يظل يبحث الإنسان عن بقية، تاهت منه في طريق الحياة، عن روحه الغائبة، عن الكلمات التي تحييه، عن نبضه المجهول، عن عروقه المتدفقة نحو السراب، عندما يفيق يتساءل إلى أين؟ ثم يبدأ رحلة البحث عن النور.
عندما أشرقت شمس التبريزي، على مولانا الرومي، وتلاقت الأرواح، بعد أن تاهت سنوات من عمر كل منهما، تلاقت حول الإنسان، من أجل الإنسان، ولنجاة الإنسان، ففاضت لتشمل العالم بأجمعه، فكانت مددا للإنسان في كل مكان، وفي كل زمان، وفي كل لغة إنسانية، عرفها الإنسان، إنها خطاب لروح الإنسان وقلبه، إنها مزيد من النور، الذي ينتشر في كل ربوع الأرض، فشعت وملأت القلوب والعقول، أضاءت ما أظلمته الأيام والسنين، من نفوس الناس، كانت بمثابة رجة في أعماق الضمائر والأرواح؛ ليصحو، لتنال شيئا من الأنفاس، التي تمد الجسد الميت بالحياة، فقراءة في حياة هؤلاء، هي وقود للنفوس، التي أنهكتها متاعب الحياة، فتركتها أجسادا بالية، لا روح فيها، ولا حياة، ولا معنى للحياة بداخلها. هي شعلة تضيء القلوب المظلمة، ونور يوقد العقول، التي انطفأت. قاسية هي الحياة، وصرعاها الذين هم على قيد الحياة كثيرين، فلا أقل من مدد، يحرك ساكنها، ويوقظ ميتها، بين عالم الجسد، وعالم الروح، بين الانغماس في عالم المادة، والبحث عن الجوهر، فهل يستطيع الإنسان أن يحيا على الأرض جسدا فقط؟ هل يستطيع أن يحيا روحا فقط؟ فليس إنسانا من يعيش على الأرض، ويدب فوقها، لا هم له إلا إشباع رغباته ونزواته، كما أنه ليس إنسان من عاش روحا هائمة، لا حساب لنوازع الجسد ورغباته، بل يحيا الإنسان بهما معا، بالتوازن بين العالمين، فإذا طغى أحدهما على الآخر انتُزعت منه صفة الإنسان، وصار شيئا آخر.
فالبطلة التي تحيا بين أسرتها، تلبي رغباتهم الجسدية، من طعام وشراب، وعواطف إنسانية جُبلت عليها، أصبحت أشبه بالآلة، بالجماد الذي لا يشعر، إن الإنسان هو الإنسان منذ أن خلقه الله، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بما يحمل بين ضلوعه من قلب وروح.
كانت هذه الرحلة، إلى عالم الباطن، بمثابة وقفة تأملية، وإعادة صياغة، وعودة إلى الذات، وإلى تحديد هويتها، وتصحيح مسيرتها الحياتية، إن الإغراق في عالم المادة ينسي الإنسان باطنه، كما أن الإغراق في عالم الروح، يُذهل الإنسان عن مكانته، في هذه الحياة، فكلاهما تفريط، وكلاهما نصف إنسان، وتستطيع أن تقول، إنه لا إنسان هناك، لأن فقدان أحد الجانبين، يخرجه من النوع الإنساني، إلى نوع آخر، لا يمت للإنسانية بصلة، وقد تطلق عليه تعريفًا آخر، فهذا قد يعلو بإنسانيته إلى مصاف الملائكة، وقد يهبط به إلى مصاف الحيوان، وكلاهما نموذج بعيد عن الإنسان بعواطفه ومشاعره، وغرائزه وشهواته ونزعاته، وما يدور في أعماقه، وعقله وقلبه، فما بين الطرفين طريق النجاة، والصحة والسعادة، فمن أدركه نجا، ومر على الدنيا إنسان، حتى يتوسد قبره في نهاية المطاف، وقد عاش ومات إنسان.
عندما تقابل من يوقظ فيك ما مات منك، تستقبله قرير العين، تمد إليه يدك وقلبك، وتسعى إليه في لهفة وشغف؛ لتنفخ في روحك من صميم الحياة، وعبير الوجود.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة