حازم حسين

قارة سمراء بذاكرة دامية وقلب أبيض.. القمة الروسية وسباق الكبار نحو أفريقيا

الأحد، 30 يوليو 2023 02:46 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عاد الأفارقة إلى سان بطرسبرج بعد 6 أسابيع تقريبًا. فى الزيارة الأولى حملوا هموم العالم عبر مُبادرة وساطة من عشرة بنود لإنهاء الحرب الأوكرانية، وفى الثانية يحملون شواغلهم وقضايا قارتهم إلى ثانى جولات القمة الروسية الأفريقية. عمليًّا لا يختلف المشهدان رغم اختلاف العناوين؛ إذ ما تزال القارة السمراء الأكثر تأثّرًا بالنزاعات الدولية وتشاحن القوى الكبرى، والأقل حظًّا من برامج الشراكة والتعاون، ولا تصلها كثير من رياح المنفعة التى تجوب العالم وتُلطّف بين وقت وآخر من سخونته الصاعدة. تاريخ أفريقيا الطويل مع الاستغلال، ومعاناتها من الإمبريالية ماضيًا والوصائية حاضرًا، وحاجاتها الكثيفة للتجارة والاستثمار ونقل المعرفة، تفرض جميعًا أن تنتهج مسارًا انفتاحيًّا على الجميع، وألّا تصطفّ إلا بقدر ما يُحقّق مصالحها ولا يُفقدها ثراء التشابك مع كل الأطراف. إنها تجتهد فى إنجاز ذلك بنضجٍ وإخلاص؛ لكن لا تخلو الحالة من مُنغِّصات.
 
لو صحّ ما قالته موسكو، وتكرَّر على ألسنة عدد من مسؤوليها، بأن الغرب مارس ضغوطًا قاسية على كل دول القارة لإجبارها على مُقاطعة الحدث؛ فلعل تلك واحدة من المُنغّصات المقصودة. فى القمّة الروسية الأفريقية الأولى، التى استضافتها مدينة سوتشى بالعام 2019، حضرت كلّ القارة من دون استثناء، وشارك 43 من القادة. النسخة الثانية تقلّص عدد الرؤساء، وغابت عدّة دول وخفَّضت غيرها التمثيل إلى مستوى الوزراء والسفراء. قد تكون فى ذلك إشارة واضحة عن حجم المقاومة الغربية للقاء بطرسبرج، ومساعيهم لإفشاله أو تجفيف فاعليته لأقل منسوب مُمكن، وربما لا يكون ذلك انطلاقًا فقط من رؤيته كمناورة روسية ضد العقوبات، أو فُسحة سياسية واقتصادية يضطلع فيها الأفارقة بكسر الطوق عن عنق بوتين.. للأسف ما يزال ورثة «الذنب الأخلاقى» تجاه القارة يعتبرونها حديقة خلفية، ولا يقتنعون أن بمقدورها أن تستقل عن رغباتهم، أو تلعب لصالحها بمعزلٍ من حساباتهم الخاصة.
 
جعجعة من دون طحن
 
يُطوّق الغرب وحلفاؤه القارة من كل جانب، تحت لافتات قِمَم ثنائية ومُوسَّعة للاقتصاد والتنسيق السياسى: «الفرنسية الأفريقية» التى بدأت قبل خمسين عامًا، وعُقدت دورتها 28 فى مونبلييه 2021 باستبعاد القادة ومُشاركة نخب ثقافية ومالية وروّاد أعمال، و«الأوروبية» التى استضافت بروكسل دورتها السادسة 2022 بعد تأجيلها عامين، و«الألمانية» مع مجموعة العشرين وعقدت ثلاث دورات آخرها برلين 2019، و«الإيطالية» التى تستعد لثالث جولاتها فى روما نوفمبر المقبل، و«البريطانية» التى بدأت 2020 وتستعد للتجدُّد العام المقبل، ونظَّمت بينهما مُؤتمران افتراضيان 2021 و2022، و«الأمريكية» وكانت دورتها الثانية فى واشنطن خلال ديسمبر الماضى، و«تيكاد» اليابانية واستضافت تونس حلقتها الثامنة فى 2022. كل تلك العناوين وما تزال أفريقيا فقيرة، وشراكة هؤلاء جميعًا معها أقل من الميزان التجارى بين أى بلدين منهم. يطيب لهم تعبئة القارة فى كأسٍ بمقدار شَربة واحدة، دون اهتمام بقضاياها الجادة وأزماتها العميقة، وأغلبهم يعرفونها جيّدًا؛ لأنهم خلقوها وما زالوا يستثمرون فيها حتى اللحظة، لكنهم بدلاً من سدّ الثغرات وإغناء الشريك المريض، يثورون لو بحث عن الدواء فى صيدلية أخرى. هكذا سعوا لإفشال خطّ روسيا الأحدث، ويُعلنون تذمُّرههم دائمًا من حضور بكين فى القارة، ومن مسار «القمة الصينية الأفريقية» طوال دوراتها الثمانية حتى نسخة السنغال 2021.
 
المُعلن أن أفريقيا شريك محورى فى رهانات كل الأطراف، والمُضمَر أنها موضوعٌ للنزاع فيما بين الخصوم والأصدقاء على السواء. يمكن أن نلمس التنافس الخشن بين واشنطن وباريس، كما تتنافس أجندات التكامل والتنمية والمغانم الأفريقية داخل مجموعة السبع. صحيح أن لكل بلد مصلحةً اقتصادية لا يُمكن إنكارها؛ لكن أمور السياسة ما تزال أكثر تقدُّمًا. عندما شقَّت الهند مثلاً طريقها إلى القارة بمُنتداها الاقتصادى فى 2008، وعقدت ثلاث دورات حتى 2015، كانت فى الواقع تنقل مواجهتها الحدودية والعسكرية والاقتصادية مع الصين إلى ساحة جديدة، وكذلك كانت خطوة روسيا فى أحد وجوهها.. وعندما فكّك «الناتو» وحدته الأطلسية الجامعة فى حروب الشمال إلى خطوط مُباشرة، تصل كلًّا من لندن وبرلين وواشنطن وروما على حدة بالجغرافيا الأفريقية، لم يخل ذلك من تناقضٍ فى الرؤى، أو «صراع بَينى» خارج مظلَّة المواجهة مع موسكو وبكين. حُمَّى القِمَم واللقاءات، مُقابل بطء المسيرة وفقر الحصيلة؛ يُشيران إلى أن ما يرجوه الأفارقة غير ما يسعى إليه شركاء الخارج، وأن النظرة ما تزال قاصرةً والحاجة ماسة إلى تحرير القارة من مفاعيل الاستقطاب والمُكايدة وقطع الطرق فى «قِسمة الغُرماء» الدوليين.
 
استعادة زمن الحياد
 
لا تُحب أفريقيا لعبة المحاور، ولا تستطيب التورُّط فيها؛ بينما يجتهد الجميع قصدًا أو باعتباطٍ لدفعها إليها، واستنزافها فى مُكاسرةٍ لم تفتتح أسبابها ولا تملك قدرة إنهائها. عندما انطلق «عبد الناصر» ولحقه «نكروما» قبل أكثر من ستة عقود على مسار عدم الانحياز، من باندونج إلى بلجراد، ومعهما تيتو ونهرو وسوكارنو عن الشِّقّ الآسيوى؛ كانوا يعلنون مُقاطعة صراع الأحلاف والمواجهات الساخنة والباردة، ويُجاهرون بالحياد ترفُّعًا عن معارك لا مغنم لهم فيها، ولا استعداد أو طاقة ليتكبَّدوا مغارمها. وعندما أعدّ قادة القارة مُبادرة وساطة لإنهاء الحرب الأوراسية الدائرة؛ كانوا يُجدّدون حيادهم على قاعدة صافية من الشوائب واعتبارات السياسة، حتى أنهم اختاروا «كييف» محطَّةً أولى قبل روسيا. الرئيس زيلينسكى لم يكن يملك القرار عمليًّا، بقدر ما يرتهن لإرادة شُركاء يتّخذون منه منصّة مُتقدّمة فى مواجهة الروس، فرفض الخطَّة انطلاقًا من حدودٍ صراعية رسمها الغرب والناتو منذ البداية، وقتما قال جوزيب بوريل ويانس ستولتنبرج إن أوكرانيا مدعوَّة لإنهاء النزاع فى ميدان القتال، وتقاطرت الأسلحة والذخائر حتى ما كان مُحرّمًا منها، وقد جدَّد القادة الأفارقة مُبادرتهم من قلب روسيا، وفى حدثٍ يُفترض أنه يُعبّر عن صلة عميقة تجمعهم بموسكو، ما يضع التجرُّد ومُقاومة الاصطفافات رغبةً أولى وثابتة فى الرؤية السمراء، وكل من يسعون إلى الوصل بالقارة يتعيَّن عليهم أن يستوعبوا الرسالة، وألَّا يتمادوا فى محاولات الإخضاع بالإملاء، أو التوظيف بالوكالة تحت لافتة المنفعة؛ لا سيما أن حقول المُتحاربين تزدهر رغم الحرب، وصوامع أفريقيا ما تزال خاويةً بعد كل الرسائل والوعود الوردية ومواسم الحصاد التى قالوا إنها هادئة ومثالية.
 
لو كان الانحياز مُمكنًا ومقبولاً؛ فالأولى أن يصطفّ الأفارقة فى الضفّة المُعاكسة للغرب. لا يُعرف للصين ماضٍ استعمارى فى القارة أو وجود عسكرى طامع عبر ساحاتها الساخنة، وقد ساندت روسيا «باعتبارها وريث الاتحاد السوفيتى» حركات التحرُّر وثورات الاستقلال؛ بينما كانت أوروبا سبب المحنة الأفريقية المُمتدة، وتربَّحت الولايات المُتحدة من نزح الثروات والبشر عبيدًا مُقرنين فى الأصفاد، وتجارب الاصطفاف المؤلمة فى الحروب الكونية وصراعات الكبار أجبرنا عليها الأُوروبيون لا الآسيويون، فمات من مات من المخطوفين لخدمة جيوش الاحتلال، وزُرعت الأرض بالألغام ونُهِبت الموارد لتمويل المغامرات الخرقاء. لو كان على طرفٍ أن يشكر حياد أفريقيا ويُشجّع عليه؛ فالغرب أول المُستفيدين، ليس انطلاقًا من ماضيهم الأسود على امتداد جغرافيا القارة فقط؛ إنما لأن خبرتنا الحديثة معهم ما تزال مُؤلمة ودامية، وقد كان حلف الناتو ذراع الخراب التى أطاحت ليبيا قبل سنوات غير بعيدة.. خطاب القيم فى مواجهة روسيا؛ إن فى تاريخها السوفيتى أو حاضر غزوتها الأوكرانية، قد لا يصمد بالنظر إلى ماضى أوروبا الاستعمارى بامتداد العالم، وأفريقيا على وجهٍ خاص، ولا نزوات أمريكا فى كوبا وفيتنام وأفغانستان والعراق وسوريا. إذا تساوى الخصمان فلا وجاهة فى رفع اللافتة الأخلاقية، ولا فى محاولة الغرب تجييش الحُلفاء على قاعدةٍ كان أوَّلَ مُنتهكيها. نحن بصدد مُواجهة «لا أخلاقية» وقودها الدعاية وغايتها الهيمنة والانفراد بالكوكب، وفى تلك الغنيمة المُبتغاة مَشقّةٌ تخصُّ أصحابها، ولا تُلزم غيرهم.
 
حرب على موائد الفقراء
 
فى مُبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب، صدَّرت أوكرانيا نحو 32 مليون طن طوال عام. تقول الأمم المُتحدة إن تلك الكميات وصلت لـ45 دولة فى ثلاث قارات، وتُؤكّد روسيا أن 70% منها أفادت الأغنياء ومُتوسِّطى الدخل فى أوروبا وغيرها، بينما وصل الفتات لبرنامج الأغذية العالمى ولم تتجاوز حصَّة عشرات الدول الفقيرة فى الشرق الأوسط وخارجه 3%، بأقل من مليون طن. أُلغيت المُبادرة بعدما عطّل «ناتو» الشق الخاص برفع العقوبات عن الحبوب والأسمدة الروسية، أو هكذا قالت موسكو، والآن يتحدّثون عن تصدير الإنتاج الأوكرانى برًّا من خلال دول الحلف اللصيقة، أو عبر موانئ البلطيق على أن يُموّلوا فارق التكلفة، وفريق ثالث يحشد لتفويتها تحت حماية الحلفاء ولو اشتعل البحر الأسود. رفاهية أن تتحوَّل قضية مُلحّة مثل الغذاء إلى فرع من المواجهة العسكرية، تُسقِط أيّة أحاديث عن الإنسانية والتنمية وإسناد الفقراء والجوعى. ومحاولة بناء تحالفات خارج تلك الاعتبارات إنما تُنتج احتلالاً يغتصب قرار الحكومات، وليس شراكةً تُثمر علاقات مُتكافئة وتنميةً ضامنة لاستبقاء المودّة والفاعلية الإيجابية.. ربما لهذا كانت مناورة «بوتين» أقل خشونة، فقدَّم رؤيته فى مقالٍ عبر موقع الكرملين قبل أيام، ثم فى كلمته أمام القمة الأفريقية، مُطلّاً بجسده المُثخن بجراح الحرب من تحت لافتة أخلاقية؛ ليُدين ممارسات الغرب ويعلن استعداد بلاده لضخ الحبوب تجاريًّا أو بصيغة المساعدات المجانية، وشرح بالفعل تفاصيل خطّة تُغطّى 6 دول أفريقية لعدة شهور، بتدفُّقات بين 25 و50 ألف طن قمح لكل بلد.
 
عُقدت قمة سوتشى أواخر 2019، وكان مُقرّرًا أن تتبدَّل الجولات بين روسيا وإحدى الدول الأفريقية كل ثلاث سنوات؛ لكنها تأخّرت سنة بسبب الحرب، ثم عُقدت فى بطرسبرج لا أفريقيا؛ ربما بسبب مذكرة التوقيف الدولية، وحرج أن يزور الرئيس بوتين أية دولة مُلتزمة بميثاق المحكمة الجنائية، كما جرى مع جنوب أفريقيا فى ترتيبات قمة بريكس المرتقبة. حصيلة القمّة السابقة أقل من الوعود، فقد كان مأمولاً الوصول بالتجارة لـ40 مليار دولار؛ لكنها لم تتجاوز 18، وكثير من الاتفاقات وبروتوكولات التعاون وئيدة الخطو أو لم تُفعَّل أصلاً، وقد لا تكون الدورة الثانية أوفر حظًّا؛ بالنظر إلى السياقات الاستثنائية للحرب والاقتصاد. اهتمام روسيا، وسط محنتها العميقة، بتعجيل انعقاد القمّة وتأمين أوسع حضور ممكن فيها إنما يُشير إلى بُعدٍ سياسى، يتوسَّل بأفريقيا أن تكون دفعةً معنويّةً وبابًا لكَسر الحصار، وهذا مما لا يُمكن إنكاره، وضغوط الغرب من أجل إفشالها أو تفريغها من المضمون وزخم الحضور، تُؤكد قراءته المنزعجة لأهمية الحدث، وهذا أيضًا خارج الإنكار. بين الرهانين؛ سيكون الرابح من يعمل مع القارة بجدّية ونوايا مُعلَنة، ومن يُقدّم إفادةً حقيقية تتجاوز استهلاكية التوظيف السياسى وسيولة الخطابات المجانية.
 
عبء تذويب التاريخ
 
ترزح أفريقيا فى سلاسل مُعقّدة من الديون والأعباء، وللأسف فإن أوروبا والمنظومة الغربية كانت الحدَّاد الذى صنع تلك القيود وأحكم إغلاقها، وهى قادرة على تحرير القارة منها؛ لكنها لا تريد على ما يبدو.. حتى لو كانت وعود روسيا تفوق قدراتها، وعطاياها أقل ممّا تتحدَّث عنه؛ إلا أنها تتفوَّق فى جَردة حساب الماضى، ولا تحمل أوزارًا مُركّبة عن سوء سياسات الحاضر، وكذلك الصين؛ ولا يصح أن تنطلق المُنافسة مع القطبين الصاعدين من تغافلٍ صريح عن امتياز الطهرانية وفوارق التاريخ. حتى الآن لم يستوعب الغرب أنه مُطالبٌ ببذل جهد مُضاعَف لتسديد الفواتير القديمة، والاعتذار عن انخراطه المُنفلت حتى اليوم فى البيئات الأفريقية المُتوتَرة. اللعب بمنطق الربح المضمون، أو الوهم بإغناء السطوة و«العين الحمراء» عن ضرورات الدعم والمساندة وخطط التنمية الجادة؛ لن يُحقّقا للمُحتلّين القدامى ما يُريدون؛ بل لعلهما يُعزّزان أجندات مُنافسيهم من القوى الصاعدة وخصوم الماضى الكبار.. يحدث ذلك بشكل ما فى مالى والنيجر وغيرهما من دول الساحل، وتشكو فرنسا ممّا تقول إنه نشاط روسى مُبرمج لضرب حضورها الأفريقى، ولا تخلو ساحات السودان وأفريقيا الوسطى وبعض نطاقات الشرق والغرب من مماحكات شبيهة؛ ليس نشاط موسكو وبكين سبب اهتزاز مراكز الأوروبيين والأمريكان فى تلك البيئات؛ إنما عجز الأخيرين عن قراءة التحولات وواقع القارة الجديد، وبَذل ما يُحصّن لهم فرص الشراكة على قاعدة ندّيةٍ، مُتحلّلة من خبرات الماضى الذى لم يعد قائمًا ولا قابلاً لإعادة الإنتاج، ومُتصالحةٍ مع تعقيدات الواقع التى تنمو وتتطوّر لحظيًّا، ولا يتسبَّب التقاعس عن مواكبتها إلا فى توسعة الهُوّة يومًا بعد آخر.
 
عمليًّا، قد لا تملك موسكو الكثير كى تُقدّمه للقارة. الاقتصاد الروسى يصعب عليه أن يكون رافعةً لـ54 بلدًا، لديها جميعًا احتياجات عاجلة وطموحات تنموية لا تفريط فيها، كما أن الحرب الدائرة تُرتّب ضغوطًا والتزاماتٍ تُعوّق قدرتها على الحركة والمناورة، والعقوبات تقطع عليها خطوطًا عديدة مع الأسواق والنظام المالى. حضور ميليشات «فاجنر» فى بعض الساحات محلُّ مآخذ عديدة، لا سيّما مع أدوارٍ سلبية فى أزمات ليبيا والسودان ومالى وأفريقيا الوسطى. يُمكن أن تتحلّل موسكو منها وتنفى مسؤوليتها عن أنشطتها فى التعدين ونقل السلاح والذهب، أو تدريب وتمرير المرتزقة والمُقاتلين؛ لكن ذلك لن يُسقط الملاحظات بالكامل، ولن يلغى ضرورة البحث عن وسائل أخرى لمنافسة الوجود العسكرى لأمريكا وفرنسا واللاعبين إلى جوارهما. ورغم تلك التعقيدات الواضحة ينزعج الأُوروبيون من تعميق «بوتين» لقنوات اتصاله مع الأفارقة؛ لا سيما أن الغريم الصينى يسبق الطرفين بخطوة، وكل اقتراب مع الشرق قد يعنى ابتعادًا عن الغرب، هكذا يفهمون المُعادلة فى إطار ثنائية سطحية، حدّية وغير ناضجة؛ حتى لو قالت أفريقيا نفسها إنها لا تلعب لصالح أحد، ولا تنفض يدها من شراكة أحد، وجاهزة دائمًا للعمل مع الجميع فى إطار المصالح المشتركة وتوازن المنفعة المُتبادَلة.
 
اغتنام الفرصة الأفريقية
 
لدى القارة الكثير ممّا يُمكن أن تُفيد به العالم، وتحتاج منه الكثير أيضًا. موازين التجارة مائلة لصالح القوى الكبرى، وما تزال تتفلّت من تعهُّداتها بشأن المناخ والتحوّل الأخضر واستدامة خطط التنمية، ويجب أن تتضمَّن برامج التعاون نقل التقنيات وتطوير الإنتاج وتمكين صادرات القارة، وتعويضها عمّا فات تحت الاحتلال أو نهب الثروات أو الانفراد بالبيئة والموارد والأرباح. وقبل كل ذلك إخراجها من دائرة الاستقطاب والعودة عن مساعى توظيفها «عصًا غليظة» فى وجوه الخصوم.. روسيا تستشعر مرارة الخداع من أصدقاء الحرب ضد النازية، ومن «الناتو» بعد عقود التعهُّد بعدم التمدُّد شرقًا، وبعد خرق «اتفاقات مينسك» واتّخاذها ستارًا رماديًّا لكسب الوقت وشَحذ قدرات أوكرانيا العسكرية، والغرب يحارب عقارب الساعة ويتوجَّس من سحب البساط لصالح موسكو وبكين. إننا إزاء وجهٍ صراعى عريضٍ، لا يقبل القسمة على اثنين فى ظاهره، ولن يُحسَم بيُسرٍ فى المدى القريب، وما يعنينا ألا تُفرَض شُروط الصراع على أفريقيا أو فى العلاقة معها؛ لأن ذلك لا يُعطّل التعافى من جروح الماضى فحسب؛ إنما يُراكم فوقها طبقاتٍ إضافية من الندوب والصديد. ما يحدث فى السودان والقرن الأفريقى، وفى ليبيا والساحل، وما يتصاعد من استثمار فى الفوضى وفوائض «القوَّة الميليشياتية» المُنفلتة، لا تنفصل جميعًا عن معارك الأقطاب، المُتراجعة أو المُتقدّمة، وحان الوقت لأن يُصفِّى المُتعاركون حساباتهم خارج بيئات طالما كانوا سبب مُعاناتها واكتوائها بالنار.
 
مخرجاتٌ مهمّة أفرزتها قمة بطرسبرج، تضاف إلى ما تبقَّى خارج التطبيق من مُقرّرات سوتشى، هذا ما يخص روسيا. الغرب عليه ديون مُعلَّقة عن كل القِمَم السابقة فى لندن وواشنطن وبرلين وباريس، وكذلك ما يخص تيكاد وبكين ونيودلهى، وهى عناوين تخصّ أطرافها أيضًا؛ أما أفريقيا فمَعنيّةٌ بكل تلك البرامج بالتساوى، لا تنشغل بمباريات الملاكمة السياسية المُشتعلة بين الشركاء، فرادى وجماعات؛ إنما ما يعنيها أن تحصد نقاط الاقتصاد من الجميع. إن أصدقاء القارة وأعداءها يتحدَّدون وفق مواقفهم منها، وليس بحسب علاقاتهم ببعضهم، أو رغبة أحدهم فى تعميم اعتقاده على الأفارقة كتابعين لا أنداد. حتى لو كانت موسكو تلعب الورقة الأفريقية وهى تُخبّئ أهدافًا سياسية وراء ظهرها، فإن القادة فى بطرسبرج كانوا يلعبون لصالح التنمية، وهكذا فعلوا فى كل القمم والعواصم التى زاروها، وتثبيت القوانين فى العلاقة بالشرق والغرب أقوى دليل على الاتصال الجاد معهما، وعلى الانفصال الجاد أيضًا عن أجنداتهما.. ربما بفعل الرخاوة ما تزال بعض الدول رهن إرادة الخارج، إلا أن الأغلبية اختبرت مصالحها وحصَّنت استقلالها، ولن يطول الوقت قبل أن يتحرَّر الباقون من الوصاية، وقتها قد يكتشف بعض الغربيين أنهم أضاعوا فُرص الصداقة، أو خسروا نصيبهم منها لصالح آخرين، ووقتها قد يقف الماضى عقبةً أمام ترميم الصدوع وبناء الجسور المُتهدّمة!






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة