في وصف سيد درويش عام 83 -تقريبا في مناسبة مرور 60 عاما على رحيل فنان الشعب- قال عمنا الشاعر فؤاد حداد "في أيده حنه ...وريشة ومسطرين وسلاح...وكان مصري كامل...وكان عامل...وكان فلاح...وكان سيد وكان درويش...وكان واحد وكان الكل"
وبعد 100 سنة من رحيله مازال هو السيد وهو الدرويش وهو الإمام المجدد مفجر ثورة الأغنية المصرية وهو الثائر والثوري في ملحمة استقلال الوطن.
هي مناسبة لنفض غبار التشويه والظلم والتجاهل الذي تعرض له فنان الشعب في زمنه وبعد رحيله، فقد قاد سلطات الاحتلال الإنجليزي ضده والأسرة العلوية الحاكمة حملة ممنهجة لتشويه سيرته بعد أن ألهب حماس المصريين في ثورة 19 بأغانيه الوطنية من أجل الجهاد والحرية حتى ارتبط اسمه باسم ثورة 19 فأطلق عليه المصريون اسم فنان الشعب الذي غني للثورة وللفلاحين والعمال والصنايعية والباعة والبنائين والحمالين
كراهية الانجليز لفنان الشعب تجاوزت الوصف حتى في لحظات موته المثيرة للجدل، والتي لم تخلو من اتهام الانجليز أنفسهم في التورط في قتله واطلاق الشائعات حول موته بتناوله جرعة زائدة من الكوكايين أو الهيروين وهي الشائعة الظالمة التي مازال كثيرون يرددونها حتى الآن.
بلغت الكراهية حد مصادرة أغانيه ومطاردته في المسرح وتوجيه الرقابة الى حذف مقاطع من أوبريتاته وتغيير أسماءها مثل ما حدث مع أوبريت " شهو زاد" الذي أجبرته الأسرة العلوية والملك فؤاد بتغييره وحذف بعض مقاطعه الى اسم "شهر زاد" بسبب تناوله انحرافات وشهوات وملذات الأسرة المالكة في ذلك الوقت.
عداوة الانجليز لسيد درويش لم تقل عند عدواتهم لسعد زغلول ورفاقه، بل ربما تجاوزوا في كراهية درويش لأنه لم يتوقف عن تصدير مدافعه الغنائية ضد الاحتلال واستنهاض همة الشعب وتحريضه على استمرار الثورة في الوقت الذي دخل فيه " الوفد" في مفاوضات مع دولة الاحتلال
ألهبت أغاني سيد درويش روح الوطنية لدى الشعب المصري الثائر، وكان لها الدور الكبير في تغذية روح الجهاد والكفاح و المقاومة وتوحيد طوائف الشعب حول القضية ومواصلة الثورة، والمطالبة بعودة سعد زغلول ورفاقه من المنفى.
كان عمر سيد درويش خلال اندلاع أحداث ثورة 19 لا يتجاوز 27 عاما – من مواليد 17 مارس بالإسكندرية عام 1892- وانطلق بصوته يغني ضد الانجليز "بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي"، و "قوم يا مصري مصر دايما بتناديك" و"أنا المصري كريم العنصرين، بنيت المجد بين الإهرامين"،
ويقدم مع الكاتب بديع خيري مسرحية بعنوان "قولوا له"، قدما الاثنان من خلالها عددا من الأغنيات الوطنية من بينها أغنية "بنت مصر" التي قدمت على إثر استشهاد أول شهيدتين فى تلك الثورة، وهما "حميدة خليل" و "شفيقة محمد".
ويطلب درويش من بيرم التونسي أن يؤلف له أوبريت يلهب حماس المصريين ضد الاحتلال الإنجليزي، فكان طلب «درويش» من «بيرم» واضح وصريح، بأن تكون كلمات الأوبريت للرد على حُجة دولة الاحتلال بأن الشعب المصري ضعيف لا يستطيع حكم نفسه إلا من خلال حماية إنجليزية، فلابد أن تمجد كلمات الأغنية من المواطن المصري، فجاءت كلمات الأوبريت:
"أنا المصري كريم العنصرين بنيت المجد بين الأهرمين جدودي أنشأوا العلم العجيب ومجرى النيل في الوادي الخصيب"
فى ثورة 1919.. كان الشيخ سيد درويش على موعد مع قدر ثورة الشعب فى عام 1919، وكانت الثورة على موعد مع صوت وألحان درويش التى عبرت عن إرادة شعب ثائر ضد الظلم والاحتلال.
انفجار عبقرية سيد درويش لم يكن مصادفة، وإنما كان «إرهاصه» شعب يهفو إلى الحرية وتتشكل رغم كل وسائل القهر ملامح شخصيته القومية، وتنبت بداخله بذور الثورة والنهوض والكفاح ضد الاستبداد بمقدراته وقيمه ومثله، الحركة القومية المصرية هبت من جديد فى العقد الأخير من القرن الـ19 عندما ولد سيد درويش.
ولا ينبغي أن نغفل هنا أن سيد درويش عاش طفولته تحت ظل «مأساة دنشواى» وصيحات الوطنية بزعامة مصطفى كامل ومحمد فريد، وكان من الطبيعي أن تنصهر عبقرية الفتى الشيخ وينضج وعيه ووجدانه فى جذوة اشتعال الوجدان الوطني. ووضع الشيخ يده على حقيقة بسيطة أن يجعل كل الناس يغنون أحزانهم وأحلامهم وثورتهم.. بل أصبح درويش نفسه تعبيرًا عن هؤلاء الناس، وأخفى تحت عمامته ثورة الفن الغاضب والرافض لكل أشكال الظلم، وكانت الثورة هي الأتون التى انصهرت فيها عبقرية درويش لينطلق بصوته ليحيل الثورة إلى كلمات تلهج بها ألسنة وقلوب الشعب، ولذلك قال الناس وقتها إن لثورة 1919 زعيمين سعد زغلول وسيد درويش.
لم يتوقف فنان الشعب عند الغناء فقط في مواجهه الاحتلال ولكنه أيضا تصدر الجماهير فى قلب المسيرات والمظاهرات، وبجواره بديع خيرى، وهو يهتف بصوته بحياة الوطن والشعب و"الاستقلال التام أو الموت الزؤام" فجاءت أغنياته كهتافات سياسية أطلقها المصريون المتظاهرون في الشارع فور تلحينها.
يمنع الانجليز اسم سعد زغلول من الأغاني والمسرحيات والأوبريتات ومن النشر في وسائل الاعلام في أعقاب النفي الى جزيرة سيشل، فيتحايل سيد درويش مع صديقه بديع خيري على القرار الإنجليزي ويلحن أغنية تغني بها المصريون للمطالبة بعودة زعيمهم وهي أغنية "زغلول يا بلح يا بلح زغلول،... يا روح بلادك ليه طال بعادك"، كما اقتبس درويش من أقوال الزعيم مصطفى كامل عبارات استخدمها في صياغة النشيد الوطني المصري الحالي "بلادي بلادي لكي حبي وفؤادي"، وهو النشيد الذى أطلقه في أوقات اشتعال ثورة 19
كان عام 1919 أكثر السنوات إنتاجا فى تاريخ فنان الشعب سيد درويش الفني، فقد قدم في هذا العام 75 لحنا، وهو – كما يرى النقاد والمؤرخون الموسيقيون- دليلا على أنه كان متفاعلا مع مجريات الأحداث السياسية في البلاد بأعماله الفنية.
حارب الاحتلال بصوته وموسيقاه وفى كل موقع فعندما قبضت سلطات الاحتلال على ألوف العمال المصريين لكى يعملوا بالسخرة في مد خطوط السكك الحديدية التي تيسر انتقال جنود الاحتلال بين أقاليم مصر، ودفعت بمن بقى منهم على قيد الحياة للعمل قسرا في البحرية الإنجليزية، أطلق سيد درويش لحنه الخالد الذى هز وجدان مصر «يا عزيز عيني وأنا بدى أروّح بلدى.. بلدى يا بلدى والسلطة أخدت ولدى»، ومع عودة بقايا العمال غنى «سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة».
وفى أحد أيام 1919 والثورة المصرية فى عنفوانها واشتعالها حكمت السلطات الإنجليزية على شاب مصري بالإعدام لأنه قتل ضابطا إنجليزيا، واهتز ضمير مصر بالغضب والسخط لأن الحكم صدر فى نفس اليوم الذى قتل فيه الضابط الإنجليزي والتنفيذ فى اليوم التالى وكان صوت الثورة حاضرًا فى ألحان درويش وتفجر وجدانه الفنى، فأطلق أعذب وأحلى لحن لوداع الشهيد المصرى على لسان أمه الثائرة «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. أحسن غزال البر صابح ماشى».
واتساقًا مع وجدانه الثورى رفض درويش أن يغنى فى حضرة «صاحب الجلالة الملك فؤاد المعظم»، فى قصره وأمام الأمراء والوزراء لأنهم طلبوا منه حذف لفظ «سعد»، الزعيم سعد زغلول، من النشيد الذى أعده لاستقبال زعيم ثورة 1919 عند عودته من المنفى، ويضع مكانه لفظ فؤاد فيغنى «مصر وطنا.. فؤادها أملنا» بدلا من «مصر وطنا.. سعدها أملنا»، ورفض مع هذا الرفض مائة جنيه كان سيتقاضاها من القصر نظير غنائه، كما رفض أن يلقب «بمطرب الملك»، وفضل أن يكون فقيرًا ولكنه «فنان الشعب».
هل ندرك الأن لماذا كرهه الانجليز والأسرة العلوية وصحفها واعلامها في ذلك الوقت..؟ ولماذا حاولوا تشويه سيرته..؟
.. لم يكن القدر رحيما بالشيخ سيد درويش ولم يمهله وهو الصوت الذى قاد بفنه وألحانه ثورة 1919، أن يكون فى شرف استقبال زعيمه سعد زغلول من المنفى فقد مات يوم العودة فى 15 سبتمبر 1923 عن عمر لم يناهز الـ31 عاما، وفى الوقت الذى كان الشعب يغنى ألحان الشيخ سيد فى استقبال زعيم الثورة كانت روحه قد صعدت إلى بارئها ولم يشعر بموته أحد
يوم وفاته حملوه إلى مثواه ولم تحتفي به الدولة ولا الصحافة خوفا من سلطات الاحتلال وسطوة الملك فؤاد وحاشيته
والأمر المحزن والمثير للدهشة والاستغراب أن المؤتمر الأول للموسيقى العربية والشرقية الذى عقد فى القاهرة في الفترة ما بين 28 مارس و3 ابريل عام 1932 تجاهل تكريم الرجل الذى أحدث الثورة الحقيقية فى الغناء العربى فى القرن العشرين، وحرره من القصور والإسفاف.
والأكيد أن التجاهل كان سببه أن المؤتمر عقد برعاية الملك فؤاد الذي ساهم بقطعة أرض في انشاء " ناي الموسيقى العربية " قبل ان يصبح اسمه" معهد الموسيقى العربية" ووضع حجر الأساس له في عام 23 وكان من المنطقي عدم تكريم سيد درويش الذي هاجم الملك والاحتلال وتفاديا الصدام مع سلطات الحكم .
لكنه جاء التكريم من أوروبا فقد خلده النمساويون والإيطاليون، وضموا اسمه إلى أسماء الموسيقيين الخالدين لأنه سبق مشاهير الملحنين وقتها إلى الموسيقى والألحان الغربية مثل السامبا والفالس والتانجو.
أما حكاية تعاطيه المخدرات ووفاته وعدم تجاوب الانجليز مع طلب اسرته تشريح جثته في ذلك الوقت لتبرئته من تهمة التعاطي ..فهذه قصة أخرى