إن وعي الفرد بما يدور حوله من أحداث على الساحتين المحلية والدولية وإدراكه للعملية السياسية بشكل عام- يكون لديه إدراكا عميقا بغايات النظام السياسي، ويستقرأ مدى اتساقه مع الدستور الذي شارك فيه، ويستوعب عمق القرارات السياسية المتخذة لتحقيق مصالح الدولة العليا، كما يحيط بالتحديات السياسية التي تواجه بلاده والعالم بأسره، ومن ثم يتمكن من تحليل ما يطرح عليه من قضايا، واستنباط العوامل المؤثرة فيها، بما قد يشجعه على المشاركة السياسية وفق اتجاهاته قناعاته، سواءً بالتصويت أو التمثيل الانتخابي، أو بالتعبير عن الرأي من خلال القنوات المشروعة، ويندرج ذلك كله تحت ماهية الوعي السياسي.
وُيعد الوعي السياسي مؤشرًا صادقًا على النضج المجتمعي؛ إذ يستهدف كافة الأعمار والفئات دون استثناء؛ حيث يعكس الحالة الديمقراطية بصورة تتسم بالشفافية، ومن ثم تصف مراحل التطور الديمقراطي الذي تمر به البلاد، والحقائق تُشير إلى العلاقة الارتباطية بين حالة النهضة التي تسير عليها الدول ومستوى الوعي السياسي لدى المجتمعات؛ فكلما ازداد الوعي تقابل ذلك مع نهضة شاملة في المجالات المختلفة؛ حيث إن حالة الوعي الإيجابي تؤكد على الفرد ضرورة المشاركة الفاعلة في بناء وطنه، وتؤصل لديه قناعة الدعم المستمر لما يُبذل من جهود متواصلة من قبل مؤسسات الدولة.
وتشارك وسائل الإعلام بتنوعاتها في التوعية السياسية؛ حيث يقع على عاتقها نشر الحقائق ودحض الشائعات بصورة مستمرة؛ إذ تُعد منبرًا صادقا وموضوعيا، يتسم بالمهنية في تناول قضايا المجتمع المتجددة، وعرضه للقضايا السياسية بشكل مستفيض من قبل محللين موضوعيين يؤهلون الجمهور لاستيعاب أدق التفاصيل وأعمقها وأصعبها على الأفهام، ويعفونهم من اللجوء لوسائل التواصل الاجتماعي أو للفضائيات التي تستهدف زعزعة الاستقرار في المجتمع، أو لا تلتزم الحيادية في التناول، وتسعى لتحقيق أجندات خارجية.
وتشارك المؤسسات المجتمعية بدور رائد في تنمية الوعي السياسي لدى الجمهور؛ حيث تؤكد على ضرورة المشاركات السياسية لمن تجب عليه، وتحض على أن يستقي الفرد معلوماته من الجهات الرسمية للدولة دون غيرها، كي لا تعرض للتزييف أو للشائعات المغرضة، كما تؤكد على أهمية التضافر المجتمعي لاستكمال النهضة، وتوضح التحديات السياسية التي تمر بها البلاد، وتحفز الجموع للانخراط في منظمات الدولة التي تتيح المشاركات السياسية الفاعلة، بالإضافة إلى إدارة النقاشات البناءة التي تعضد من دور الدولة وموقفها تجاه بعض القضايا السياسية المهمة والمحورية، وبما يعضد من موقفها عبر الظهير الشعبي أو الجماهيري المساند لتوجهاتها السياسية.
وهناك دور فاعل للمؤسسة التعليمية في تنمية الوعي السياسي بصورة إجرائية؛ حيث الاهتمام بتنمية المفاهيم السياسية لدى المتعلم والتي تجعله يشارك في العملية السياسية، ويعبر عما يجول في خاطره بآلية صحيحة، ويستوعب ضرورة الحوار البناء والمناقشة الحرة والمنضبطة مع الطرف الآخر وفق آداب وأسس تحقق الهدف المنشود منها، كما يتعرف على الحقوق السياسية، وصورة الحرية المسئولة التي تساعد في إيجاد مُناخ إيجابي يحض على العمل والبناء.
وينبغي أن تتضمن المناهج المدرسية أهدافا وأنشطة ووسائل تعليمية وطرق تدريس وأساليب تقويم، تعمل على تنمية الوعي السياسي بصورة مقصودة عبر المراحل التعليمية المختلفة؛ فمن خلالها تطرح القضايا السياسية، ويدار حولها المناقشات بغية إعمال العقل حولها من قبل المتعلمين، وهذا ما يسهم قطعًا في تنمية مهارات التفكير العليا لديهم؛ إذ يمارسون التحليل والتركيب والاستنتاج والاستنباط والنقد، وتقديم الحجج والبراهين لوجهة نظرهم، ومن ثم يتمكنون من إصدار أحكام مستندين على معايير واضحة في أذهانهم، وفي الحقيقة فإن ذلك يعزز مساحة التواصل الفعال بين الفرد ومؤسسات دولته، ويجعله يقدر الجهود التي تبذل على المستوى السياسي من قبل القيادة السياسية وممثلي الحكومة على كافة الأصعدة.
ويمتاز الشاب المثقف سياسيًا بمجموعة من الخصائص يأتي في مقدمتها معرفته الشاملة بما يتضمنه المجال السياسي على المستوى المحلي والدولي، وتلك المعرفة تُسهم بالطبع في تشكيل رؤيته ووعيه السياسي، بما يساعده على تحليل مجريات الأحداث ومن ثم يعمق لديه فهم القضايا السياسية بشكل يتسم بالعمق، وينمي لديه الرغبة في المشاركة السياسية وفق ما يتاح له وما قد يرغب أن يصل إليه، وهذا ما يجعله مهتمًا بالشأن السياسي بصورة إيجابية.
ويمتلك المثقف سياسيًا المقدرة على النقد البناء، بهدف التحسين والتطوير وإصلاح المعوج، حبًا في الإعمار والنهضة التي تتأتى من مواطنة صالحة؛ حيث أضحت المعرفة الصحيحة محفزة لإيجاد حلول مبتكرة من وجهة نظره، ويرغب في تبادلها مساهمًا في طرح ما يتناسب مع القضايا السياسية محل الاهتمام المجتمعي، ناهيك عن التزامه بمجموعة المبادئ التي يتمسك بها والتي تتسق مع قيم المجتمع وتحض على النهضة والتطوير وتعلي من مصلحة البلاد عن المصالح الشخصية الضيقة.
ويتوافر لدى المثقف سياسيًا الرغبة في التواصل المستمر بشتى الصور المتاحة؛ بغية إيصال رسالته التي يؤمن بها، ومن ثم ينخرط في المناقشات والحوارات التي تهتم بالجانب السياسي؛ ليعبر عما يجول في خاطره ويقدم من الرؤى والأفكار ما قد يثري الساحة السياسية؛ نظرًا لأنه يمتلك الرغبة في المشاركات الجماعية، ويستطيع أن يتعاون بشكل فاعل، بل ويشارك في التنظيم لإنجاح الفعاليات السياسية؛ لذا يتسم بالصبر والمبادأة بما يمكنه من تحقيق الغاية المنشودة.
ويعلو التقدير والتسامح واحترام الآخر قمة النسق القيمي لدى المثقف سياسيًا؛ إذ لا ينتهك الخصوصية، ولا يسعى لتشويه الآخر، ولا يحجر على رأي مخالف، ويحترم وجهات النظر المتباينة ويقدرها، ويستوعب المعارض ولا يتنمر به، ويستمع جيدًا لمن يحاوره، ويتناول الطرح بسلاسة وبساطة يستقبلها الآخرون وقد يثنون على أسلوبه، وفي حقيقة الأمر يعد التمسك بتلك القيم من دعائم الثبات الانفعالي لدى الفرد، إذا ما انفك عنها، فإنه يفقد التعامل الحسن والتواصل المحمود مع الآخر.
ويخرج الفرد من حالة الانعزال والتقوقع إلى حالة الاندماج التي تجعله قادرًا على ممارسة أدوار قيادية في ضوء ما يوكل إليه من مهام، وذلك عندما يمتلك الوعي السياسي الصحيح؛ إذ يدرك أن تحقيق أهداف المجتمع السياسي في احتياج لتضافر وتشارك، وأن العمل السياسي بات أمرًا يساعد في نهضة الوطن، ويلبي احتياجاته ويحقق أمنياته وتطلعاته.
ويحرص من يمتلك الوعي السياسي على أن يشارك من خلال القنوات الشرعية في العملية السياسية؛ ليصبح مؤثرًا ومعبرًا وحاضرًا في تلك العملية. وتعد الأحزاب السياسية أحد المنابر التي قد تساعد المثقف السياسي ليصبح منتخبًا، أو منخرطًا في الحملات الانتخابية، أو قادرًا على إيصال رأيه للمسئولين بالدولة، وداعمًا لرأي الجماهير عند حضوره للمنتديات والملتقيات والمؤتمرات ذات الطابع السياسي.
وتستلزم الثقافة السياسية مزيدا من المطالعة والمعرفة المستدامة، كما تتطلب متابعة مجريات الأحداث وتحليلاتها السياسية من قبل الخبراء والمتخصصين؛ كي يعمل المثقف سياسيًا على صقل خبراته، ويتمكن من استيعاب التغيرات التي قد تطرأ على الساحة المحلية والعالمية، ومن ثم يستطيع أن يتفاعل مع نظرائه على المستوى المحلي والدولي؛ إذ يمتلك من الأدوات ما يساعده في تقييم الأمور وإصدار الأحكام، بل والتنبؤ بالمستقبل.
وتتسق الثقافة السياسية مع تقبل الفرد لمبادئ المواطنة العالمية؛ حيث يستطيع أن يتعايش ويتعاون مع ذوي الثقافات المختلفة، بل ويعقد الحوارات، ويخرج برؤى مشتركة تؤكد جسور التعاون على المستوى الدولي، وتدحض فكرة الانعزالية، ويتطلب ذلك امتلاك المثقف سياسيًا مهارات التخطيط والتنفيذ ليحقق نمط التواصل الفعال الذي يحتاج لمهارات التفاوض والإقناع وتقديم الحجج وحسن التصرف في ضوء متغيرات المواقف وثنايا القضايا السياسية المطروحة.
هذا وقد قدمت القيادة السياسية مثالًا يحتذى به في التوعية السياسية من خلال الحوار الوطني؛ حيث الحث على مشاركة كافة القوى السياسية والمجتمعية في تناول قضايا الوطن وتنظيم الإطار السياسي للدولة بصورة ديمقراطية رائعة، أفرزت نتائج وتوصيات مهمة في هذا المجال.
حفظ الله مصرنا الغالية، ووفق قيادتها السياسية لمزيد من النهضة والازدهار، ومكن لشبابها سُبل الرشاد نحو مستقبل أفضل.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر