من بين المعارك الفنية التي خاضها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، واحدة من المعارك الغريبة والعجيبة والتي يبدو أنه – أي حليم- تورط فيها من أجل طرف آخر ولم تكن معركة خاصة به مثل باقي المعارك الفنية والتي انتصر في معظمها ..الا هذه المعركة والتي خسرها سريعا ورفع " الراية البيضا" فيها سريعا ولم يكن لها أية مبرر.
فلماذا دخل حليم معركة فنية دارت رحاها على صفحات المجلات والجرائد الفنية في عام 60 ضد فنان الشعب وخالد الذكر سيد درويش الذي كان قد مر على وفاته 37 عاما..؟
ما سر هجوم العندليب على فنان رحل عن الدنيا منذ عشرات السنين وهو الذي دخل في حروب فنية طاحنة مع كل من هدد مشروعه الفني وخرج منتصرا فيها..
معارك حليم طالت أم كلثوم وفريد الأطرش وحتى أستاذه محمد عبد الوهاب وأصدقاءه محمد الموجي وكمال الطويل ونجاه ومحمد قنديل ومحمد رشدي وفايزة أحمد ووردة .. وكلها انتهت بالصلح بعد أن حقق مراده منها..!
لكن في هذا العام بالذات وبدون مقدمات يصدر عدد صحيفة الجمهورية يوم السبت 18 يونيه 1960م من صحيفة "الجمهورية" وفي الصفحة التاسعة منه مقالا غريبا للغاية للكاتب المعروف راجي عنايت تحت عنوان " رأي غريب" يتضمن هجوماً من عبد الحليم على موسيقار الشعب سيد درويش وجاء فيه على لسان حليم بأن " سيد درويش أسطورة كاذبة، موسيقاه كانت شيئا في زمنه، أما الآن فموسيقانا التي نقدمها تفوق موسيقاه بمراحل، فموسيقى سيد درويش متخلفة بالنسبة لموسيقى عصرنا".
القصة ذكرها الدكتور نبيل حنفي في كتابه " معارك فنية"، فما سر هجوم عبد الحليم على سيد درويش ومن الشخص الآخر الذي أراد مجاملته على حساب فنان الشعب..
في رأيي أن حليم ورط نفسه في هذا المعركة الغير منطقية وربما كانت احدى هفواته القليلة وخانه ذكاءه الذي عرف عنه عند ادارته لباقي المعارك الفنية التي خاضها حتى مع الكبار الى حد أن تمادى في الهجوم على سيد درويش ووصفه بالتخلف وبأن الكوكايين قضى عليه.
فهل تورط فعلا في هذه المعركة؟
بالفعل كانت ورطة في مجاملة لأستاذه وشريكه في شركة صوت الفن الموسيقار محمد عبد الوهاب.. والحكاية بدأت عندما أشيع في ذلك الوقت أن أحد أبناء خالد الذكر سيد درويش وهو محمد البحر سيقيم دعوى قضائية ضد عبد الوهاب، لأنه صرح لأحد الصحفيين بأن مخدر (الكوكايين) قضى على سيد درويش.
ودخل حليم طرفا في المعركة مدافعا عن " أستاذه" عبد الوهاب قائلاً إنه- أي عبد الحليم- درس هذه الحقيقة في معهد الموسيقى العربية، وأن دفتر محاضراته يضم محاضرة عن سيد درويش ورد ضمنها أن المخدرات قضت عليه".
المفاجأة التي لم يتوقعها عبد الحليم حافظ أن رأيه الذي ورد في مقال راجي عنايت في صحيفة " الجمهورية" أثار ضجة كبرى ورأيا عاما معاديا ومهاجما للعندليب الأسمر وكان أشبه بالصدمة للوسط الفني والأوساط الاجتماعية الأخرى وأصيب الجميع أو كل من قرأ المقال بالحيرة والدهشة من رأي حليم فلم يجدوا له سببا واحدا يجعل عبد الحليم يدلي بهذا الرأي الغريب ضد رائد التنوير الموسيقي في مصر .
في تلك الفترة كان حليم هو الفتى المدلل لدى النظام السياسي الجديد في مصر فهو صوت الثورة التي قام بها الضباط الأحرار بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر واستطاع بصوته وكلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل أن يجعل الناس في مصر تغني شعارات المرحلة الجديدة وترسخ لزعامة قائدها ولم يجرؤ كاتب خلال سنوات الخمسينات والستينات أن يهاجم حليم الذي تربع على عرش الغناء فاحتواه الجميع بكل الحب والتقدير والرعاية.
فوجئ حليم بالهجوم عليه وكانت صدمة له أيضا من الأسماء الكبيرة لكبار الكتاب والصحفيين الذين " تجرأوا " وهاجموه بسبب سيد درويش وكأن لسان حاله ردد بينه وبين نفسه " هذا ما جنيته على نفسي" . فكلام العندليب استفز النخبة الصحفية والموسيقية في مصر ونددت وأدانت أراءه في سيد درويش وموسيقاه وألحانه الخالدة. وشاركت كافة الصحف والمجلات التي كانت تصدر في ذلك الوقت في الحملة دفاعا عن سيد درويش وانتقادا وهجوما على عبد الحليم.
كان من بين من هاجموا وانتقدوا حليم من كبار الكتاب بعض من أصدقائه مثل إحسان عبد القدوس ومأمون الشناوي ومحمد حسن الشجاعي ومحمود الشريف وأحمد حمروش الذي قال في مقال له إن عبد الحليم كان بعيدا عن التوفيق ويتنافى تماما مع الصورة التي يرسمها الناس للمطرب الوديع الحالم الذي يستثير عواطفهم بشخصيته الهادئة، وأطلق كلمات قاسية فيها هجوم شخصي على فنان كبير لا يستطيع أن يدافع عن نفسه لأنه توفي من عشرات السنين. وتساءل الأستاذ أحمد حمروش في رده بالجمهورية عن دوافع عبد الحليم فيقول: "ما الذي دفع عبد الحليم إذن إلى إلقاء هذه الكلمات الجارحة، وما الذي يستفيده من التشهير بالحياة الخاصة لفنان كبير راحل؟"
ويبدو أن حليم أدرك أن مجاملة " أستاذه " والتقرب اليه بالهجوم على سيد درويش فتحت عليه " أبواب جهنم" و بدأ الإحساس بالندم يشغله، فلم يجد أمامه طريق سوى التراجع بعد أسبوعين تقريبا من حملة هجوم لم يعتاد عليها ولم يسانده فيها أحد، فلجأ الى صحيفتي الجمهورية والأخبار للرد والتراجع وتصحيح أراءه.
خرج "حليم" في حوار مع صديقه الشاعر الغنائي مأمون الشناوي بجريدة "الجمهورية" في باب "أحاديث الأسبوع يقول: لست ملحنا حتى أحقد على سيد درويش، كيف يتهموني بالحقد على سيد درويش، هل أنا ملحن حتى أحقد عليه، هل عشت في عصر سيد درويش ورفض أن يعترف بى؟، هل كانت حياة سيد درويش حياة ناعمة سهلة تثير الحقد؟، إن حياة سيد درويش كانت مأساة طويلة تستحق العطف والرثاء والبكاء"، وبدا من تلك السطور أنه نادم على ما صرح به قبل ذلك لراجي عنايت، وحاول أن يصحح ما تركه من آثار سيئة لدى القراء والنقاد، فكان مما قاله لمأمون الشناوي في نفس الحديث "إن سيد درويش هو الذي وضع الأساس للموسيقى المصرية الصحيحة بعد أن كانت مجرد بشارف وموشحات تركية"، ولعل سطوة المخّدر التي لجأ إليها سيد درويش هرباً من ظلم الحياة وإغفالها لشأنه هي التي أثرت في عمر حياته وعمر فنه".
في ذات اليوم 25 يونيو 1960 أيضا يصدر حوارا لحليم في صحيفة "أخبار اليوم" في مقال للكاتب والمؤلف جليل البنداري حمل عنوان: "عبد الحليم حافظ يقول: سيد درويش اخترع الشموع وعبد الوهاب اخترع الكهرباء!"، - وحسب ما جاء في كتاب معارك فنية – فقد صاغ البنداري مقاله في صورة سؤال منه وإجابة من عبد الحليم، تميزت إجابات عبد الحليم في ذلك المقال بالمباشرة والصراحة في هجومه على سيد درويش، ونحى عبد الحليم جانباً محاولاته في عدد نفس اليوم من "الجمهورية" لتخفيف وقع حديثه السابق عن سيد درويش، واستعان بآراء لكتاب آخرين وأفاض في ضرب الأمثلة لتوضيح أسباب هجومه على سيد درويش، بدأ عبد الحليم حديثه مع جليل البنداري بقوله: "نعم أنا قلت أن سيد درويش كان يتعاطى المخدرات والكوكايين .... أنا لست جباناً حتى أنكر رأياً قلته بلساني!"، ثم يتبع ذلك بتقديم دليله على ما يقول، وقد تمثل هذا الدليل في كتابين .... أحدهما لأستاذ بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية يدعى محمد إبراهيم والآخر هو كتاب "ذكريات" للسيدة فاطمة اليوسف.
أخذ عبد الحليم يقرأ لجليل البنداري ما تضمنته بعض صفحات الكتابين من تفاصيل دقيقة عن تعاطي سيد درويش لأنواع كثيرة من المخدرات، ولينتقل بعد ذلك إلى تقييم أعمال سيد درويش فيصفها بأنها قد أضحت قديمة قدم المصباح الذي يعمل بالزيت، وذلك إذا ما قورنت بموسيقى محمد عبد الوهاب والتي تشبه – على حد تعبير عبد الحليم– مصباح الكهرباء..!
انتهت المعركة بتراجع حليم بعد درس قاس للغاية وبعد أن كاد يخسر معركة بكل المعارك الفنية الأخرى التي خاضها..