صدر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث كتاب "تَشَكُّل الطُّرق الصُّوفيّة الأفريقيّة المحليّة: الأثر المغربي والموريتاني" وهو بحث في أنماط التدين المتباينة، وحيوية تطورها، وعلاقة آثارها السياسية الراهنة بجذورها التاريخية، ويسعى هذا الكتاب لكشف انفعال الطرق الصوفية الأفريقيّة بالأثر الصوفي القادري والشاذلي والتيجاني، متتبعًا سيرة الطرق الصوفية ومؤسساتها الاجتماعية، ومحاولاتها السياسية في أفريقيا منذ القرن السابع الهجري، وتأثرها بالحركات المتعاقبة، ويركز على الأدوار السياسية التي حافظت عليها في الدول الأفريقية، المهتمة برعاية الأمن الروحي.
عرِفت الطرق الصوفية؛ بطبقات تأثيرها في بعضها، وفي رجالات التدين، ففي طبقة التأسيس تأتي الجنيدية، والقادرية، والسهروردية وربما النقشبندية، إذ تشكل بعض أدبياتها طبقة من طبقات طرقٍ لاحقة؛ وكذا كانت طبقة مماثلة كالشاذلية والخلوتية، وكلا الطبقتين نشأتا في فارس وتركيا والمشرق العربي. وفي المغرب العربي أُسست طبقة ثالثة تمثلها المدارس التيجانية والسنوسية والإدريسية وغيرها. وقد نتج عن هذه الطرق الكبرى طرق لا مركزيّة، استقلت بمشيختها وأورادها وأذوناتها، واختلط بعضها بالأثر الاجتماعي القبائلي فتسمت باسم القبيلة، بل وانتزعت بعض القبائل اسم التصوف كالزاويّة، وعمِدت بعض الممالك إلى الارتكاز على هيكليّة الطرق الصوفية في حكمها، كتحالف القادرية مع سلطنة الفونج، أو قيام ممالك على أيدي شيوخ طرق كما فعل عمر الفوتي (1794-1864) وعثمان دان فوديو (1754-1817)، وغيرهما، وساهم تأسيس الدول المنسوبة للمتصوفة، في تعقيد فهم علاقة الصوفيّة بالسياسة والحكم والقتال، إثر دخول الدول في تنافس وخصومات، انعكست على علاقة الطرق ببعضها، إلى أن ظهرت طبقة جديدة سمحت بقبول تعدد الطرق مجددًا، فخففت حدة التنافس.
ولما كانت الطرق الصوفية الأفريقية والمغربية تعالج واقعًا مجتمعيًا؛ تباين موقفها من الدولة قبل الاستعمار، فمن المرور بعهد الإمبراطوريات المحلية، إلى «فكرة بلاد السيبة»، ومن ثم اصطدمت بالاستعمار بمعطى ديني من جهة، ومعطى اجتماعي سياسي من جهة أخرى، فتباين الموقف منه مجددًا وفقًا لتباين التقديرات والمصالح واختلاف السياقات. وفي عصور ما بعد الاستعمار، توحدت الطرق، إذ عادتها القوى السياسية والحداثوية التي لا تعوّل على التقليد، إلى أن ظهرت فورة «الإسلاموية» المنفرة، ولجأت إلى ضرورة التصالح مع المسار التقليدي للتديّن المعزز بقيم السلم المجتمعي الموروثة، والسماح له بالتطور التدريجي، عِوضًا عن الاصطدام المؤدي إلى انتصار التأويلات الثورية التطرفية الإرهابية.
يبدأ الكتاب بالأدوار الداخلية والخارجية للتصوف في المغرب، ساردًا تاريخ الزاوية، في المغرب، وتحوّلاتها منذ أن ظهرت في دولة الموحدين (1121-1269)، مبرزاً مهامَّ متداخلة؛ اجتماعية خدمية ومعرفية روحية، ومنبهًا إلى وظيفة تاريخيّة تتصل بتنظيم القبائل؛ إذ أضفت الزاوية شرعية على وجود القبيلة، ووفّرت دعمًا ماديًا لها.
تناول الكتاب الأربطة، والأضرحة، فبحث في أنماط العلاقة بالجانب السياسي، مركزًا على الطريقة البودشيشية، والكتانية، مستحضرًا خصوصية المغرب الدينية، وفرادة تنظيم الحقل الديني فيه.
كان تأثير الزاوية في المغرب، كبيرًا، وأثرها في العلاقات الخارجية أكبر، إذ مثّلت جسورًا استثمرت في القوّة الروحية لتاريخ البلاد، بدايةً من الدولة المرابطية التي امتدت إلى قلب أفريقيا، فانتشر بجهودها المذهب المالكي زيادةً على انتشاره، وترسخت العقيدة الأشعرية، وغدا التشابه – بين الجنوب والشمال – في الأنماط الروحية من اللبس والشعائر وأنماط التدين واضحًا، خصوصًا بعد دخول قبائل التكرور وأمراء السوسو إلى حكم أمراء ملثمين، ولذا حين تراجع في عهد دولة الموحدين (1130-1269) دور سجلماسة لصالح مناطق ساحلية أفريقية؛ لم يختلف النمط الديني للمغرب وانعكس الإشعاع، ولما صار دور الموحدين منوطًا به حماية القوافل في أفريقيا، توطدت العلاقات بغانا ومعها الصلة الروحية، التي تكاملت في عهد المرينيين (1244-1465)، مع علاقات دبلوماسية رفيعة بين ملوك بني مرين ومنسات مالي الأثرياء والأقوياء. كان الانتماء السني من أبرز محددات الهوية، وتزايد حضور المغاربة والمصريين في بلاط المنسات، ومنهم: مخلوف بن علي بن صالح البلبالي، وسيدي يحيى بن عبدالرحيم العلوي، وسيدي علي الجزولي. وفي طبقة لاحقة برز رجال التصوف؛ وعلى رأسهم الفقيه محمد بن عبدالكريم المغيلي التلمساني (ت1502)، وأحمد بابا التمبوكتي السوداني (ت1627)، ومحمد الكنتي (1460-1553)، فبعد انتشار القادرية، جاءت الشاذلية، بفروع كالجزولية والدرقاوية والناصرية، ولاحقًا نشأت الزاوية التيجانية.
كانت زاوية فاس التيجانية، التي تضم ضريح الشيخ أحمد التيجاني مركزًا للإشعاع المغربي، تعقّبت دراسةٌ تاريخها، فمرت بمراحل منتقاة لتطورها عقب الشيخ التيجاني، فكانت المرحلة الأولى على يد الشيخ محمد الحافظ الشنقيطي، الذي حضر على الشيخ التيجاني الإملاء لجواهر المعاني، وانتقى الباحث مرحلة سيدي مولود (1774-1818)، الذي نشر التيجانية في غرب أفريقيا والسودان والحجاز، والمرحلة الثالثة برز فيها الشيخ عمر الفوتي، ويمكن إضافة مرحلة ثالثة برز فيها رجال كصاحب الفيضة التيجانية عبدالله أنياس الكولخي، ومحمد ود دوليب من السودان، وأحمد الحبو من تشاد، ومحمد بن المختار من موريتانيا. ثم تطرق الباحث إلى محددات إشعاع الزاوية التيجانية بفاس على القارة الأفريقية، بسبب مركزية زيارة ضريح مؤسّسها، ولم تغفل الوزن العلمي المغربي في أدبيات التصوف التيجاني. وفي العهود الأخيرة، عززت المملكة المغربية مكانتها الروحية عبر رعاية منظمات تراعي: «العقيدة الأشعرية، وفقه مالك، وطريق الجنيد السالك»، فأنشأت «رابطة علماء المغرب والسنغال» منذ عام 1985، و«مركز تكوين الأئمة الماليين» بالرباط منذ 2013، و«معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات»، و«مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة».
حمل الشيخ محمد الحافظ الشنقيطي التيجانية إلى بلاد شنقيط، ولكنّ التصوف كان قد بلغها قبل ذلك بأمد طويل، فإذا كان أبو مدين الغوث (ت1197) نشر الطريقة القادرية في المغرب، وزامن عبدالسلام بن مشيش (ت1227) عهد الموحدين بالمغرب، ودُفِن تلميذه الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ت1258) بحميثرة، فإنّ آثارهم بلغت موريتانيا، فكانت الزوايا الحاضرة في المغرب، منذ القرن السابع الهجري، ولها أسانيد جزائرية ومغربية وتونسية، بل ومشرقية مباشرة. ويمكن اعتبار القادرية البكائية أوّل تصوف طرقي منتظم في بلاد شنقيط، ومنها وصلت إلى مالي الحالية، على يد أنجال الشيخ أحمد البكاي، ومرت البكائية بمرحلتين: الأولى في الملأ الصحراوي، والثانية في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وعرفت الطريقة الشاذلية التي دخلت مدينة تشيت عبر سيد أحمد بن عمر التواتي، الذي يصل سنده إلى الإمام محمد بن ناصر الدرعي، ومن ثم تأسست طرق أو حضرات وزوايا موريتانية محلية مستقلة، أولاها الطريقة الغظفية على يد محمد الأغظف الداودي (ت1803) وتطورت في عهد المختار بن الطالب أعمر بن نوح البُصادي المدفون في فزان؛ وهي مستندة إلى الشاذلية، أما الطريقة الفاضلية فقادرية الأصل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة