فى أفلام الأبيض الأسود القديمة نرى الأسرة السعيدة الهانئة فى حياتها وعيشتها البسيطة، فجأة وقد تغيرت أحوالها بعد وفاة الأب عائل الأسرة، وتضيق بها الحياة بما رحبت وتضطر فى مشهد حزين باكى إلى عرض أثاث البيت أو الشقة للبيع لتدبير ما تيسر من المال للإنفاق على المعيشة، ونتابع المشترى وهو فى الغالب تاجر الـ"روبابيكيا" يعرض أبخس الأسعار لشراء "العفش".
ولا تجد الأسرة أو الأم أمامها سوى القبول بالسعر القليل للحفاظ على عزة النفس والكرامة دون الاضطرار للاستجداء أو الانحراف.
هذا المشهد ليس سينمائيا فقط، فواقع الحياة ربما يكون أصعب وأكثر تعقيدا مما تعرضه أفلام السينما من دراما الفقر والبؤس، وكل فترة من الوقت تفاجئنا واقعة، توخز الضمير وتصدم المشاعر وتثير الرأى العام من مثقفين وفنانين وشخصيات عامة ومشاهير يقررون بيع أعز ما يملكون وهو مكتباتهم التى تضم مئات وآلاف الكتب بعد أن ضاقت بهم الحياة وجفت منابع الرزق مع التقدم فى العمر.
يصبح من حسن حظ البعض أن تتحول قضيته- بالصدفة- إلى رأى عام ويعرفها الجميع، وهنا تتدخل أجهزة الدولة أو كبار رجال الأعمال للحفاظ على ثروة المثقف "تحويشة العمر" التى أفنى عمره فى تكوينها بشرائها بما يليق ومكانة وقيمة الكاتب أو الفنان والشخصية العامة فى الحياة الثقافية والاجتماعية والفنية المصرية الذى لم يدرك بالتحولات المذهلة فى مجتمعاتنا العربية وبأن الكتاب والمكتبة لم تعد مثار للزهو والفخر والتباهى على الآخرين باقتناء مكتبة كبيرة.
قرأنا سمعنا كثيرا عن قصص محزنة وبائسة لما انتهت اليه حياة الكثير من المشاهير الذين آثروا حياتنا بالكلمة والرأى وبالفن وبالإنجاز الحقيقى فى عديد من المجالات دون أن يدرى بهم أحد فى ظل زحمة الحياة وانشغال أهل القمة بمناصبهم وحياتهم الجديدة.
الحكايات كثيرة وزيارة واحدة لأماكن بيع - الروبابيكيا- الأشياء القديمة فى أحياء مصر العتيقة فى السيدة زينب والسيدة عائشة أو سور الأزبكية سيقف على حجم المأساة أو الملهاة...فهنا يكتشف أن غالبية مكتبات المشاهير فى الأدب والثقافة ومذكرات رجال السياسة والشخصيات العامة معروضة للبيع وحسب شطارة المشترى مع البائع الذى غالبا لا يقدر قيمة ما يبيعه..!
ثروة ضخمة من آلاف الكتب لكبار الأدباء والشعراء والكتاب والفنانين انتهى بها الأمر إلى بيعها لسماسرة الأشياء القديمة سواء تحت ضغط الحاجة للمال أو لأنها أصبحت عبئا وحملا ثقيلا بمجرد وفاة صاحبها ولا يراها الورثة من الأهل والأبناء سوى جزء من مقتنيات الاب يجب بيعها.حدث ذلك مع كثير ممن نعرفهم من كبار المفكرين والمثقفين والصحفيين، وضاعت ثروات معرفية على مكتبات الدولة للحفاظ عليها وعرضها بصورة تليق بأصحابها لمن يريد القراءة والمعرفة أو البحث.
للأسف أقول بأن الكتاب فى هذا الزمان لم يعد خير جليس وأصبح هم ثقيلا وضيف يتيما غير مرغوب فيه فى المنزل فيتحول برغبة الورثة إلى مشرد لقيط على أرصفة الشوارع بعد أن قضى صاحبه عمرا فى جمعه والحفاظ عليه ومصاحبته، وتصبح الأمنية أن يرثه مثقف آخر أو يحصل عليه تلامذته أو تتحول إلى مكتبة عامة.
فى أماكن بيع الكتب القديمة فى القاهرة تقف لتستمع إلى حكايات وقصص عن بيع مكتبات أدباء وشعراء وسياسيين مصريين وعرب أيضا رحلوا أو تواروا وطواهم النسيان ولم يرث أبناؤهم فضيلة القراءة وادراك أهمية " كنز المعرفة"...المدهش فى هذه الحكايات أن هناك من يدرك قيمة هذه المكتبات من خارج مصر ويأتون خصيصا لشرائها.. أحيانا تضم المكتبات وثائق وصور نادرة تؤرخ لمراحل سياسية معينة فى تاريخ مصر. المأساة أن هذه المكتبات تضم كتبا نادرة لم تعد موجودة فى الأسواق ولدى هيئات الدولة المتخصصة فى الطباعة والنشر.
فى بعض الأحيان وبسبب هذه المأساة انتبه عدد من كبار الكتاب والمفكرين إلى التبرع قبل رحيلهم بمكتباتهم الخاصة إلى المكتبات العامة مثلما فعل الكاتب والصحافى محمد حسنين هيكل، قبل وفاته عام 2016 بالتبرع بمكتبته إلى مكتبة الإسكندرية. وأيضا الشيخ أحمد حسن الباقورى وزير الأوقاف الأسبق الذى أوصى بإهداء مكتبته البالغة أكثر من 10 آلاف كتاب إلى جامعة القاهرة. وقام الأديب الراحل يحيى حقى، قبيل وفاته سنة 1992 بإهداء مكتبته إلى جامعة المنيا وفاءا للمدينة التى ولد ونشأ فيها.وأيضا المفكر لويس عوض الذى أهدى مكتبته إلى جامعة القاهرة.
لكن مازالت مكتبات كثيرة لمئات من مثقفينا وكبار المشاهير والأعلام فى مصر والتى تضم كتبا واصدارات ومؤلفات وصورا نادرة، مجهولة المصير ولا يعرف أحد أين ذهبت وكيف تصرف فيها الورثة.
فى رأيى هناك ضرورة قيام وزارة الثقافة بإعلان مبادرة جمع مكتبات المشاهير للحفاظ عليها من الضياع وتقديرا لهؤلاء الصفوة الذين لعبوا دورا كبيرا فى تنوير وتثقيف المجتمع وافادته بما حققوه من إنجاز إنسانى.
وإذا سمح لى باقتراح أتقدم به إلى معالى وزيرة الثقافة الدكتورة نيفين الكيلانى بأن يتم تخصيص مكان أو مبنى كبير يضم كافة مكتبات المشاهير من رجال السياسة والفن والأدب والطب وغيرهم تحت اسم " مكتبة مشاهير مصر" على غرار " مقبرة الخالدين" التى قررت الدولة انشائها وأمر الرئيس عبد الفتاح السيسى بإقامتها.