تُعدّ ُالسياحة رافدًا مُهمًا للفرد وللمجتمعات وللأوطان؛ حيث تحقق للفرد المتعة والترفيه والاستجمام الذهني والروحي والنفسي والعقلي والبدني، وتُشكّل وسيلة للاتصال الثقافي والحضاري الذي يساعد على تكوين الشخصية القوية وتقليل المسافات بين الشعوب، وبواسطتها يتم التعرف على الأنماط المتباينة من صور العلاقات الاجتماعية أو ثقافات وعادات وتقاليد الشعوب الأخرى، كما أنها تُمثِّل رافدًا ماليًا واقتصاديًا مهما للأوطان.
وتتعدد أنماط السياحة لتشمل السياحة الدينية والثقافية وسياحة الآثار والرياضية والشاطئية والساحلية والعلاجية وسياحة المنتجعات الصحية والترفيهية والترويحية وسياحة المشتريات، بالإضافة إلى سياحة المؤتمرات والندوات العلمية والمهرجانات.
وعندما تسعى الدولة إلى تطوير الخدمات السياحية وتتوسع وفق مخطط استراتيجي لتوفير مقومات واحتياجات ومتطلبات القطاع السياحي؛ فإنّ نِتاج ذلك يتمثّل في النموّ المطرد لهذا القطاع الذي يُشكل موردًا اقتصاديًا من موارد الدخل القومي للبلاد؛ إذ يُسهم في تحسين ميزان المدفوعات، ويُعدّ من روافد توفير العملات الأجنبية، ويساعد في إيجاد فرص عمل، مما يحد من البطالة، ويعمل على تحقيق زيادة الدخول ورفع معدلات الأداء للاقتصاد من خلال تنشيط الدورة الاقتصادية، وتحسين مستوى المعيشة وتحقيق جودة الحياة؛ بالإضافة إلى تنمية الحياة الاجتماعية والثقافية لأفراد المجتمع، وكغيره من القطاعات الاقتصادية يواجه تحديات جمّة على رأسها السعي المستمر نحو نيل الريادة والتنافسية على مستوى سوق السياحة العالمي.
وقد سعت القيادة السياسية إلى التنمية والتطوير للمواقع السياحية؛ فحرصت على تلبية الطلب السياحي المتمثل في زيادة المواقع السياحية؛ فهناك أماكن تعمل على جذب السياح إليها كمدينة الفسطاط لما تمتلكه من مقومات وفرتها الدولة، تمثلت في إطارها الجغرافي المتميز وخصائصها الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية المتفردة؛ حيث تعد مركزًا سياحيا يسهل من خلاله انطلاق السياح، إليه ومنه، بسهولة ويسر تامين، لكافة المزارات السياحية.
ولقد وجهت سياسة الدولة في ضوء استراتيجيتها التنموية إلى تطوير السوق السياحي بعد الجهود التي بذلت في تنمية وتطوير الأماكن السياحية بمختلف أنماطها، واعتمد ذلك على معيار الجذب عبر العروض التسويقية التي تقدمها الشركات والمؤسسات المعنية مدعومة من وزارة السياحة المصرية بما يتناسب مع خصائص السائحين، ما ساهم في تحقيق نتائج مرضية، وتأمل الدولة في تحقيق الأفضل منها بصورة مستمرة.
وتعد السياحة الدينية من أقدم أنواع السياحة، والتي تنطلق من دوافع إيمانية بحتة؛ وتتسم بالرقي والديمومة وكثافة التواجد؛ فيقصد السائح الديني مواقعها بغرض إشباع حاجاته الروحانية، أو تأدية واجبات عقائدية، أو ممارسة طقوس مقدسة في أجواء مفعمة بالإيمان؛ ليصل من خلالها لحالة من الطمأنينة والاستقرار النفسي.
وتشير استدامة السياحة الدينية إلى تجنب تعرض الموقع الديني المقدس إلى النضوب أو الاندثار أو التعرض لاختلالات التوازن البيئي أو التلوث بإحدى مسبباته؛ ولضمان الاستدامة ينبغي توفير الإمكانات المادية للوصول للموقع عبر شبكة مواصلات سريعة وتوفير الخدمات من فنادق ومطاعم وغيرها، مع الاهتمام بالموقع الديني والعمل المستمر على تطوره وصيانته والحرص على تنفيذ كل الوسائل والتعليمات ذات التفاعل الإيجابي مع البيئة لحمايته، ويرتبط بالاستدامة تعضيد الجانب المعنوي لدى السائح الديني المتمثل في العمق الإيماني، وتنقية الفكر نحو الموقع الديني المقدس وفق دوافع نشر المحبة والسلام والتعايش والتقارب وتكوين الصداقات، ومن ثم تولي الدولة المصرية اهتمامًا بالغًا بتدريب وتأهيل الكوادر البشرية اللازمة لإدارة المواقع الدينية المقدسة لضمان حسن استقبال الزوار إليها، مع توافر كافة أسباب الراحة والأمان والطمأنينة عند زيارتها.
وتتميز السياحة الدينية بفعاليتها في تمدد اللقاءات الاجتماعية بين السائحين مع بعضهم البعض وبين أبناء الوطن؛ ما يؤدي إلى تبادل الأفكار والخبرات والتعاملات، وتأكيد الهوية الوطنية؛ بالإضافة إلى إبراز مكنونات التراث الحضاري، وتحفيز التبادل الثقافي، واكتساب اللغات المتعددة، وإضفاء اللمسات الفنية عبر الحرف الجاذبة التي تعبر عن حضارة الدولة، وتطوير المهن المرتبطة بالمجال السياحي، ناهيك عن تنويع أنماط السياحة وتطوير صناعتها باعتبارها عاملًا رئيسًا لاستقطاب قوي في اقتصاديات الدولة ومحركًا لديناميكية التجارة والتنمية في أرجائها، فضلا عن كونها داعمًا للتطوير المستدام لكل ما تمتلكه من مقدرات، ولبنيتها الأساسية، وفي هذا الخضم يمكننا القول بأن السياحة الدينية تؤثر في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والديموغرافية والتقنية والسياسية؛ إذ إنها ضرورة يتحقق بواسطتها الاتصال الروحي بين الفرد وربه.
والمتمعن لما أحدثته القيادة السياسية من طفرة إعمار في بلادنا الحبيبة يرى بعين البصيرة كافة المرتكزات التي ساهمت في تطوير السياحة الدينية، وساعدت في تحقيق غاياتها المتنوعة؛ حيث أعلت الدولة من القيمة الدينية للمواقع المقدسة، ومن ثم كانت، وما زالت، العناية بشتى المواقع الدينية؛ فوضعت البرمجة الخاصة بها وزادت مخصصات الصيانة والرعاية، وتولى شأنها أناس مؤمنون بأهمية المقدسات الدينية، يعرفون ثقافة بلادهم ويتبنّوها، كما يعرفون ثقافة المقدسات وقيمها الروحية، وفي جوار المقدسات شُيّدت الفنادق والمطاعم ووفرت كافة الخدمات في صورتها المتكاملة والتنافسية من حيث الأسعار والجودة، ووفرت المنتجات السياحية التي تشير إلى القيمة الروحية للمقدس الديني، وأُتيحت شروحات المزارات الدينية وخريطتها- مجّانًا- لجميع السياح؛ لنشر الثقافة ومعالم الأماكن التي تؤكد على التنوع الذي يشعر النفس بالارتياح ويدفعها لمزيد من حب الاستطلاع، والرغبة في زيارة العديد من المزارات الدينية وغير الدينية، وما تقدم يؤكد على أن الدولة المصرية تمتلك إستراتيجية تسويقية واضحة المعالم للسياحة الدينية تدعمها القيادة السياسية الرشيدة.
وبما لا يدع مجالًا للشك فإن نموذج السياحة الدينية في الجمهورية الجديدة يعمل على التقارب بين بني البشر، ويسهم في تحييد الخلافات بأنواعها المختلفة، ويوحد لغة التواصل في صورته العقائدية أو الروحية، وهذا ما يبرز في النفوس أهمية الأخوة، سواء ارتبطت بالمعتقد أو بالمقدس، وهنا تتولّد المبادئ الإنسانية التي تنشدها طبيعة البشر؛ حيث تحقيق المصالح، ودرء المفاسد، والاحترام المتبادل والالتزام في العهود والمواثيق بما يحقق التعايش السلمي ويضعف الضغينة ويقضي على الأحقاد ويعلي من النسق القيمي الذي يتسق مع طبيعة الأديان السماوية، ولهذا أضحت السياحة الدينية مطلبًا رئيسًا في حياة البشر؛ إذ تُشكل صناعة الألفية الثالثة، وهو ما أشارت إليه منظمة السياحة العالمية؛ فقد أكدت على أن زيارة الأماكن المقدسة في جميع المجتمعات هو أحد الدوافع الرئيسة للسياح في العصر الحالي.
ولا ريب من أن العقيدة الوسطية المصرية ساهمت بقوة في دعم المعتقد الديني واحترامه وتقديره لشعوب الأرض، وقد كان لذلك أثر واضح في تنشيط السياحة الدولية لمصر، ما عمل على زيادة الجذب السياحي، وشواهد التاريخ تؤكد أن السياحة الدينية في مصر لها طابع أثري وديني وحضاري، وقد شكل في الماضي وازعًا دينيًا حرّك آلاف البشر نحو المزارات الدينية؛ ففي مصر الفرعونية كانت الزيارات من أرجاء المعمورة متوجه للإله آتون وآمون وغيرهما، وكان الإسكندر الأكبر من الوفود التي جاءت لمصر لزيارة معبد آمون في سيوة، كما ذكر التاريخ أيضًا أن كثيرًا من الوفود جاءت من أوربا إلى مصر للزيارة وتقديم القرابين، وهناك مدينة وادي النطرون بمحافظة البحيرة والتي تعد مزارًا قبطيًا سياحيًا متميزًا يعود للقرنين الرابع والخامس الميلاديين، ودير سانت كاترين في جنوب سيناء بمصر أسفل جبل كاترين، أعلى جبال مصر، بالقرب من جبل موسى، ويعتبر أقدم دير في العالم، وهو مزارٌ سياحيٌ كبير، تقصده أفواج سياحية من جميع بقاع العالم، وهناك أيضًا الجامع الأزهر الذي يعد أشهر مسجد للعلوم والفكر الإسلامي منذ إنشائه قبل أكثر من ألف عام، وحتى يومنا هذا.
والأمل معقودٌ في الترويج للسياحة الدينية مقرونة بالتنويع؛ لتشمل السياحة العلاجية وسياحة السفاري عبر التلال والحواف المرتفعة التي تتميز بها الأماكن المقدسة، وينبغي أن يتم إعداد أفلام تسجيلية عن المواقع المقدسة في ضوء ما نالها من تجديدات للبنية التحتية الخاصة بها، وشبكة المواصلات التي تميزت بها الدولة المصرية وصارت نموذجًا عالميًا؛ بالإضافة للمظهر الحضاري من حيث النظافة والمنشآت الخدمية من فنادق ومطاعم ومراكز للإعلان المناسبات السياحية الدينية والترفيه والتثقيف في صورة عروض مميزة للفلكلور المصري.
حفظ الله وطننا، ووفق قيادتنا لمزيد من الازدهار والنهضة والرقي.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر