حازم حسين

أخطاء القوى السياسية فى عقد كامل.. الحوار الوطنى كمدخل لشطب الديون القديمة

الأحد، 09 يوليو 2023 02:52 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
انتهت عطلةُ العيد، وتتحضّر ماكينة الحوار الوطنى لمُعاودة الدوران. حتى الآن قد تتفاوت تقديرات الأطراف إزاء الحالة؛ انطلاقًا من أنها مُستحدَثة ولم يُجرّبها أغلب المنخرطين فيها من قبل؛ لكن الانطباع المُتسيّد - من حصيلة المواقف والرؤى وردود الفعل المُعلنة - أن الأمور تمضى فى مسار إيجابى، والمُتفائلين بالخطوة وما تُبشِّر به أكثر من المُتحفّظين، ولا ينفى ذلك أن هناك تفاوتًا فى الرؤى تجاه تقييم الجولات الماضية، وآمال المحطّات المُتبقّية، وذلك من طبائع الأمور فى كل المنتديات التى تلتئم على تمايزات سياسية وأيديولوجية واضحة؛ إنما قد يتصل السؤال الأهم بمدى استيعاب الفاعلين على الطاولة لطبيعة المنصَّة، وفهمهم لفلسفة الحوار ومُستهدفاته، وقدرتهم على إجراء الفاعلية التى يطالبون بها عموميًّا فى نطاقاتهم الحيوية وداخل تياراتهم. ستعود المحاور واللجان لإنجاز فروضها؛ لكن هل أنجز السياسيون والأحزاب باختلاف المرجعيات والأهداف ما عليهم من واجبات؟ وهل هضموا الفكرة على الوجه الأسلم؛ لتتحوّل إلى طاقة تُعزِّز نموَّهم وتدفع حركتهم للأمام؟
 
يأتى الحوار من موقع قوّة، لكل أطرافه وليس للدولة وحدها. الدعوة الرئاسية، ثمّ اتساع التشكيل وانفتاح الحوار على كل العناوين، وبعدها إعلان الرئيس التزامه بإنفاذ المُخرجات محلّ التوافق دون قيدٍ أو شرط؛ تحمل كلها براهين عملية على أنه خطوة على أرضٍ ثابتة باقتناع عميق. بقيّة الأطراف يتعيَّن عليهم التحلُّل من مشاعر الضعف؛ إذ حضروا شركاءً لا تابعين، وتفاهموا على حدود الساحة وقوانينها ولم تُفرض عليهم عقود إذعان. النظر فى المسألة خارج تلك الصيغة الندّية المُتكافئة قد يُؤشِّر على شعور دفين بالعجز، أو رغبة فى استهلاك خطابات المظلومية؛ وكلاهما كافٍ لتشويه التجربة فى وعى من يدخلونها مُحمَّلين بافتراضاتٍ مُسبقة. قد لا تكون الموالاة حجَّةً على النظام السياسى، بالنظر إلى أنه لا يستند لأرضيّةٍ حزبية؛ إنما مواقف المعارضة حجَّة عليها لأنها حضرت بأيديولوجياتها وأحزابها وعتاد خطاباتها القديمة. إن كانت منظومة الحُكم المُكرَّسة منذ عشر سنوات بمشروعية شعبية ذات نكهة ثورية، جنّبت ذلك لصالح الحوار وفق توازنات جديدة؛ فإن قوى السياسة التى تجاوزها الشارع فى 2013 وما بعدها، أكثر احتياجًا لخلع عباءة الماضى. المُؤسف أنه إلى اللحظة يُطل بعض المتحاورين برؤوسهم كأنهم هبطوا من «تحرير يناير» حالاً، وليس بعد مشوارٍ طويل من الإخفاقات، كان بعضها سببًا مُباشرًا فى تمكين «الإخوان»، وما تولَّد عن ذلك من فواتير مُرهقة للسلطة والمجتمع، وللسياسة وتنظيماتها أيضًا.
 
كانت 25 يناير تحرُّكًا نخبويًّا فى وجهه العريض. حضر العوام بالطبع؛ إنما كانت الواجهة والغلبة للمُؤدلجين وذوى الانتماءات الحزبية؛ لهذا كان طبيعيًّا أن تتحمّل الطبقة السياسية كُلفة الفشل مع الإخوان: إمَّا لأنها ساعدت الجماعة بالصمت والتراخى والتحالفات غير الناضجة، أو لعجزها عن مُداواة الآثار التى هدَّدت السلم الاجتماعى وبقاء الدولة. صحيح أن مشهد «30 يونيو» الجامع سجّل حضورًا للقوى المدنية المُنظّمة على تنوُّعها؛ إلا أن عنوانه كان شعبيًّا خالصًا من التحزُّب والأيديولوجيا، بدأت حركة «تمرُّد» بوجوهٍ شابة تتحرّك بعيدًا من مرجعيّاتها، واحتضنها الطلبة والعمّال وربّات البيوت، وامتدّت رسائلها من الشارع إلى المُؤسَّسة العسكرية من دون وسيط. قد لا يكون تجنّيًا أو تبسيطًا القول إن الخروج على الجماعة الإرهابية حمل فى ثناياه خروجًا على ترتيبات يناير وإفرازاتها، أى على واجهة المشهد السياسى بعد 2011 من كل التيارات. كان ذلك تعبيرًا عن شرخٍ واسع بين الشعب وطلائعه، تعمَّق للأسف بعدما أعلن الإخوان حربهم الدموية على البلد بكامله، بينما تراجع أغلب السياسيون خطوات للخلف وتترَّسوا خلف سواتر من التنظير والرسائل الرمادية. العودة لا يمكن أن تكون وفق الخرائط السابقة، والأيديولوجيات المُتشقِّقة تحتاج حتمًا إلى الترميم أو إعادة البناء.
 
من حيث كان يُفترض أن تُؤسَّس ثورة يناير لاصطفافٍ وطنى واسع؛ أحدثت شِقاقًا وفوالق فى البيئة السياسية بصورتها القديمة، أو فى تحوُّلاتها الصاخبة مع التسابق على الغنائم. أما التضامن العريض فى 30 يونيو فلم يكن سياسيًّا بالدرجة الأولى، ورغم القصور الواضح وقتها فى قراءة اللحظة والتفاعل معها؛ فليس الغرض الآن أن نستعيد الماضى لإدانة الأحزاب وقادتها؛ إنما الفكرة فى الوعى بأن التصدِّى الراهن لترتيب الصفوف يُعالج رواسب عقدٍ كامل، وليس تأسيسًا لمُعادلة تقاسم سُلطة فى مناخٍ مُكتمل العافية، كما تظن بعض التيارات فى نفسها. مهمّة الحوار أنه منصَّة لإعادة بناء الإجماع الوطنى الذى تضرَّر فى 2011، ولم يُستثمر كما يجب فى 2013. ولأن مشهد 30 يونيو كان إجماعًا وحدته الفرد؛ فإن المطلوب الآن أن نصل لإجماعٍ يُوفِّق بين القوى والأفكار. الحوار ليس غايةً فى ذاته؛ إنما وسيلة لتجريع المريض العنيد دواءه الضرورى، والمريض فى تلك الحالة للأسف كل الهياكل السياسية التى ترنَّحت وداستها أقدام الشارع، بدلاً من أن تكون طليعته وتتولّى توجيه خطاه.
 
الخطأ الذى وقع فيه كثيرون، أو لم يبذلوا الجهد المطلوب لتجنُّبه؛ أنهم تعاملوا مع الحوار الوطنى باعتباره مساحةً لاختبار القوى والتلويح للشارع بما كان يجب أن يُلوِّحوا به عبر أداءات علنيّة ملموسة طيلة سنوات مضت. ليس من دور الحوار أن يُعبّر عن موازين القوى الفعلية؛ إنما أن يُذيب مساحات الخلاف قدر الإمكان، بما يسمح بالذهاب إلى صراعٍ سياسى ناضجٍ من نقطة البراءة من عِلَل الماضى وذنوبه. أمَّا إدارة الاختلافات والخُشونة ومحاولة انتزاع المساحات فإنها من مهام الانتخابات والصناديق. الوعى الناضج بهذا الدور فى صالح المُعارضة قبل الموالاة. عندما ذهبت القوى المدنية إلى خمسة استحقاقات بعد 2011: استفتاء تعديلات الدستور فى مارس، وانتخابات مجلس الشعب، ثمّ مجلس الشورى والانتخابات الرئاسية واستفتاء دستور الإخوان، خسرت فيها جميعًا؛ بل ساعدت خصومها على النَّيل منها كما فى تحالف الناصريين مع «الحرية والعدالة»، أو عصر الليمون ومؤتمر فيرمونت مع «مرسى»، أو تغطية الجمعية التأسيسية بكل عوارها حتى تمَّ للجماعة ما أرادت. كان المجال مفتوحًا والقنوات مع الشارع على اتّساعها وحالة الزخم الثورى حاضرة فى كل بيت، ورغم ذلك خسر المدنيّون؛ والواقع أن الذهاب للصناديق الآن، مهما كان شكل المناخ الذى يرضيهم، قد لا تختلف نتائجه عن التجارب السابقة. الحلّ أن تدخل الأحزاب ورشةً مُكثّفة للتشافى وغَسل أدران الماضى، وليس أفضل من الحوار لتلك المهمّة، ويستحق الأمر المُثابرة وبذل الجهد واحتمال الضغوط ومجابهة كل التحديات، لأن الرياضى المريض لا يمكن أن ينزل الملعب بعلَّته، وإن نزل فقد يضر نفسه ويضيع المباراة ويستجلب غضب الجماهير.
 
أمّا عن تحصيل الفائدة الكاملة من «الحوار»؛ فإن أهم ما يجب العمل عليه أن يكون بوّابةً لإنضاج المُمارسة الحزبية فى حواضنها. أغلب الأحزاب القائمة كيانات هشَّة، والتجارب التى كانت مُبشّرة بعد «25 يناير» ضربها الانقسام والصراعات وانفضّ عنها الناس، وما تزال المحاولات الائتلافية ضعيفةً وعاجزة عن تقديم نماذج صالحة للحياة، وقادرة على عبور اختبارات السياسة الخشنة. الحركة المدنية بعد ست سنوات من إطلاقها يبدو أن ما فيها من تناقضات يعلو على فُرص التوافق، ومع أول محكٍّ حقيقى تفرَّع عنها تيّار جديد أقرب إلى الانشقاق وإن ادّعى العكس، كما تأسَّست «كُتلة الحوار» من رحم السياق الناشئ كما لو أن هناك شبابًا يتطلّعون لاستثمار حالة الانفتاح لكنهم يصطدمون بتصوُّرات قدامى الأباطرة، وعجزهم عن استيعاب المُتغيِّرات المُحيطة. التعبير الأوضح كان فى لقاء الحركة مع رئيس حزب سابق عاد من الخارج بطموحات سياسية، لكن الجلسة شهدت اشتباكًا ساخنًا بعدما راوغ فى الرد على استفسارٍ عن موقفه من عودة الإخوان. لم تُقنع إجابته الرمادية بعض الحضور، وتقبّلها آخرون، وليس معلومًا هل صارحهم بلقاء أحد وكلاء الجماعة الإرهابية بالخارج أم لا؛ المهم أن المشهد المشحون وما تلاه من مواقف حزبية مُضادّة لطموحه، حملت تعبيرًا واضحًا لا عن ظرفيّة التوافق داخل الحركة ولا تناقضات الأيديولوجيا بين مكوّناتها فقط، إنما عن غياب الأرضية المشتركة وافتقادها لُغة الحوار.
 
قد يعود جانبٌ من الأزمة إلى أن الحركة كانت تحالفًا لا رابط بين مكوّناته إلا الصراع مع السلطة. جرى كَنْس الاختلافات العميقة تحت السجادة مُؤقّتًا لحين إحراز الغاية المشتركة؛ لكن عندما جاءت دعوة الحوار بمبادرة من أعلى مستويات السلطة سُحِبَت السجادة بكاملها فظهرت الكُناسة المخفيّة. لا يخلو هذا التفسير من وجاهة؛ إذ تعيش كثير من تيارات السياسة على فائض أحاسيس الضعف، وحينما تمل منها تستعيض عنها بضعف أكبر عبر تحالفات لا تنتصب على ساقين، وتلك واحدة من أمراض السياسة المصرية المُتوطّنة: فعلتها أحزاب الوفد والعمل والأحرار مع الإخوان فى انتخابات 1984 و1987، والقوميون والاشتراكيون الثوريون مع الجماعة أيضًا فى 2011 و2012، ووجوه من نُخبة السياسة والإعلام والأكاديميا فى مشهد فيرمونت البائس. ليس مطلوبًا بالطبع أن تنفضّ التحالفات القائمة من أجل وقف الفيروس السارح فى لحم الأيديولوجيا، وإن كان ذلك سيحدث عاجلاً أو آجلاً؛ إنما المهمّ ألا تكون صيغة «الإخوة الأعداء» مُعطّلاً للمسار الذى تفرضه اللحظة من أجل توطيد الأُخوّة أو التحرُّر من ميراث العداء!
 
كانت الطريق مقطوعةً، ثم جاء الحوار الوطنى ليعيد وصلها ويُمهّد أرضًا صالحةً للسير. البراجماتية والنضج يقتضيان حمل الفأس والعمل إلى جانب الشركاء، مهما كان مخزون الصدور والعقول، وإضاعة الفرصة لا معنى لها إلا التضحية بمسلكٍ مُحتملٍ من أجل مواصلة البكاء على الأطلال. ليس من التحامل وجَلد الذات أن نُعلّق الأجراس أحيانًا فى رقاب أصحابها؛ بل من الحكمة أن يتواضع من كانوا سببًا فى مشكلات الماضى، ويجتهدوا من أجل أن يكونوا جزءًا من حلول الحاضر والمستقبل. الواقع أن «25 يناير» أفضت إلى صعود الرجعية الدينية الغاشمة، وسواء جرى ذلك عَرَضًا أو بتواطؤ، وعبر مُمارسات مقصودة أو بحُسن نيَّة؛ فالمُحصّلة أن طبقة السياسة بعد 2011 كانت شريكًا فى الغُرم، وساعدت على وضع الدولة فى عين العاصفة، والتلويح بأجندات الماضى أو ما يُشبهها ينطوى على مُخاطرةٍ، أخفقوا فى عبورها سابقًا ولا نملك رفاهية تجربتها مُجدّدًا. ما معنى ذلك؟ الحقيقة أن الأجوبة واضحة حتى لمن يُديرون ظهورهم للأسئلة ويُفتّشون فى جيوب غيرهم: الحوار مساحة لاستكشاف النوايا وترسيم الخرائط، والحدود التى رُسمت بالدم والنار طوال سنوات فى مواجهة الإرهاب لا مجال للتراجع عنها تحت أى ظرف، والرمادية لون لا تُحبّه البلاد الخارجة من مُنزلقاتٍ ومِحَنٍ وجودية؛ لذا لا بديل عن أن تكون النوايا واضحةً ومُعلنة ولا تحمل معنيين. بالأرقام؛ قطع الحوار الوطنى شوطًا بعيدًا، وأتاح لغةً مُشتركة افتقدناها طويلاً، ويُبشّر بتركيز مُدوّنة تقود إلى توافقٍ جامع؛ ولو كانت الخُطى بطيئة، وسيعود لاستكمال مساره بمنطق تصفير الأزمات وشَطب الديون القديمة، ومن تلك الديون ألّا يُحاول البعض إعادة إنتاج الصراعات الصفرية، أو يضعوا يدًا على الطاولة ويغازلوا الخصوم، إخوانًا أو غيرهم، باليد الثانية.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة