الرواية فن مزدهر فى الأدب المصرى الحديث والمعاصر، بجانب الشعر والأشكال الأخرى، فهى بجانب كونها خيالا يتتبع الواقع، فهى تعكس التاريخ الاجتماعى للبشر، خاصة الأعمال التى ترتبط بمراحل تاريخية مفصلية، أقول هذا بمناسبة صدور «عسل السنيورة» للكاتب شريف سعيد، والتى حضرت ندوة لمناقشتها قبل يومين بوسط البلد، بحضور كثيف من أصدقاء وزملاء من المثقفين والنقاد، والإعلاميين، وأدارها الصديق الدكتور محمد عبده بدوى، وتضمنت مداخلات وآراء من المثقفين الحاضرين.
الرواية تدور فى مرحلة الحملة الفرنسية، وهى فترة فاصلة فى تاريخ مصر السياسى والاجتماعى والثقافى، وكانت لها تأثيرات بالغة، بالرغم من قصر الحملة الفرنسية، (1798-1801) إلا أن تأثيرها على مصر يفوق أثر الاحتلال البريطانى الذى استمر لعقود (1882-1956)، وكانت تأثيراتها كبيرة.
رواية «عسل السنيورة» كما يقول محمد عبده بدوى فى تقديمه تطرح وجهة نظر مختلفة مع التاريخ الذى يوقعنا أسرى لوجهة نظر واحدة فقط، وقلما نعيد قراءتنا بأكثر من وجهة نظر، وبرأيى أن هذه واحدة من مساحات الجمال فى هذه الرواية.
شريف سعيد يقدم فى الرواية صورا ولوحات استفاد فيها من عمله كمخرج وثائقى، فضلا عن حرصه على الأحداث، من دون أن يقع فى السرد التاريخى، لكنه فى الواقع يقدم عملا روائيا قادرا على تجاوز الأحداث والتواريخ، والعمل هنا نتاج بحث كبير وواسع، بجانب أنها ممتعة بما تقدمه من صور وتفاصيل، والرواية هى العمل الروائى الثانى بعد «وأنا أحبك يا سليمة»، وفى أعماله هو مشغول دائما بقراءة التاريخ، ويرى أن «الرواية التى لا تكشف مستورا أو تفتح بابا للأسئلة فالنار أولى بها»، ويقول عن عمليات التحضير لرواية «عسل السنيورة» إن رحلة كتابة الرواية فى الأساس بدأت من هامش صغير فى كتاب كان يقرأ فيه، وليستكمل البحث كان عليه أن يتابع فى مراجع فرنسية بجانب العربية ليجمع شتات المعلومات، التى تمثل قاعدة لعمله، ويرى شريف سعيد أنه لو قدر للحملة الفرنسية البقاء فى مصر ثلاث سنوات إضافية لقدر لمصر أن تكون ذات شأن آخر، وأن الصدمة التى صنعتها الحملة لا يزال صداها مستمرا حتى الآن، مع أسئلة عن الهوية، ولا تزال هناك أسئلة، بالطبع رأى شريف سعيد قد يجد معه اتفاقا وخلافا، لكنه يحمل قدرا من الصدق.
فى رواية «عسل السنيورة» يبذل شريف سعيد جهدا مضاعفا، ومزدوجا، فهو أولا يبحث ويدقق فى التوثيق، من دون أن يقع فى جمود الحدث، لكنه يقدم خيالا ومفارقات ودراما تتصاعد وتتصارع، لتعيد تقديم الأحداث بشكلها الروائى، الذى ينسى القارئ معه الحدث، ليندمج فى مصائر الشخصيات، ويقول حسب التقرير الذى كتبه زميلى بلال رمضان فى «اليوم السابع» إن «حسنة» فى الرواية، نصف حقيقية، ونصف خيالية، وأنه خلال رحلة الفرنسيين من الإسكندرية إلى القاهرة عثروا على فتاة فُقئت عيناها لأنها ارتكبت جريمة الزنا، فقرر أهلها عقابها بتركها فى الصحراء حتى الموت، وحينما عثر الفرنسيون عليها قرروا الذهاب بها إلى قريتها، لكنها ماتت فى الطريق، لكنه قرر أن يجعلها عمياء منذ الولادة.
والواقع أن الرواية هى عمل أدبى، مهما كانت تتعامل مع فترات تاريخية مفصلية، فأعمال الكاتب العظيم نجيب محفوظ مثل الثلاثية، أو «بداية ونهاية» إلى آخر قائمة أعماله العظيمة، هى تاريخ اجتماعى لمصر فى مراحل دقيقة، كما أن أعمال مثل «الزينى بركات» لجمال الغيطانى، أو «السائرون نياما» لسعد مكاوى هى تاريخ اجتماعى اعتمد على أحداث وأشخاص حقيقيين، لكنها ليست سردا تاريخيا مثلما يجرى فى كتب ومراجع التاريخ، والتى تختلف بالطبع عن أعمال التزمت شكلا قصصيا لأحداث تاريخية، مثلما فعل جورجى زيدان فى أعماله التاريخية.
من هنا تأتى أهمية عمل مثل «عسل السنيورة»، أدبيا، وأيضا فى تقديم التاريخ الاجتماعى، موازيا للتاريخ السياسى والثقافى، من دون أن يفقد شغف الرواية.