عاد أحمد دومة إلى حياته الطبيعية، ورغم نشاط لجنة العفو الرئاسى منذ شهور، وإفراجها عن مئات المحكومين نهائيًّا أو المحبوسين احتياطيًّا على ذمة قضايا؛ ربما يكون قرار الرئيس السيسى بالعفو عن «دومة» أهم ما تحقَّق فى الملف حتى الآن، ليس لأن طوابير المُفرج عنهم من قبل غير مُهمِّين؛ إنما لأن الخطوة الأخيرة تحمل عددًا من الرسائل بالغة الأهمية، تجاه ثورتىّ 25 يناير و30 يونيو، وعلى صعيد إعادة بناء الإجماع الذى أنجزناه سابقًا فى وجه الإخوان، وكذلك فى مسـألة تسامح الدولة مع شبابها؛ حتى لو أخطأ بعضهم أو انزلقوا تحت ضغط الحماسة فى خروقات كبيرة، فضلاً عن أثر ذلك فيما يخص ترميم شقوق البيئة السياسية، وتحسين علاقة الأحزاب والتيارات المُختلفة بالدولة، واستكمال حالة الوفاق والتلاقى التى أنتجها الحوار الوطنى ولا يزال مُستمرًّا فى ترسيخها.
القرار الرئاسى بإطلاق عدد من المحبوسين - بينهم أحمد دومة - قد لا يكون مُفاجئًا فى وقته وفحواه؛ إذ ابتدأ الرئيس المسار قبل سنوات من خلال لجنة العفو فى إصدارها الأول، ثم أُعيد تشكيلها بالتزامن مع دعوة الحوار الوطنى منتصف العام الماضى، وشهدت الشهور الطويلة المُنقضية تخلية سبيل عشرات من الحزبيِّين والناشطين السياسيين والحقوقيين، بعضهم كانوا موقوفين على ذمَّة قضايا تتصل بموضوعات سياسية أو أمنية حساسة، وبعضهم كانوا يقضون أحكامًا نهائية فى قضايا ذات طابع جنائى. كل الحلقات السابقة حملت رسائل إيجابية، واستهدفت تقريب الرؤى، ورفع منسوب حُسن النيَّة بين كل الأطراف؛ لكن الجديد هنا أن الخطوة لم تأت فى سياق محاولة التقارب؛ إنما جاءت من عُمق التقارب وسلَّة ثماره، وبعد شوطٍ بعيد فى التواصل والحوار، ما يجعل منها تحرُّكًا جادًّا من القيادة نحو تصفية الملفات العالقة، وتوطيد حالة الفهم المُتبادَل بين مُكوِّنات الساحة، وتأكيد أننا إزاء سياق جديد بالكُليَّة فى النظر إلى مُخلَّفات المراحل السابقة؛ حتى لو انطوى بعضها على انفلات أو تجاوزات لا يُمكن إنكارها.
كان أحمد دومة مطلبًا دائمًا على أجندة كل القوى السياسية تقريبًا. يعود الأمر فى جانب منه إلى شخصيته الودود، وروحه الصافية، وحماسته التى كانت واحدة من عناوين الفورة الشعبوية بعد يناير 2011؛ لكنه يعود فى جانب آخر إلى هاجس كان يُحرِّك الرموز والأحزاب باتجاه التشدُّد وتغليظ الشروط؛ وتصوّروا أن اسم «دومة» أحد العناوين جذريَّة الخلاف مع الدولة، ومن ثمّ فإن استمرار طرحه يُمثّل موقفًا راديكاليًّا يحفظ لهم قدرًا من الثبات المبدئى فى مناخ التقارب المُتنامى؛ كأنما يلتمسون الأعذار أمام قواعدهم المتآكلة؛ لأنهم عادوا إلى بناء علاقة صحية مُتوازنة مع السُّلطة. الحقيقة أن ما كشفه القرار الرئاسى الصادر أمس السبت؛ أن الاسم المُتكرِّر، وغيره من الأسماء السابقة أو اللاحقة، ليست جدرانًا عصيّة على الاختراق، وأن الضابط الوحيد فى تنظيم الشأن العام يدور على مُرتكزات ثورة 30 يونيو، وكل ما لا يصادم مُدوَّنتها المُعلنة وأهدافها الاستراتيجية، لا غضاضة إطلاقًا فى طرحه والتداول بشأنه.
كان أحمد دومة فى قلب مشهد 30 يونيو. ليس ما يخص أيام الفورة والاحتدام فقط؛ إنَّما مُقدِّمات تلك الثورة، وما أنشأها من مُواجهات جادة وعميقة مع جماعة الإخوان الإرهابية. كان يرى «30 يونيو» ثورةً شعبيّة جامعة، حضرت فيها النُّخب وطلائع السياسة الحزبية؛ لكن أبطالها الحقيقيين وجمهورها الأوسع كانوا من «حزب الكنبة»، أى عامّة المصريين الذين كانوا مُنصرفين عن الشأن العام؛ لكنهم بادروا إلى مُغادرة مقاعدهم الدافئة والتدفُّق على الشارع؛ عندما استشعروا خطرًا حقيقيًّا يمسُّ مصر ويُهدِّد هويَّتها وبقاءها. لا يُمكن إنكار أن الشاعر الشاب الذى كان قريبًا من الإخوان فى بدايته، ثم تحرَّر منهم، كان أحد أشرس خصوم التنظيم ومناوئيه، وهو بذلك أحد أبناء موجة التصحيح المهمَّة فى 2013، وليس خصمًا لها، وما يجمعه بالدولة أكثر ممَّا يفصله عنها، ولو كانت ثمّة أخطاء من جانبه أو ملاحظات على الممارسة؛ فإنها تظل مُجرّد ملاحظات، وليست صدامًا أصوليًّا عميقًا كما فى حالة جماعات الإرهاب.
الواقع أن كل من كان ضمن «تحالف 30 يونيو» ليس بعيدًا عن دولة الثورة، وبدورها فليست تلك الدولة أيضًا فى مواجهة أو عداء مع أصدقائها والمُصطفِّين إلى جانبها. ما حدث أن فترة الارتباك وموجات العنف التى فجّرها الإخوان وحُلفاؤهم، صبغت الفضاء العام بحالة من التوجُّس والارتباك، وتركت أثرًا عميقًا على بنية السياسة والاجتماع بشكل عام، وعلى هياكل الدولة ومنظومة العمل الأمنى بالخصوص، وكان طبيعيًّا أن تتسبَّب تلك المرحلة فى انزواء أطياف من التيَّارات السياسية، وتردُّد غيرها، وفى قطع بعض الوشائج وقنوات الاتصال التى تسمح باستكشاف الأزمات، وتفاديها أو علاج تأثيراتها أوّلاً بأوَّل. اختلفت الأولويات وتبدَّلت معها طبيعة الحركة داخل الساحة؛ فبينما وضعت الدولة مسألة الأمن وكبح الإرهاب واستعادة الاستقرار أولوية، وقد كانت أولوية حيويَّة ومُلحَّة بالفعل، انحازت فصائل وتيَّارات إلى سرعة العودة للمُمارسة السياسية والحزبية بنهجها التقليدى المُعتاد، دون مراعاة لمُقتضيات الظرف الضاغط، أو لفُرص ارتداد الجماعة وتغيير جلدها والعودة من خلال قنوات بديلة؛ وكان ذلك شائعًا فى رؤيتهم التنظيمية والحركيّة، وانكشف عقب «يناير 2011» مُمثّلاً فى اختراق مصفوفة عريضة من التنظيمات والنقابات والتجمُّعات الشبابية والاحتجاجية.
تجاوزت الدولة ضغوطها القديمة، وما إن استتبَّت الأوضاع؛ حتى بادرت إلى إحياء ساحتها السياسية الذابلة، ونفخ الروح فى بعض تيَّاراتها وقواها التى ارتاحت للتكلُّس، وللخلافات الداخلية وصراعات السلطة والمصالح فى أروقة بعض الدكاكين الحزبية والحقوقية. كانت مُؤتمرات الشباب قبل سبع سنوات تقريبًا، وما تمخَّضت عنه من ابتكار «لجنة العفو الرئاسى» فى تشكيلها الأول، رسالةً بانتظام البيئة الوطنية على منوالٍ غير ما أُجبرت عليه فى سنوات العنف والدم، وقد التقطت بعض التيارات طرفَ الخيط وظلَّ آخرون فى سُكونهم المُميت، فجاءت دعوة الرئيس للحوار الوطنى خلال إفطار الأسرة المصرية «إبريل 2022»؛ لتكون التعبير الأوضح عن تجاوز الدولة أزمات الماضى وتحدِّيات الوجود، وإعادة بناء قاعدتها الصُّلبة على وجهٍ يسمح بأن تنطلق حُرَّةً فى كلّ الاتجاهات، وتُجرِّب كل المسارات والبدائل، من دون خوف على ثوابتها وأمنها القومى، ولا على قيم ثورة 30 يونيو، ووجهها المدنى الخالص من رواسب الأصولية الدينية، أو امتدادات الأجندات العابرة للحدود والمصالح الوطنية. وتلك المرَّة تلقَّى الجميع الرسالة على موجةٍ أوضح وأكثر زخمًا، وانخرطوا فيها بنضجٍ وعقلانية كانا ضمن فواعل الطفرة التى تحقَّقت فى أروقة الحوار ومحاوره ولجانه النوعية، وما انبنى عليه من تبدُّلات فى الإدارة والسياسة وترتيب البيت.
الدولة أكبر وأنضج، وهكذا يُفترَض أن تكون دائمًا؛ لكن تظلّ المُواءمة والاعتبارات السياسية حاضرةً وحاكمةً طوال الوقت؛ ليس من باب العناد والمُكابرة، بقدر ما هو شرطٌ أساسى لانتظام العلاقة دون مُزايدة أو انتهازية. بمعنى أوضح؛ كان مطلوبًا أن ينتظم مسار الحوار الوطنى مُتزامنًا مع نشاط لجنة العفو الرئاسى، دون أن يسبق أحدهما الآخر. ربما يرى البعض أن صلاحيات الرئيس كانت تسمح بأن ينهى ملف العفو كاملاً قبل انطلاق الحوار، وقد يكون ذلك صحيحًا فى الوجه النظرى؛ لكن عمليًّا كان يتطلَّب الأمر قدرًا من التوافق بين التيارات السياسية، ومعايير واضحة للقضايا والموضوعات والأفراد المشمولين بالعنف، وفهمًا عميقًا لأن ذلك يأتى ضمن ثمار التوافق، وليس مُقدِّمةً أو إغراءً من أجل دفع المختلفين نحو الطاولة. المشكلة أن سنوات المُراهقة السياسية تركت بعض القوى أسيرةَ حساباتٍ طفولية قديمة، قد يُفسَّر فيها أى تقدُّم من جانب السلطة على أنه ضعفٌ، أو رشوة لاستقطاب الخصوم والمعارضين؛ لذا كان الطبيعى أن ينطلق المسار على قواعد جديدة واضحة، وأن تتوالى المنافع والمُنجزات بقدر التفاهم والاستيعاب، وحجم القدرة على ترميم الشقوق ومدّ الجسور بين التيارات وبعضها، ومنها إلى الدولة.
لا صوت يعلو على الفرحة العارمة بنبأ العفو عن أحمد دومة. والخطوة - بقدر معناها ومراميها وما تؤكده من عافيةٍ سياسية - تستوجب أن نبتهج جميعًا. قد لا يكون مُفيدًا فى هذا السياق أن نستعيد أمورًا وقعت فى حفرة التاريخ، أو نُقارب مسألة إدانة «دومة» وما تورّط فيه من أخطاء. لكن حالة التسامح التى نحتاج جميعًا إلى إعلائها؛ لا ينبغى أن تتحلَّل من الضوابط، ولا أن تقطع حبالَ الذاكرة؛ حتى لا نفقد بوصلة التوجيه، أو نقع فى فخّ التكرار وإعادة إنتاج سقطات الماضى. العفو يعنى أننا نرسم ملامح حقبة جديدة، ونشطب على الرواسب التى شوَّهت العلاقة بين الدولة وأبنائها؛ لكن الأفعال والمواقف نفسها لا تسقط بالتقادم. الإقرار بالأخطاء والرجوع عنها، وإعادة تحرير الأفكار والانحيازات بلغةٍ أهدأ وأنضج، شروطٌ ضرورية من أجل تجاوز العقبات التى أودت بالسياسة إلى ما عانته طوال سنوات، وتعبيد طريق جديدة تسمح بأن يسير الجميع معًا بالتوازى، دون أن يسبق فصيلٌ أو يتأخَّر غيره؛ كما أن استبقاء الذاكرة حيَّةً ومُشتعلة يضمن ألا يتسرَّب الإخوان ومن يلفّون لفَّهم من ثغرة التسامح، ولا أن يحاولوا حصار دولة 30 يونيو وتقويض تحالفها المدنى. إننا مُتسامحون مع قوى الثورة، ممن شاركوا فى إنقاذ مصر من فخّ الإسلاميين وأجندتهم «فوق الوطنية»، وليس مع من كانوا يسعون إلى ابتلاع مصر والمصريين.
فى إحدى جولات الصراع مع الإخوان، كنا فى تظاهرة على أطراف قصر الاتحادية، ربما كان ذلك فى يناير أو فبراير 2013 على ما أذكر. كانت الساحة مشحونةً منذ الإعلان الدستوى الفاسد الذى أصدره محمد مرسى بأمر مكتب الإرشاد وصقوره. كنّا فى أحد الشوارع الجانبية، ونظرت إلى يمينى فوجدت أحمد دومة فى جمعٍ من الشباب والشابات، وكان مُعتادًا أن يتقابل الناس بتلك الطريقة، وتكرَّر ذلك بيننا ومع آخرين كثيرًا، تبادلنا التحية وعبارات الحماس، وغنينا واحدة من أغنيات نجم والشيخ إمام، ثم تفرّقت بنا السُبل كما كان مُعتادًا منذ يناير 2011.. كان مُتكرّرًا أن تتفرّق السُّبل بالجميع بعد ثورة يناير، وفى كل يومٍ من أيامها؛ ليس على سبيل امتداد الخُطى واختلاف الوجهات والمواعيد؛ إنما على سبيل تنوُّع الانحيازات وتبدُّلها واختلاف ألوان الأجندات. كان ائتلاف شباب الثورة المُخترَق من الإخوان تفريقًا مُبكّرًا للسُّبل، وكان حلف الإسلاميين المُتطرّفين فى استفتاء تعديل الدستور «مارس 2011» تفريقًا للسُّبل، وكذلك كان تحالف القوميين والليبراليين مع «الحرية والعدالة» فى انتخابات البرلمان، وفى جولة الرئاسة الثانية، وفى كورس المُهلِّلين الراقصين وشهود الزور فى «مؤتمر فيرمونت»، وفى لقاءات الكواليس والتوافقات غير المُعلَنة، وحتى استمرار تنسيق البعض مع الجماعة الإرهابية ولقاء وكلائها فى بيروت وغيرها وظهور بعض الوجوه على قنواتها حتى الآن، كلها أجندات مشبوهة وتفريق مُتكرِّر للسُّبل. الحوار الوطنى يُحاول لملمة المسارات المُتباعدة، ولجنة العفو تنسج تقاطعًا يلتقى عنده المتفرّقون القُدامى، وخروج «دومة» ومئات قبله رسائل إيجابية مُتواترة، لا ينبغى تضييعها أو التضحية برمزيّتها وفاعليتها فى إعادة بناء إجماع 30 يونيو مُجدّدًا.. خرج أحمد دومة إلى الحياة الواسعة، وهو يستحق، وكذلك البيئة السياسية التى تتلمّس عافيتها من جديد؛ وتلك شهادة لدولة قوية قادرة، وتحالف كان قد خلَّصنا من الأُصوليِّين الدمويِّين، ويتقدم اليوم ليُعيد تجميع خيوطنا معًا.. شكرًا للرئيس على إطلاق «دومة»، وشكرًا لكل عاقلٍ يجتهد من أجل أن نتجاوز آثار الجنون القديم، الذى صبّت عليه أطماع السياسيين الزيت، قبل أن تشعله سفالات الإخوان؛ ولا نزال نتعافى من آثاره حتى الآن.