كانت الساعة تقترب من الرابعة صباح 1 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1967، حين أطفئت الأنوار على استاد الإسكندرية، وأسدل الستار على سيدة الغناء العربى أم كلثوم بعد أن قدمت ثانى حفلات مشروعها بالغناء فى المحافظات المصرية لجمع مليون جنيه، دعما للمجهود الحربى، وحضرت بعثة من التليفزيون الفرنسى إلى الإسكندرية للتصوير وللترويج للحفل المنتظر لأم كلثوم على مسرح «الأولمبيا» فى باريس، خلال نوفمبر 1967، واندهشت البعثة من كثرة عدد الحضور الذى بلغ 12 ألفا، حسبما يذكر كريم جمال فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».. «راجع، ذات يوم 31 أغسطس 2023».
قبل أن تبدأ أم كلثوم وصلتها الغنائية الأولى، صعد محافظ الإسكندرية حمدى عاشور إلى المسرح، وألقى كلمة أوضح فيها أن التبرعات التى جمعتها الإسكندرية للمجهود الحربى بلغت 400 ألف جنيه، منها 100 ألف جنيه جمعتها أم كلثوم موزعة على 64 ألف جنيه إيرادات الحفل، و40 كليو ذهب تبرعات من الصاغة والجواهرجية وسيدات الجمعيات الاجتماعية والخيرية بالإسكندرية وقيمتها 36 ألف جنيه.
يذكر «كريم جمال» أن «عاشور» أهدى أم كلثوم مفتاح مدينة الإسكندرية وشهادة تقدير تلا كلماتها للجمهور، ومما جاء فيها قوله: «تقديرا للدور الوطنى الكبير الذى تقوم به السيدة أم كلثوم إبراهيم فى تجميع القوى وحفز النفوس وجمع الأموال التى يقدمها الشعب للمجهود الحربى، يسعدنى باسمى وبالنيابة عن محافظة الإسكندرية بجميع هيئاتها الشعبية والرسمية أن أهدى مفتاح مدينة الإسكندرية إلى فنانة الشعب السيدة أم كلثوم إبراهيم، أهديه رمزا وتقديرا للجهود الصادقة والخدمات المخلصة والمعاونة البناءة، التى بذلتها وتبذلها فى سبيل تدعيم المجهود الحربى».
انتهى «عاشور» من كلمته، وبدأت أم كلثوم فى وصلتها الأولى بأغنية «انت عمرى» كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل، وألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب، ويذكر «جمال» أن البعثة الفرنسية ومعها الدكتور على السمان الذى كان يقوم بدور المترجم، ركزت كاميراتها على أم كلثوم وفرقتها بعدما افترش أعضاؤها الأرض أمام خشبة المسرح مشدودين لذلك الأداء الفريد، يرقبون فى شغف ذلك المشهد الباهر، ويلتقطون مشاهد التفاعل الجماهيرى مع أداء أم كلثوم.
يضيف «جمال»: «أدت أم كلثوم وصلتها الأولى فى 62 دقيقة تقريبا لم تخل من تفاريد سريعة فى مقطع «الليالى الحلوة والشوق والمحبة»، ورصدت الصحافة المصرية انطباعات البعثة الفرنسية حول ما سمعوه وما شاهدوه من أداء أم كلثوم، وينقل «جمال» متابعة مجلة الإذاعة والتليفزيون الصادرة يوم 9 سبتمبر 1967 حول ذلك، وجاء فيها، أنه بعد أن سجل التليفزيون الفرنسى أغنية «انت عمرى» كاملة، سجلت البعثة الفرنسية الوصلة الثانية أيضا بعد موافقة أم كلثوم، وخرجت «جاكلين» إحدى المخرجات فى البعثة من حجرة أم كلثوم تقول لمن حولها: «إنها سيدة عظيمة متواضعة، بصوتها وأدائها وفنها تصبح إمبراطورة الغناء فى العالم، لقد استمعت إلى أشهر الأصوات فى أوروبا وأمريكا لكننى لم أجد أروع من هذا الصوت وقوته».
يضيف «جمال»: بين الوصلتين دخل أعضاء البعثة لتسجيل حديث قصير مع أم كلثوم، وألقت المخرجة الفرنسية سؤالها بالفرنسية، وبينما كان على السمان يبحث عن كلمات تسعفه ليترجم السؤال إلى العربية، كانت أم كلثوم التى تجيد الفرنسية تجيب عن السؤال، كما ترجمته للصحفيين المصريين الحاضرين، وكان السؤال: طريق الفن طويل وصعب، فكيف استطاعت الفنانة العظيمة أن تجتاز هذا المشوار الطويل، وكيف استطاعت أن تنال إعجاب 100 مليون عربى «عدد سكان العرب وقتئذ»؟
أجابت أم كلثوم: «إننى أجتاز طريقى بالهواية، هواية الفن، وبالدراسة، دراسة الفن، وبالكفاح، الكفاح عن طرق الفن»، ويذكر «جمال»: «قبل أن تبدأ الوصلة الثانية، قالت «جاكلين» عن صوت أم كلثوم: «لو استطعت أن أجمع كل أصوات الطيور، وأحلى أصوات البشر، ثم عصرت كل هذا ليخرج منه صوت واحد، لكان هذا الصوت المركب أقل بكثير من حلاوة صوت تلك السيدة. إنها صوت وطاقة، وفن وأداء عجيب».
وصرح المصور الفرنسى للبعثة لمجلة الإذاعة والتليفزيون: «هذه العملاقة لا تغنى بالعربية، بل تغنى بالفن، والفن يفهمه كل الناس من كل مكان، الناس فى باريس يشدها الصوت القوى الملائكى، والأداء الجيد والتعبير الصادق، وأظن أن أم كلثوم أستاذة فى ذلك، فى باريس كل الناس تعرفها بالاسم، لكن عندما يستمعون إليها سيدركون على الفور لماذا يحب أم كلثوم مائة مليون عربى».
قدمت أم كلثوم قصيدة «الأطلال» كلمات إبراهيم ناجى، ألحان رياض السنباطى، ويؤكد كريم جمال: «رغم أن تلك الوصلة الغنائية ما زالت فى عداد المفقودات الكثلومية، ولم تذعها الإذاعة المصرية منذ ذلك الحين، فإن مجلة الكواكب الصادرة يوم 5 سبتمبر 1967 أشارت إلى أن أم كلثوم أدت تلك الوصلة فى ساعة ونصف الساعة تقريبا، بعدما استعاد جمهور الإسكندرية مقاطع القصيدة مرارا وتكرارا».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة