وقعت فى سنة 278 هجرية العديد من الأحداث المهمة، منها موت ولى العهد الأمير أحمد الموفق، قائد جيوش الخلافة، وظهور المرتزقة، فما الذى يقوله التراث الإسلامي؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ بن كثير تحت عنوان "ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين"
قال ابن الجوزي: فى المحرم منها طلع نجم ذو جمة ثم صارت الجمة ذؤابة.
قال: وفى هذه السنة غار ماء النيل وهذا شيء لم يعهد مثله ولا بلغنا فى الأخبار السالفة.
فغلت الأسعار بسبب ذلك جدا.
وفيها: خلع على عبد الله بن سليمان بالوزارة.
وفى المحرم منها: قدم الموفق من الغزو فتلقاه الناس إلى النهروان فدخل بغداد وهو مريض بالنقرس فاستمر فى داره فى أوائل صفر، ومات بعد أيام.
قال: وفيها تحركت القرامطة وهم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادشت ومزدك، وكانا يبيحان المحرمات.
ثم هم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل، وأكثر ما يفسدون من جهة الرافضة ويدخلون إلى الباطل من جهتهم، لأنهم أقل الناس عقولا، ويقال لهم: الإسماعيلية، لانتسابهم إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر الصادق.
ويقال لهم: القرامطة، قيل: نسبة إلى قرمط بن الأشعث البقار، وقيل: إن رئيسهم كان فى أول دعوته يأمر من اتبعه بخمسين صلاة فى كل يوم وليلة ليشغلهم بذلك عما يريد تدبيره من المكيدة.
ثم اتخذ نقباء اثنى عشر، وأسس لأتباعه دعوة ومسلكا يسلكونه ودعا إلى إمام أهل البيت، ويقال لهم: الباطنية لأنهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض، والخرمية والبابكية نسبة إلى بابك الخرمى الذى ظهر فى أيام المعتصم وقتل كما تقدم.
ويقال لهم: المحمرة نسبة إلى صبغ الحمرة شعارا مضاهاة لبنى العباس ومخالفة لهم، لأن بنى العباس يلبسون السواد.
ويقال لهم: التعليمية نسبة إلى التعلم من الإمام المعصوم، وترك الرأى ومقتضى العقل.
ويقال لهم: السبعية نسبة إلى القول بأن الكواكب السبعة المتحيزة السائرة مدبرة لهذا العالم فيما يزعمون لعنهم الله.
وهى القمر فى الأولى، وعطارد فى الثانية، والزهرة فى الثالثة، والشمس فى الرابعة، والمريخ فى الخامسة، والمشترى فى السادسة، وزحل فى السابعة.
قال ابن الجوزي: وقد بقى من البابكية جماعة يقال: إنهم يجتمعون فى كل سنة ليلة هم ونساؤهم ثم يطفئون المصباح وينتهبون النساء فمن وقعت يده فى امرأة حلت له.
ويقولون: هذا اصطياد مباح لعنهم الله.
وقد ذكر ابن الجوزى تفصيل قولهم وبسطه وقد سبقه إلى ذلك أبو بكر الباقلانى المتكلم المشهور فى كتابه (هتك الأستار وكشف الأسرار) فى الرد على الباطنية، ورد على كتابهم الذى جمعه بعض قضاتهم بديار مصر فى أيام الفاطميين الذى سماه (البلاغ الأعظم والناموس الأكبر) وجعله ست عشرة درجة أول درجة أن يدعو من يجتمع به أولا إن كان من أهل السنة إلى القول بتفضيل على على عثمان بن عفان، ثم ينتقل به إذا وافقه على ذلك إلى تفضيل على على الشيخين أبى بكر وعمر، ثم يترقى به إلى سبهما لأنهما ظلما عليا وأهل البيت، ثم يترقى به إلى تجهيل الأمة وتخطئتها فى موافقة أكثرهم على ذلك، ثم يشرع فى القدح فى دين الإسلام من حيث هو.
وقد ذكر لمخاطبته لمن يريد أن يخاطبه بذلك شبها وضلالات لا تروج إلا على كل غبى جاهل شقي.
كما قال تعالى: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ** إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ** يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [الذاريات: 7-9] أي: يضل به من هو ضال.
وقال: { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ** مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ** إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [الصافات: 161-163] .
وقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِى عَدُوّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ** وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } [الأنعام: 112] .
إلى غير ذلك من الآيات التى تتضمن أن الباطل والجهل والضلال والمعاصى لا ينقاد لها إلا شرار الناس كما قال الشعراء:
إن هو مستحوذ على أحد ** إلا على أضعف المجانين
ثم بعد هذا كله لهم مقامات فى الكفر والزندقة والسخافة مما ينبغى لضعيف العقل والدين أن ينزه نفسه عنه إذا تصوره، وهو مما فتحه إبليس عليهم من أنواع الكفر وأنواع الجهالات، وربما أفاد إبليس بعضهم أشياء لم يكن يعرفها كما قال بعض الشعراء:
وكنت امرأً من جند إبليس برهة ** من الدهر حتى صار إبليس من جندي
والمقصود أن هذه الطائفة تحركت فى هذه السنة، ثم استفحل أمرهم وتفاقم الحال بهم كما سنذكره حتى آل بهم الحال إلى أن دخلوا المسجد الحرام فسفكوا دم الحجيج فى وسط المسجد حول الكعبة وكسروا الحجر الأسود واقتلعوه من موضعه، وذهبوا به إلى بلادهم فى سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ثم لم يزل عندهم إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فمكث غائبا عن موضعه من البيت ثنتين وعشرين سنة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكل ذلك من ضعف الخليفة وتلاعب الترك بمنصب الخلافة واستيلائهم على البلاد وتشتت الأمر.
وقد اتفق فى هذه السنة شيئان أحدهما ظهور هؤلاء، والثانى موت حسام الإسلام وناصر دين الله أبو أحمد الموفق رحمه الله، لكن الله أبقى للمسلمين بعده ولده أبو العباس أحمد الملقب بالمعتضد، وكان شهما شجاعا.
ترجمة أبى أحمد الموفق
هو الأمير الناصر لدين الله، ويقال له: الموفق، ويقال له: طلحة بن المتوكل على الله جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، كان مولده فى يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة تسعة وعشرين ومائتين، وكان أخوه المعتمد حين صارت الخلافة إليه قد عهد إليه بالولاية بعد أخيه جعفر، ولقبه الموفق بالله، ثم لما قتل صاحب الزنج وكسر جيشه تلقب بناصر دين الله وصار إليه العقد والحل والولاية والعزل، وإليه يجبى الخراج، وكان يخطب له على المنابر فيقال: اللهم أصلح الأمير الناصر لدين الله أبا أحمد الموفق بالله ولى عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين.
ثم اتفق موته قبل أخيه المعتمد بستة أشهر، وكان غزير العقل حسن التدبير يجلس للمظالم وعنده القضاة فينصف المظلوم من الظالم وكان عالما بالأدب والنسب والفقه وسياسة الملك وغير ذلك، وله محاسن ومآثر كثيرة جدا.
وكان سبب موته أنه أصابه مرض النقرس فى السفر فقدم إلى بغداد وهو عليل منه فاستقر فى داره فى أوائل صفر وقد تزايد به المرض وتورمت رجله حتى عظمت جدا، وكان يوضع له الأشياء المبردة كالثلج ونحوه وكان يحمل على سريره يحمله أربعون رجلا بالنوبة، كل نوبة عشرون.
فقال ذات يوم: ما أظنكم إلا قد مللتم منى فياليتنى كواحد منكم آكل كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، وأرقد كما ترقدون فى عافية.
وقال أيضا: فى ديوانى مائة ألف مرتزق ليس فيهم أحد أسوأ حالا مني.
ثم كانت وفاته فى القصر الحسينى ليلة الخميس لثمان بقين من صفر.
قال ابن الجوزي: وله سبع وأربعون سنة تنقص شهرا وأياما.
ولما توفى اجتمع الأمراء على أخذ البيعة من بعده إلى ولده أبى العباس أحمد، فبايع له المعتمد بولاية العهد من بعد أبيه، وخطب له على المنابر.
وجعل إليه ما كان لأبيه من الولاية والعزل والقطع والوصل، ولقب المعتضد بالله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة