من يريد أن يتعامل مع الحوار الوطنى بجدية سوف يكتشف كم وكيف التغير فى المجال العام والحوارات والنتائج التى تحققت، ومن يريد أن يغلق عينيه وأذنيه وينظر من ثقب ضيق، سوف يبقى عند نقطة قاتمة، وفى السياسة هناك مساحات للتوافق والجدل، ومهما كان التصور قبل بدء الحوار الوطنى، فهو يختلف عما بعده، ومنذ البداية لا يوجد حوار من طرف واحد، لكن الحوار يقوم بين أطراف مستعدة لقبول الاختلاف والتنوع.
وتثبت تجربة الحوار الوطنى أن أفضل طريق هو الحوار بلا شروط، وبصراحة ومن دون لف أو دوران أو إخفاء للنوايا فى أغلفة كلام كبير، وأن تلتزم التيارات بما تطالب به الآخرين، بالشفافية والوضوح، خاصة وقد وصل الحوار إلى مراحل مهمة بعد الانتهاء من بعض التوصيات والمطالب ورفع بعضها إلى الرئيس أو المجالس النيابية تمهيدا لإصدارها فى تشريعات، وهى توصيات بعضها يتعلق بالعمل السياسى، أو حريات الرأى وتداول المعلومات، أو توصيات متوسطة وبعيدة المدى تتعلق بالتعليم والعلاج والاقتصاد والمجتمع، والتى تتطلب بالفعل المزيد من المناقشات تحولها إلى خطط قابلة للتنفيذ.
وأهم مكاسب الحوار أنه فتح الباب لقطاعات كثيرة من المجتمع السياسى والأحزاب والمنظمات الأهلية، لتطرح وجهات نظرها، ومطالبها للمشاركة فى العمل العام بقواعد حاكمة تفرض نفسها على الجميع، بل وحتى تفتح الباب لطرح انتقادات وآراء للتفاعل مع ما يجرى.
والواقع أن الحوار الوطنى بقدر ما كشف عن إمكانات لدى قطاعات من السياسيين والحقوقيين فى النقاش وطرح الأفكار والسعى إلى توافق، فقد كشف أيضا عن فقدان بعض الشخصيات من الزعامات أو النشطاء للبوصلة والقدرة على المناقشات الجادة، ووقوف البعض عند أزمنة تخطاها الواقع، وتجاوزتها الأحداث، أو أن البعض ممن يطرحون آراءهم وأفكارهم يعجزون أو يتجاهلون التعامل بنفس المقاييس مع نفس القضايا، بل وأحيانا يتجاهلون حجم التحولات التى يشهدها الواقع محليا وإقليميا وعالميا. وهى تحولات غيرت من شكل السلطة وطرق ممارستها، والدور الذى تلعبه مواقع التواصل ومنصات النشر.
ونكرر أننا فى عصر التكنولوجيا والنشر الواسع ومواقع التواصل، من الصعب على أحد أن يزعم وجود حجب أو منع لرأى، بل إن الأمر يتجاوز الرأى إلى إطلاق أكاذيب وحملات ممولة من منصات تنطلق من جهات متربصة، ومنصات ليس من مصلحتها أن ينجح الحوار أو يتم استيعاب الجميع، وإنما تدفع هذه المنصات نحو الصراع وتبذل كل جهد لاستمرار الخلاف، وتعتمد على الشائعات أو المعلومات والتقارير المغسولة، وتضخم كل موضوع بلا أى ضرورة، وهى منصات يمولها التنظيم الإرهابى وأجهزة الاستخبارات وتضغط منذ بداية الحوار الوطنى لفرض نفسها ودعوتها إلى حوار ليست طرفا فيه، ولا مدعوة إليه، وقد تكشفت الحقيقة من شهادات أعضاء انشقوا عن تنظيم الإرهاب، أو عملوا داخل خلايا التحريض بالخارج وخرجوا ليعترفوا أنهم يتلقون تعليمات بشن هجمات على الدولة، وتقارير مغسولة ومفبركة، لإجبار الدولة على قبولهم أو التجاوز عن خطاياهم وجرائمهم فى دعم الإرهاب.
وعندما أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى، مبادرته، ودعا لحوار وطنى لا يستبعد أحدا، اختلفت ردود الفعل بين التيارات السياسية والأهلية والحزبية، كان الجميع مدعوا للحوار، فقط تم استبعاد الإرهابيين وداعميهم ومنصاتهم، ومن تلوثت أيديهم بالإرهاب أو التحريض عليه، وهى حسبة منطقية، لكن بعض التيارات والزعامات تصورت أن الحوار يتم لإرضاء الخارج أو بسبب ضعف أو تراجع، بالرغم من أن الأمر كان واضحا أنه يتم بعد انتهاء الإرهاب ووصول الدولة إلى لياقة تسمح بالمزيد من التوسع فى المشاركة وإدارة التنوع.
من هنا يمكن التفرقة بين سياسيين يطرحون آراءهم من منطلق محلى أيا كانت قوتها أو حجم الانتقاد فيها، وبين تيارات تستقوى بالخارج وتظن أنها يمكن أن تمارس نوعا من الضغط، وممارسة السب والقذف والتحريض، وبقدر ما يظهر الحوار تنوعا فى الآراء، فهو أيضا يكشف عن نوعية من المعارضين الافتراضيين الذين يعجزون عن المناقشة ويختفون خلف صوت عالٍ أو كلام مبهم ومجرد رد فعل، من دون قدرة على تقديم رأى أو فكرة، فضلا عما يكشفه خطاب بعض النشطاء على المعاش، ممن يعجزون عن الحوار، ويكتفون بالمزايدة أو الابتزاز.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة