برع المصرى القديم في الفن وقد تمثل ذلك في بعض الصور المنحوتة في العاج أو على الأحجار الصلبة كحجر البازلت وغيره، وكذلك في صنع بعض أوان من الفخار والأحجار الصلبة مما يدل على ذوق سليم، ولكن أمارات الفن الصحيح بدأت تظهر في أوائل عصر الأسرات وأخذت في التدرج والرقي بخطوات واسعة، حتى بلغت أوجها في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة، ومن بين الفنون التي برع فيها المصريين القدماء فن العمارة، وما نستعرضه هو بداية انتشار المباني باللبن ومتانتها.
وفى هذا الشأن تقول موسوعة مصر القديمة للدكتور سليم حسن، لم يبق لنا الدهر من مباني هذا العصر الدنيوية شيئًا يذكر، ولذلك تنحصر كل معلوماتنا عن المباني فيما بقي لنا من مبانيهم الجنائزية من قبور ومعابد وهياكل وغيرها، ولحسن حظ التاريخ أقام المصريون هذه المباني على حافة الصحراء بعيدة عن مياه الفيضان، ولذلك بقيت لنا محفوظة حتى عصرنا هذا في الوجه القبلي مما لم توفق إليه أمة أخرى في العالم.
أما مبانيهم الدنيوية فكانت على العكس تقام في وسط المزارع من اللبن، ولذلك كان اختفاؤها محتمًا، لعدم صلابة المادة التي تبنى منها أولًا، ولتعاقب المدنيات ثانيًا، وكان ظهور أول مميزات واضحة في فن المعمار المصري، في خلال الأسرتين الأولى والثانية، انتشار استعمال اللبن في إقامة الجدران وصنع الأبواب والعمد والسقف من الخشب، وهما المادتان اللتان كانتا في متناول المصري في ذلك العصر، ولا غرابة في ذلك، فطمي النيل الذي كان يخلط ببعض مواد أخرى وخاصة التبن كان صالحًا لعمل قوالب من اللبن صلبة، قاومت عدة آلاف من السنين كما يشاهد ذلك في مدن الأهرام المكشوفة حديثًا، إذ نجد أن القالب منها يبلغ طوله أحيانًا نحو 45 سنتيمترًا في عرض 25 سنتيمترًا ولا يزال باقيًا على حالته.
وقد لقيت إقامة المعابد باللبن تقليدًا متبعًا في كل عصور التاريخ المصري، وذلك لأن المصري كان بطبعه محافظًا، كما ذكر الدكتور سليم حسن، يضاف إلى ذلك أن طبيعة البناء باللبن في جو حار كجو البلاد المصرية لا يمتص الحرارة بسهولة كالأحجار الصلبة، وربما كان ذلك من أهم الأسباب التي جعلت المصري العادي ـ بل الملك أيضًا ـ يحافظ على إقامة مبانيه الدنيوية باللبن، وقد لاحظ المصري هذه النظرية، أي أن اللبن موصل رديء للحرارة في أمور طبقها هو بنفسه، وذلك نجد في مقبرة العظيم "رع ور" أنه قطع لنفسه مائدة قربان عظيمة من المرمر ووضعها في مقبرته، ولكنه لاحظ أن تعرضها لحرارة الشمس يجعل حجرها يتفتت، فأحاطها بقوالب من اللبن فبقيت محفوظة لنا للآن، أما الجزء الذي تداعى من حوله اللبن فقد وجد مفتتًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة