فجأة.. تحولت الأنظار إلى جوهانسبرج فى جنوب أفريقيا.. صحف الغرب الأوروبي وواشنطن أولت اهتمامها منذ أول أمس للقمة الـ15 العادية التي أصبحت "قمة استثنائية" لمجموعة بريكس للدول الخمس، الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل.
الحرب في أوكرانيا تراجعت للمرتبة الأقل في الاهتمام.. فما يحدث في جوهانسبرج هو أحد المتغيرات الاقتصادية والسياسية الحاسمة في "لعبة السلاح" على الأراضي الأوكرانية، فالصراع هناك له وجوه وخلقيات وأسباب عديدة، منها الحرب الاقتصادية والهيمنة السياسية فيما يشبه معركة "تكسير العظام" بين كتلة سياسية واقتصادية وعسكرية ينظر إليها الكثير من دول العالم، ومنها قوى عظمى وقوى إقليمية مؤثرة على أنها "شاخت على مقاعدها" التي تتحكم من خلالها بفعل عامل الوراثة، بعد الحرب العالمية الثانية، في مصائر باقي دول العالم، وحان الوقت لعالم جديد أقل جنونا وأكثر توازنا، وتتحقق فيه المصلحة للجميع.
ليس غريبا أن تتقدم حوالي 60 دولة بطلب الانضمام لعضوية التجمع الجديد "بريكس" ومنها دول قوية اقتصاديا ومؤثرة سياسيا وجغرافيا وسكانيا مثل: مصر والسعودية والجزائر والإمارات وإندونيسيا وبيلاروسيا وكازخستان والسنغال ونيجيريا وأثيوبيا، إلى جانب دول آخري عربية وافريقية واسيوية ولاتينية. فهذا العدد من الدول له معناه السياسي، في الرغبة في إعادة تشكيل النظام العالمي المهترئ، والذي لم يجن معه العالم من بعد الحرب العالمية الثانية سوى الحروب والدمار والمزيد من الفقر والقلاقل الاقتصادية، وصولا إلى كوارث الطبيعة التي تهدد البشرية.
الأزمات الأخيرة في أوكرانيا والتي نتج عنها تداعيات اقتصادية سلبية كشفت عن وجه انتهازي للكتلة الغربية بقيادة واشنطن، باتباع سياسات لإضعاف اقتصاديات الدول الفقيرة والطامحة إلى النمو بسلاح الفائدة، لاستقطاب مليارات الدولارات من هذه الدول إلى السوق الأمريكي. إضافة الى ذلك المزيد من التدهور الاقتصادي في ظل الارتفاع الجنوني للسلع الغذائية، والتي يتم تسعيرها بالدولار الأمريكي.
فهل ينجح التجمع "الجديد القديم" الذي تأسس عام 2009 في عملية "عدالة التوازن".
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال في كلمته المتلفزة للقمة، إن عملية التخلي عن الدولار في المعاملات التجارية الدولية مستمرة، وأن الاستثمار في دول بريكس زاد بمعدل 6 أضعاف، ومجموعة "بريكس" تتجاوز مجموعة السبع من حيث القدرة الشرائية، وأكد بوتين أن "الوضع الاقتصادي العالمي تضرر كثيرا بسبب العقوبات الغربية الأحادية".
بوتين يركز على الاقتصاد والخطوات العملية التي تم ويتم اتخاذها وإقرارها بين دول التجمع، ومنها تبادل المعاملات التجارية بالعملات المحلية قبل الاتفاق على إطلاق العملة الموحدة خلال السنوات المقبلة. وهو ما يعني أن غالبية دول بريكس ستحقق مصلحة اقتصادية مباشرة خلال الشهور المقبلة، بالتخلص من نفوذ الدولار الضاغط على اقتصادات الدول الناشئة، وبالتالي استقرار الأسواق إلى حد كبير واستقرار سعر الدولار وتسعيره بقيمته الواقعية والحقيقية.
على الأقل لو طبقت دول بريكس الخمس مع الدول الجديدة والمتوقع انضمامها مثل مصر والسعودية والإمارات والجزائر المعاملات بالعملات المحلية، فسوف يعتبر ذلك نجاحا كبير كخطوة أولى مبشرة.
فالتجمع بدوله الخمسة يشكل 31% من مجمل الاقتصاد العالمي ويمثل 40% من سكان العالم و42% من اجمالي الناتج المحلي العالمي (أي ربع ثروة العالم وهو رقم صعب في المعادلة الاقتصادية).
الثروة الحالية لبريكس في طريقها للتصاعد، لكن الانضمام للبريكس يتحكم فيه معايير محددة وليس هناك توافق وإجماع على الموافقة على انضمام كافة الدول دفعة واحدة، وهذه وجهه نظر الهند- مثلا- ومع ذلك فالمتوقع أن تتسع المجموعة لأعضاء جدد ليصل العدد ربما في القمة المقبلة في روسيا العام القادم إلى أكثر من 20 دولة. فانضمام دول جديدة إلى بريكس -كما قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في يونيو الماضي- سيثري المجموعة بسبب ما لهذه الدول من إرث حضاري عربي وإسلامي.
الاجتماع الحالي لتجمع بريكس الذي تحول بقدرة قادر إلى – قمة استثنائية – جذبت الأنظار وأضاءت المصابيح الحمراء في واشنطن وعواصم أخرى في الغرب يؤكد زعماؤه ومؤسسوه والراغبون في الانضمام إليه على حالة "الزهق وعدم الرغبة" في استمرار نظام عالمي انتهازي لا يخدم سوى مصالحه، ولا يهمه باقي الدول النامية والفقيرة والساعية إلى النمو، والطامحة في عالم جديد بشعار التعددية والمصالح المشتركة والتوازن في العلاقات الدولية.
بالتأكيد هناك من يرى أن الأمور ليست بهذه البساطة ولن تسير إلى أهدافها بسهولة، فالتنازل عن "عرش العالم" ليس بالأمر الهين، وهذه هو ما يدركه زعماء بريكس ولا يرغبون في العمل على انهيار الدولار.. أو حتى انهيار أصحابه.