يبدو قبول عضوية مصر في تجمع "بريكس"، خطوة جديدة عملاقة، على العديد من المسارات، ربما أبرزها فيما يتعلق بالاقتصاد، في ضوء ما يترتب على ذلك من تعزيز لحالة التعاون المنشود مع مجموعة من القوى الدولية الصاعدة، وعلى رأسها الصين وروسيا، ناهيك عن الامتداد الجغرافي الذي تحظى به المنظمة، جراء توغلها في مختلف قارات العالم، بين إفريقيا وآسيا مرورا بأوروبا وحتى دول أمريكا اللاتينية، كما يساهم في تقوية الروابط، وتحقيق أكبر قدر من التكامل مع رقعة جغرافية أوسع، تتجاوز الأقاليم بمفهومها التقليدي، والذي اعتمد الجغرافيا القارية، من جانب، أو الهوية، على غرار الجامعة العربية ومنظمة التعاون الاسلامي من جانب آخر، في ظل تنوع اللغات والأديان والثقافات بين أعضاء التجمع الصاعد.
ولعل الحالة "التعددية" التي تسعى القوى الدولية الصاعدة إلى إرسائها، سواء في خطاباتها السياسية أو عبر تعزيز دور "بريكس"، والذي أسهبت في الحديث عنه في مقالي السابق باعتبارها تمثل وجها مهما للحقبة الدولية الجديدة، حيث اعتمد النظام الدولي في العقود السابقة نهج التكتلات، خاصة الاقتصادية، في صورتها الإقليمية الضيقة، على غرار "الكوميسا"، في شرق وجنوب أفريقيا، و"الايكواس" في غربها، "وآسيان" في جنوب شرق آسيا، وغيرها من التكتلات المشابهة في قارات العالم الأخرى، والتي اقتصرت عضويتها على مناطق بعينها في العالم، تتشارك في الحدود الجغرافية، وهو ما ساهم في الكثير من الأحيان في تقويض انسيابية التكامل بين أعضاءها، جراء تشابه الموارد والظروف، وبالتالي فيصبح "بريكس" بمثابة صورة جديدة للتكتلات الاقتصادية، في إطار "الإقليمية الجديدة"، والتي لم تعد مقيدة بالجغرافيا التقليدية، بينما تحمل امتدادا دوليا وتمددا جغرافيا، من شأنه مواكبة طبيعة الأزمات الجديدة، التي لم تعد قاصرة في تداعياتها على منطقة بعينها، بدءً من الوباء، مرورا بالصراع في أوكرانيا، وحتى ظاهرة التغير المناخي.
وفي الواقع، يبدو اختيار مصر لعضوية "بريكس"، دليلا دامغا على قدرة الدولة على مواكبة متطلبات الحقبة الجديدة، عبر تجاوز الطموحات الإقليمية الضيقة، نحو آفاق أوسع، في السنوات الماضية، وتحديدا منذ ميلاد "الجمهورية الجديدة"، عبر شراكات عدة تجاوزت الرؤية الإقليمية المحدودة، بدء من تحقيق التقارب مع القوى الصاعدة (روسيا والصين) مع الاحتفاظ بالعلاقة مع واشنطن، ناهيك عن تعميق البعد الأورومتوسطي، على غرار التعاون اليونان وقبرص، ثم الانطلاق نحو أوروبا الشرقية مع توسيع التعاون مع دول "فيشجراد"، وهو ما ساهم في تحول الدولة المصرية من دور القيادة الإقليمية المحدودة، إلى ما أسميته لي مقال سابق بـ"نقطة اتصال إقليمي"، سمحت لها في جزء كبير منها بالدفاع عن القضايا التي تؤرق محيطها الجغرافي، أمام العديد من المحافل الدولية، ربما أبرزها ما شهدته قمة المناخ في شرم الشيخ، وغيرها من المناسبات.
الانفتاح المصري على العالم، وانطلاقتها نحو تجاوز "الإقليمية المحدودة"، ليس الجانب الوحيد الذي حظت به مصر، لتتواكب مع طبيعة "بريكس" متجاوزة الإقليم، وإنما أيضا تبقى تحركاتها داخل محيطها الجغرافي متواكبة مع الحالة "التعددية" التي يعززها، وهو ما يبدو بوضوح في "الشراكات" المتنوعة التي عقدتها في نطاقها الجغرافي، في صورة "ثلاثية" أو أكثر، وذلك في إطار الرغبة الملحة في الاستفادة من إمكانات كافة القوى الأخرى التي يمكنها القيام بدور من شأنه تحقيق المصلحة الجمعية لمناطقها، بعيدا عن فكرة الاستئثار بالقيادة التي هيمنت على العلاقات الاقليمية لعقود طويلة من الزمن.
وبالتالي فإن خطوة الانضمام إلى "بريكس" هي بمثابة خطوة جديدة من شأنها تعزيز المشاركة المصرية في صياغة الحقبة الدولية الجديدة، بما تحمله من تشابكات، تبدو في حاجة إلى المزيد من العمل الجماعي، على نطاق واسع، في إطار من التعددية، عبر صياغة جديدة للجغرافيا الإقليمية، والتي باتت تحمل وجوها مختلفة عن تلك الخرائط التي رسمتها القوى الدولية الكبرى منذ الحقبة الاستعمارية، واستمرت حتى زمن "الهيمنة" الأحادية، في الوقت الذي لم يعد الدور متوقفا على منطقة بعينها، وإنما بات ممتدا في ظل تشابك التداعيات وسرعة انتقالها من إقليم إلى أخر، وهو ما يتطلب تعزيز التعاون على المستوى الإقليمي الجمعي من جانب، بالإضافة إلى وجود القوى التي يمكنها أن تدافع عن مصالح وحقوق مناطقها الجغرافية أمام الأقاليم الأخرى، حيث يبقى تجمع "بريكس" نموذجا مهما في هذا الإطار، مع التغير الكبير الذي تشهده موازين القوى الدولية في المرحلة الراهنة، وصعود دول يمكنها ملء الفراغ الناجم عن تراجع القوى التقليدية.
وهنا يمكننا القول بأن انضمام مصر لمجموعة "بريكس" هو فرصة جديدة، تبدو ممنوحة لها، بينما هي في واقع الأمر، تمثل تتويجا لجهود سابقة بذلتها، من أجل تحقيق أكبر قدر من التوازن، سواء في علاقاتها الدولية، أو مناطقها الجغرافية، أو فيما يتعلق بتعزيز التعاون مع العالم، من أجل احتواء وتجاوز التداعيات المترتبة على الأزمات الكبرى التي تواجه العالم، في إطار حدود أوسع نطاقا من حيث الجغرافيا أو الدور.