روائي ولد من رحم شوارع القاهرة
واتجه إلى خان الخليلي يتسمت هدفه الجديد، فعبر عطفة ضيقة إلى الحي المنشود، حيث رأى العمارات الجديدة تمتد ذات اليمين وذات الشمال، تفصل بينها طرقات وممرات لا تحصى، فكأنها ثكنات هائلة يضل فيها البصر وشاهد في ما حوله مقاهي عامرة ودكاكين متباينة - ما بين دكان طعمية ودكان تحف وجواهر - ورأى تيارات من الخلق لا تنقطع، ما بين معمم ومطربش ومقبع، وملأت أذنيه أصوات وهتافات ونداءات حقيقة بأن تثير أعصابا قلقة كأعصابه".
حتى أحمد عاكف، بطل رواية خان الخليلي، كان يتعالى على الشارع وقت انتقاله إليه في ثلاثينيات القرن الماضي، هربًا من لظى الحرب العالمية الثانية. المكان ما زال مفعًما بتجارته وأصواته التي "تثير الأعصاب"، على الرغم من تسلل البضائع الصينية إلى معروضاته الإسلامية والفرعونية. المشغولات النحاسية والفضية، قطع الأرابيسك ما زالت تحيي زوارها بفيض ومودة.
غير أنه لم يعد مكان سُكنى، "العمارات ذات اليمين وذات الشمال" خلت من ساكنيها، بعدما حولته القرارات الإدارية إلى فاترينة مثل كل ما في القاهرة الفاطمية، وكأن المنطقة تتمثل المقولة المحفوظية من رواية السراب: "ما البيت ببناء وعمارة وهندسة، ولكنه برج ثابت فى الزمان يأوي إليه حمام الذكريات، الساجع بالحنين إلى ما انقضى من أعمارنا".
ما زالت قبة الخان تغطيه كما كانت، كما بقي يحمل لقب الخليلي نسبة إلى السلطان جاهركس الخليلي، أحد سلاطين المماليك الجراكسة، الذي أسسه عام 1382 ميلادية، الآتي من مدينة الخليل بفلسطين المحتلة، أي منذ ما يزيد على 620 عاما على أنقاض مقابر الخلفاء الفاطميين في مصر والتي عرفت باسم "تربة الزعفران"، وكان لهذه التربة رسوم وعوائد يحرص عليها كل الخلفاء الفاطميين من حيث زيارتها والتردد عليها وإنارتها والتصدق أيام الخلافة الفاطمية.
فلما رغب جاهركس في بناء هذا الخان، نبش "تربة الزعفران" وألقى بما كان بها من عظام على التلال الموجودة خارج القاهرة معتذرا عن ذلك بأن الفاطميين كانوا كفارًا لأنهم "شيعة"!
وكان المعز لدين الله قد استحضره معه من القيروان توابيت ثلاثة من أسلافه ودفنهم في مقبرته، حيث دفن هو وخلفاؤه أيضاً. وحي خان الخليلي هو واحد من ثمانية وثلاثين سوقاً كانت موزعة أيام المماليك على محاور القاهرة، ويقع وسط المدينة القديمة. يقول عنه المقريزي إن الخان مبنى مربع كبير يحيط بفناء ويشبه الوكالة، تشمل الطبقة السفلي منه الحوانيت، وتضم الطبقات العليا المخازن والمساكن. وفي ربيع الثاني سنة 917 هـ/ يوليو/ تموز سنة 1511م هدم السلطان الغوري خان الخليلي وأنشأ مكانه حواصل وحوانيت وربوعا ووكالات يتوصل إليها من ثلاث بوابات. وقد هدمت هذه الحواصل والحوانيت وأعيد بناء الخان بعد ذلك.
وبالنسبة لتأثير المكان على الأبداع ، فتن بالخان الرسام البريطاني والتر تيندال الذي وثقه في إحدى لوحاته في الفترة بين 1900 و1915، أي قبل مرحلة التوثيق المحفوظي. وكأن معروضاته من النحاس والفضة ما زالت ماثلة كما هي.
أما فى أحداث الثلاثية فمن الصعب تبيان الحدود فكانت الجولة في شارع المعز الذي كان "بين القصرين" قديمًا، عمره يزيد عن الألف عام. بداية ملامحه جوهر الصقلي حين بنى قصراً للمعز لدين الله الفاطمي عرف باسم القصر الشرقي الكبير المطل على الشارع، ويقابله من الجهة الأخرى القصر الغربي الصغير للمعز للعزيز بالله نزار بن المع. وموقع هذا القصر اليوم المكان الذي يحتله مسجد الحسين وخان الخليلي ممتداً إلى المكان الذي توجد فيه الآن المدرسة الظاهرية وقبة الملك الصالح نجم الدين أيوب.عرفت المنطقة الواقعة بين القصر الشرقي والقصر الغربي باسم "بين القصرين".
غابت ملامح المنطقة بتفاصيلها كما رواها محفوظ في الثلاثية، لم يبق إلا بعض المشربيات التى وصفها محفوظ، فداخل هذه النوافذ هنا كان مرتع السيد أحمد عبد الجواد، أو "سي السيد"، الشخصية التي صارت "منقوعة" في الوعي الجمعي المصري والعربي ، النموذج الأصلب للشرقي بكل تناقضاته. و"أمينة" الزوجة العربية بكل خضوعها.
ويواجه مدرسة الناصر محمد على اليسار سبيل وكُتَّاب محمد علي الذي يضم متحف النسيج؛ وهو على ناصية شارع بيت القاضي الذي يواجه مجموعة السلطان قلاوون. وعلى ناصية شارع بيت القاضي وشارع المعز يقع ما تبقي من مدرسة الظاهر بيبرس (1263م) تليه أقبية الصالح نجم الدين أيوب (1249م) ثم واجهة مدرسته التي تطل على الجزء من الشارع المسمى شارع النحاسين.
بين القصرين
وفي الفصل السابع من «بين القصرين» يقول نجيب محفوظ: «عندما بلغ السيد أحمد عبد الجواد دكانه الذي يقع أمام جامع برقوق بالنحاسين». في الواقع توجد أمام مدرسة برقوق حالياً بعض الدكاكين. وفي الفصل الثاني عشر يصف نجيب محفوظ حركة ياسين عبد الجواد: «ثم اتجه صوب الصاغة، ومنها إلى الغورية ومال إلى قهوة سي علي على ناصية الصناديقية، وكانت شبه دكان متوسط الحجم يفتح بابُها على الصناديقية وتطل بكوة ذات قضبان على الغورية وقد اصطفت بأركانها الأرائك». وبالفعل يؤدي شارع النحاسين إلى الصاغة ويقطع شارع المعز في نهايتها شارع الموسكي (جوهر القائد). ويسمي امتداد المعز جنوباً «العطّارين» ويقطعه شارع الأزهر.
ويستمر شارع المعز جنوباً تحت مسمى الغورية حيث توجد مجموعة السلطان الغوري. أما الصناديقية فهي حارة ضيقة وقت أحداث الرواية (1918). ومن الأزهر أو الموسكي غرباً نصل إلى القاهرة الخديوية التي ترتادها شخصيات محفوظ في رواياته. كما يمكن الوصول إلى العباسية حيث انتقلت عائلته من الحسينية. ويسلك أحمد عبد الجواد عندما يذهب مع أولاده لصلاة الجمعة في مسجد الحسين الطريق نفسه الذي مشت فيه «أمينة» وابنها «كمال» من قبل. وفي الفصل الأربعين تنتقل الأسرة من بين القصرين إلى السكرية المجاورة لبوابة المتولي (باب زويلة) وهي البوابة التي تقع في السور الجنوبي للقاهرة القديمة ويمكن الوصول إليها من الغورية في اتجاه العقّادين. وفي رواية «قصر الشوق» يمشي كمال مع صديقه فؤاد عبر قبو قرمز، الذي يقع في الطريق من بيت القاضي إلى المعز ويمتد تحت مبنى مجاور (مدرسة الأمير سابق الدين مثقال- 1362م) ويوجد قبو آخر جنوب قصر بشتاك مباشرة في حارة بيت القاضي ومن هناك يصل كمال وصديقه إلى مقهى «سي عبده»؛ وهو في خان الخليلي ويقع تحت الأرض وتتوسطه نافورة.
مقهى «سي عبده»
أزيل هذا المقهى وضم إلى مخبأ وبنيت فوقه مجموعة عمارات الأميرة شويكار الجديدة القائمة حتى الآن. كما يذكر نجيب محفوظ «سينما الكلوب المصري» عندما يقول كمال لصديقه: «سنذهب يوم الخميس القادم إلى الكلوب المصري لمشاهدة شارلي شابلن». وتقع سينما الكلوب المصري في ساحة فندق قديم لا يزال موجوداً حتى الآن في الطريق إلى مسجد الحسين من شارع خان جعفر، ويضم الفندق فناء مكشوفاً كانت تعرض به أفلام سينمائية في الثلث الأول من القرن العشرين، وقدم أول عرض سينمائي في مصر في هذه السينما عام 1910 وارتادها نجيب محفوظ في صباه. وتواجه الفندق «مطبعة الحلبي» التاريخية. وفي الفصل الحادي والعشرين يصف نجيب محفوظ نافذة منزل «أم مريم» التي تطل على حمام السلطان مباشرة.
وفي الواقع، يواجه «حمام السلطان إينال» «قصر بشتاك». ونصادف حمام السلطان مرة أخرى عندما تنظر إليه عائشة: «وهكذا وقفت ذاك الصباح فظلت حائرة ما بين حمام السلطان وسبيل بين القصرين... حتى تراءى عن بعد (المنتظر) وهو ينعطف قادما من الخرنفش». والخرنفش في الواقع على بعد مسافة بسيطة إلى الشمال من قصر بشتاك وسبيل بين القصرين (عبد الحمن كتخدا). وفي الفصل الثامن عشر: «يمضي ياسين عبر شارع الجمالية، ثم يرى عطفة قصر الشوق». ويتفرع شارع قصر الشوق من شارع الجمالية عندما يتحول إلى شارع «خان جعفر». وعندما تذهب أمينة لتزور مسجد الحسين مع كمال نجدهما يغادران البيت إلى درب قرمز، ثم ميدان بيت القاضي، ثم طريق خان جعفر المؤدي إلى الجانب الغربي من مسجد الحسين. نجيب محفوظ اعتز بهذا الحي وهو يشكل مساراً سياحياً له طابع ثقافي وتعليمي كبير، ومن هنا فإن ذلك الاعتزاز جعله يقول: «منذ مولدي في حي الحسين وهذا المكان يسكن في وجداني، عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جداً، أشبه بنشوة العشاق».
السكرية وقصر الشوق
تعد السكرية وقصر الشوق مناطق صغيرة جدًا في الجمالية، ليست أحياء كما يظنها البعض، مناطق اجتماعيًا شهدت التطور وأصبحت أكثر أحياء من الطبقة الوسطى، وإن دل فإنما تدل على صمودها الأخلاقي، رغم تغيرها العمراني الكبير.
لعب المكان دوراً كبيراً في مشوار نجيب محفوظ الروائي حيث سعي إلي رؤي واقعية جسدت مشكلات الحارة المصرية وعبرت عن هموم وتطلعات الحرافيش، كما كان يطلق عليهم بل كانت إحدي رواياته التي لفتت الأنظار واهتم بها النقاد من حيث اللغة ومستوي الحوار وصدق البعد الاجتماعي الذي طرحه برؤي فلسفية متعمقة
القاهرة الجديدة
الزمان والمكان لا ثبات لهما
تغيرت الأماكن والملامح والسمات الإنسانية الحاكمة بتغير الزمن، يقول نجيب محفوظ فى روايته عبث الأقدار : "إن الزمان يتقدم غير ملتفت إلى الوراء، وينزل، كلما تقدم قضاءه، بالخلائق، ويُنفّذ فيها مشيئته التي تهوى التغيير والتبديل، لأنه ملهاته الوحيدة التي يستعين بها على ملل الخلود، فمنها ما يبلى، ومنها ما يتجدد، ومنها ما يموت ومنها ما يحيا، ومنها ما يبتسم شبابه، ومنها ما يرد إلى أرذل العمر، ومنها ما يهتف للجمال والعرفان، ومنها ما يتأوه لدبيب اليأس والفناء".
هنا صدقت كلمات محفوظ، وانعكست كلماته على أبرز الأماكن التي تناولتها رواياته، واشتهرت بسبب تواجده الدائم فيها. لم تعد بين القصرين، ومنطقة خان الخليلي والحسين، كما وصفتها رواياته، وتعد أهم الأماكن التى رسمها محفوظ، أسماء شوارع وأزقة تقع في حي الجمالية بوسط القاهرة، وذكر الكاتب جمال الغيطاني، في كتابه "نجيب محفوظ يتذكر" قال: “إن حي الجمالية ظل يأسره مدة طويلة، وحتى بعد أن غادره، لم يتمكن من فك قيود أسره. في تصوره هناك خيوط سحر غير مرئية كانت تربطه بالحي العتيق”.
اما مقهى الفيشاوي، المكان الأشهر الذي اختلى فيه محفوظ للكتابة والقراءة، وقضى أيامه للكتابة ومجالسة الناس والتحاور معهم والاستماع لحكاياتهم. في أول شارع خان الخليلي من ناحية جامع الحسين، يدلف السائحون إلى المقهى، الذي يقع على اليسار في ممر ضيق ينفتح من خلاله على آخر مواز له.
يبدو المقهى الكبير مميزا بآرائك خشبية تتزين مساندها بالمشربيات، ومرايا كبيرة بتيجان خشبية مبهرة، بينما زُينت الجدران بصور فوتوغرافية ولوحات فنية تُظهر أزمنة فاتت من بينها صور لنجيب محفوظ وهو جالس على المقهى، يستمع حكايات رواياته من بعض الناس في المنطقة، فيما انقطع عن المقهى سنوات طويلة، قبل أن يعود في زيارات متقطعة في سنواته الأخيرة، بعد فوزه بجائزة نوبل، وكان بصحبته دائما الكاتب الراحل جمال الغيطاني.
على بعد خطوات من مقهى الفيشاوي، ثُمة مقهى حاول استثمار جلسات محفوظ في الفيشاوي، وهو مقهى لؤلؤة الحسين، فوضع صورا كبيرة وعديدة للأديب على الواجهة في محاولة لإيهام المارة والسياح بأن المقهى كان محلا لارتياد الأديب.
محفوظ كان يجلس بين “المقهيين”، ويفاضل بينهما أحيانا، فكلاهما يشبه الآخر إلى حد كبير، وكان يميل إلى المقاهي الهادئة التي تجيد صناعة القهوة، وهو ما وجده في مقهى اللؤلؤة، فيما حدثت تغيرات عديدة مرت على الشارع الذي حاول الأديب الكبير رسمه في رواية له حملت الاسم ذاته، وصدرت سنة 1946.
لا يوجد أثر لضجيج الحرفيين، الذي ذكره محفوظ في الرواية من الخان سوى شارع تجاري وسياحي جذاب، بلا صناعة ولا حرفة. اختفى وصف روايات محفوظ عن دكاكين الخطاط والساعاتي وصانع السجاد التي تحدث عنها محفوظ في الأربعينات من القرن الماضي، والباقي هو المشربيات المميزة لنوافذ بنايات الشارع وتمثل سمة غالبة على معظم بنايات حي الجمالية القديمة.
مازالت المقاهي الصغيرة جدا باقية، غير أن أثاثها وديكورها ونظم تعاملها مع الرواد تغيرت تماما، مثلما تضاعفت أسعارها آلاف المرات.
خان الخليلي
قيصر الرواية العربية
حوارى القاهرة
شوارع شاهدة على أحداث روايات محفوظ
شوارع القاهرة الفاطمية
شارع المعز
وكالة الصنادقية
خان الخليلي
شارع المعز
نجيب محفوظ
الجمالية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة