن نحو استثماره، في ظل ما يحظى به من تقدير دولي، وتاريخ دبلوماسي كبير، من شأنه استعادة قدر من القبول الذي باتت تفتقده الولايات المتحدة، سواء في إدارة الملفات الدولية، في إطار موقعها الذي مازالت تحتفظ به على قمة النظام العالمي.
وفي الواقع، تبدو حالة الزخم الكبير الذي حظت به زيارة كيسنجر الأخيرة للصين، دليلا دامغا على الدور المنوط به من قبل إدارة بايدن، في ضوء العديد من المعطيات، أبرزها دور بكين المتنامي على الساحة العالمية، وقدرتها الكبيرة على مزاحمة واشنطن في صناعة القرار الدولي، بالإضافة إلى توقيت الزيارة، والتي جاءت في أعقاب جولات من اللقاءات الرسمية، أبرزها على مستوى القمة، بين بايدن ونظيره الصيني شى جين بينج، في إندونسيا، والتي عقدت في إندونيسيا على هامش قمة العشرين، في نوفمبر الماضي، بالإضافة إلى الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين، إلا أنها فشلت جميعها في الوصول إلى صياغة معتدلة للعلاقات من جانب، أو المواقف تجاه القضايا الدولية البارزة، على رأسها الأزمة الأوكرانية من جانب آخر.
وفى حالة كيسنجر، يبدو أن الرجل يمتلك من القدرة على تقديم الرؤى والمواقف "غير المعلنة" لبلاده، والتي تحمل قدرا كبيرا من المرونة، مقارنة بالخطاب الرسمي، باعتبارها "شخصية"، بحيث يقدم نفسه كـ"وسيط" غير رسمي، بين الإدارة والأطراف الأخرى، بحكم علاقات الوطيدة مع المسؤولين في كل أنحاء العالم، أكثر منه كـ"مبعوث"، وهو ما يمثل وجها جديدا في مفاهيم "الوساطة الدولية"، والتي تعتمد طرفا ثالثا، يمكنه الوصول بأطراف الأزمة إلى حلول.
وللحقيقة، تحمل "دبلوماسية الظل" العديد من الأوجه، ربما تمكن كيسنجر من ارتدائها في الشهور الأخيرة، لا تقتصر على زيارات أو لقاءات مباشرة، وإنما تجسدت في أراء أطلقها في الفضاء الإلكتروني، عبر الحديث عن أزمة أوكرانيا وانتقاده لانضمامها إلى أوكرانيا، ثم تراجعه بعد ذلك، بحسب المواقف والظروف الدولية، وهي الرؤى التي لا يمكن اعتبارها ذات إطار "رسمي"، بينما تمثل في حقيقة الأمر "حجر في المياه الراكدة" يمكن من خلالها قياس ردود الأفعال الدولية، والبناء عليها في الإطار الدبلوماسي "الرسمي".
وهنا يمكننا القول بأن "دبلوماسية الظل"، تبدو أحد أوجه الدبلوماسية الجديدة، التي يمكن من خلالها القيام بأكثر من دور، من بينها قياس المواقف قبل اتخاذ القرارات، بل وقد تمتد إلى تقديم وجه جديد لـ"الوساطة" الدولية، بعيدا عن انغماس أطراف أخرى، على خط الأزمات الدولية، ناهيك عن كونها ورقة مهمة للاحتفاظ بحد أدنى من العلاقات مع الخصوم، بحيث يمكن من خلالها تحقيق التواصل، وكذلك مدواة ما تفشل الدبلوماسية "الرسمية" في علاجه.