سألتني مذيعة الراديو أن أدلي بدلوي وأقول رأيي فيما يخص عبارة "الجمهور عايز كدة"، وهل هي حق يراد به باطل؟ وإلى أي مدى ترتبط أفلام العيد بهذه العبارة؟ هل الجمهور "عايز" أفلامًا خفيفة خالية من المضمون، "على حسب تعبيرها"؟..
تعثرت برهة قبل أن أجيب، فالتقييمات المستقرة والثابتة عن الظواهر السينمائية، هي بالنسبة لي مجرد فخ يبدد الكثير من الوقت على خلفية اطمئنان سهلة، تعبر بشكل سطحي عن الحالة الفنية والتجاوب معها، وتكاد تنفي تأثرها بمجتمعها قبل تأثيرها فيه، ربما يرى أغلب النقاد، ونظرتهم قد تكون صحيحة إلى حد كبير، أن مقولة "الجمهور عايز كدة" مغرضة، وأن المنتجين يروجون لها بنوع من التعامل مع الفيلم السينمائي كـ"سلعة" تجارية، وأن هذا يعد إنعكاسًا صارخًا لواقع صناعي وفني وثقافي هزيل، تسوده الخفة والإستسهال على نحو سطحي وفج لا يهتم بقضايا الناس أو بالقضايا الفنية والإبداعية، ويسعي فقط ليكون وسيلة ترفيهية لجمهور يصنعونه حسب مقاييس ثقافة اللهو، أو لو شئنا الدقة أكثر إنهم يرضخون لثقافة الهروب التي لا تعترف بالقيم والجماليات الفنية، وتجد في الدعابات والتيمات الكوميدية المكررة فرصة لتحقيق الربح المادي الذي قد ينعش جيوب المنتجين، لكنه لن يصنع مجدًا سينمائيًا ولن يخصص على المدى الطويل مكانة حقيقية لهذه النوعية من الأفلام سواء في ذاكرة الجمهور أو في تراث السينما.
كما أسلفت فإن هذا الرأي فيه قدر من الصحة وهو رأي يُعتد به ويُحترم، بما فيه من حماس صوب العملية الإبداعية، لكنه في ذات الوقت يجب أن نتأمل العملية من كامل جوانبها وأنها تتفاعل مع مجمل العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية المحيطة والحضور الإنساني الذي تنتمي إليه، لتصوغ نفسها وتتشكل وتتغير وفق زمنها وواقعها وكذلك جذورها الممتدة من الماضي إلى اللحظة الراهنة إلى المستقبل، كما يتطلب أن نأخذ في الاعتبار وننتبه للقاعدة المهمة التي ترسخ للسينما، بوصفها أيضًا صناعة وتجارة إلى جانب الفعل الإبداعي.
نظرة واحدة لأفلام عيد الأضحى تكفي لتؤكد لنا أنه مجرد موسم آخر من مواسم الكوميديا، وقد يردد بعض الظرفاء أن الفارق بين الموسم الحالي وبين أي موسم آخر يشبه إلى حد كبير الفارق بين نوع من المياه الغازية وآخر، أي أنه مجرد فارق شكلي، الأفلام كوميدية بحتة وهي جزء من الموجة السائدة منذ سنوات طويلة، بالأحرى هي تميمة الحظ في السينما المصرية، من كوميديا النجم والموضوع المعاصر كما في "بيت الروبي" إخراج بيتر ميمي، أو النجم الذي يغير مساره من الأكشن إلى حكاية تتماس مع الكوميديا مثل أمير كرارة في "البعبع" إخراج حسين المنباوي، أو محاولات صنع البطل الخارق في إطار هزلي كما قدمه تامر حسني في "تاج" إخراج سارة وفيق، إلى الكوميديا الفارس الذي يتصدرها أحمد فهمي في منافسة شرسة بفيلمه "مستر إكس" إخراج أحمد عبد الوهاب.
حسنًا، فهذا ملمح لا يمكن إنكاره كما يصعب أن نلحظ التنويعات داخل القالب الكوميدي، وهي تنويعات تتبع اللحظة المعاصرة وثقافة التلقي التي خرجت بمُشاهد السينما الجديد من محراب دار العرض الواحدة المهيبة إلى زحام "المول" ومطاردته بإلحاح التسوق والتشتت الإعلاني، إلى الفرجة على المنصات الإليكترونية، والإختيارات الجاهزة والسهلة المستمدة من زمن الـ "أوبشن" حسب لغة الكومبيوتر، وإن كانت ثمة مشكلة تتعلق بالكتابة التي تحتاج تعميقًا أكثر سواء في التقاط الفكرة ورسم أجواء الفيلم وشخصياته، ومن هذه النقطة يبدو فيلم "بيت الروبي" مع الكريمين: كريم عبد العزيز وكريم محمود عبد العزيز، هو صاحب الحظ الأوفر من نواحي عدة سواء في إمكانياته الإنتاجية أو تحقيقه أعلى الإيرادات، حيث يرتسم فيه الحس الكوميدي الانتقادي الساخر الحاد والمبطن في وقت واحد. فهو، إلى جانب المواقف الملتبسة بين الضحك المبسط ومرارة الواقع، وانهيار القيم، يذهب بعيدًا في التعاطي مع أمور الحياة اليومية في التفاصيل كلها التي ترتبط بالقيم الحقيقية التي تعني الإنسان وحريته الفردية وضوابطه الأخلاقية.
للوهلة الأولى، قد يجد المُشاهد نفسه أمام عمل سينمائي عادي، يسعى صانعوه إلى إضحاك الجماهير، وحثهم على السخرية، لكن مع بعض التركيز يُمكن مشاهدة الفيلم بمستويين اثنين: إما من الجانب الكوميدي البحت، وإما من جانب الرغبة في رؤية صورة عن واقع بائس وموغل في حماقته، وفي الحالتين يصعب فصل المسحة الكوميدية الخالصة، فالصورة الأشبه بالكاريكاتير المثير للضحك والسخرية التي رسمها الفيلم، تشير هواجس مجتمع تتشابك فيه الأمور، وإن كنت مازلت عند رأيي بأن الفكرة جيدة وكذلك حضور ممثلين على قدر كبير من الموهبة وبراعة التمثيل والنجومية والتألق الإبداعي، بما يتناسب والشخصيات المطلوبة منهم، لكن السيناريو إحتاج إلى أبعاد أكثر تركيزًا في تقديم لغة سينمائية منسجمة التفاصيل، مع تقدير للون الكوميدي.
الكوميديا إذن، مازالت هي المشتهاة جماهيريًا، على الرغم من توفرها بألوان شتى، وهو ما يثير الدهشة ويجعلنا نتوقف عند نقطتين مهمتين: أولهما يتعلق بصناعة الصورة الكوميدية والاحتياج إلى أعمال مبتكرة يؤمن صانعوها بأهمية التجديد الإبداعي وضرورته، أعمال لا تتجاهل الواقع الإنساني، وتكتفي بتقديم إنتاجات مسرفة في إثارة الضحك فقط.
أما النقطة الثانية فترتبط بالذوق السينمائي السائد والنفوس المتعطشة إلى ضحكة حقيقية بعيدًا عن واقع ضاغط سواء بالحروب أو الأمراض والأوبئة أو الأزمات الاقتصادية، وهنا لابد من الالتفات إلى ما تعيشه السينما المصرية من اضطرابات في السوق لأسباب متعددة ومركبة، تتعلق بظروف الصناعة خارجيًا وداخليًا، وما تلاها من تغيرات مزاجية كبيرة، خصوصًا مع انفتاح السوق السعودية التي أصبحت نافذة واسعة لعرض الفيلم المصري، الذي حقق بدوره إيرادات كبرى، وإذا كان "بيت الروبي" يتصدر إيرادات شباك التذاكر السعودي مؤخرًا، فقد سبقته أفلام في مواسم سابقة، حيث كان فيلم "وقفة رجالة" إشارة انطلاق موجة الأفلام المصرية التي حققت أعلى الإيرادات سعوديًا، منها: "مش أنا" تأليف وبطولة تامر حسني وإخراج سارة وفيق، "ماما حامل" إخراج محمود كريم، ثم تلاها " من أجل زيكو" إخراج بيتر ميمي، "عمهم" إخراج حسين المنباوي في موسم 2022.
الملاحظ أنها جميعًا أفلام كوميدية، وهذا مؤشر أخر لطبيعة الموضوعات التي يطلبها المزاج الجماهيري، وكذلك لنوعية النجوم الذين يتعلقون بهم، بما يعني حكايات خفيفة ومضحكة، وممثلون يأتلف معهم جمهور بفئاته العمرية والثقافية المتجددة، بل أن الإنتاج السعودي خطا نحو الكوميديا بأفلام أثارت الدهشة في التهافت الجماهيري عليها، هذا ما حدث مع "سطار" إخراج عبد الله العراك، و"الخلاط" إخراج فهد العماري، فيلمان سارا على نهج السينما المصرية وأسلوبها إلى حد كبير، فالشكل مصري والمضمون سعودي، والجميع يعمل وفق متطلبات السوق، وبطريقة تعيد صياغة تطلعات المنتج والفنان والمتلقي وفق أسلوب جديد للعرض والطلب أزعم أنه لا يزال يسيطر حتى الآن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة