إن أردت أن تكسب حربًا؛ فعليك خوضها أوّلاً. الانصراف عنها أو الانسحاب من أوارها هزيمةٌ مُكلِّفة؛ ولو خرجت بوجهٍ باسم وثياب نظيفة، والانتساب لها بالتلويح من بعيد بطولةٌ مجانيّة. فى السياسة يجوز أن تخسر كل شىء؛ إلّا نفسك، كما لا ينفع أن تربح من دون أن تتعفَّر بغبار الميدان.. هذا من زاوية التنظير؛ أما التطبيق فلا ينضبط دومًا بالأعراف التى يصكُّها السياسيّون أنفسهم. فى المشهد الراهن يتكبَّد كثيرون فواتير باهظة، من خفَّة المُقاربات وسوء إدارة مواقعهم من الساحة، ويُفتِّش آخرون عن بريقٍ رخيص، باستمراء الرَّطانة والإدمان على مَضغ المحفوظات الدعائيّة الرثَّة. إن كان وجود السلطة يستدعى بالضرورة إيجاد المعارضة، فإنّ التوازن على كفَّتى ميزان ليس كافيًا لتمرير المشروعية وحراستها، فيما تتمدَّد الدعائية فى الهواء بينما تتآكل الأرض من تحتها.. هل تدرك الأحزاب السياسية أنها تختبر مأزقًا وجوديًّا ينبع من داخلها بالأساس؟ وأن بهاء الأيديولوجيا وبلاغة خُطبها لا يتجاوزان اللافتات ولا يعبران حناجر الخطباء؟ ليست الخصومة مع الحُكم كما يطيب لهم ابتكار أسطورتهم الصغيرة؛ بل مع ذواتهم التى تضخَّمت حتى ابتلعت التيّارات ومُدوَّنات القِيَم، فأصبحت صراعات الداخل أخشن وأردأ من أيَّة مُنازلات مع الآخر/ الدولة أو الشارع.
الأسابيع الأخيرة عكست شيئًا من عُكارة البطن. تشابك اثنان من اليمين واليسار، المُشترك أنّهما نجمان فى السياسة، صديقان فى المُعارضة، ومُتقاطعان فى بيئةٍ ائتلافية يَنظُمها أصدقاءٌ مُشتركون. بلغ النزاع حدًّا يُلامس البذاءة ويخرق القانون؛ فلجأ الذى رأى نفسه مُتضرِّرًا لجهات التحقيق. إلى تلك النقطة تبدو الحال عاديّةً تحت سقف الدراما المقبولة؛ إنّما غير العادى أن تحتشد التيّارات فى معركة شارع، وأن تنفتح لغةُ السياسة على بياناتٍ منطقُها «انصر أخاك»، ثم الالتفات عن طرفى النزاع والتماس شمّاعة من خارج الأخويَّة، ولم يخلُ الأمر من لومٍ على الالتجاء للمسارات القانونية. إنها عبثيَّة كاملة، يُغلّفها سُقوطٌ مُركَّب: أوَّلاً العجز عن إدارة مجالٍ حيوى يُفترَض أنه مبنىٌّ على وفاقٍ ولُغة واحدة، وثانيًا الاصطفاف بنكهةٍ بدائيَّة تضع المصلحة فوق القيمة، وثالثًا التوظيف السياسى من أجل المُزايدة بدل الاعتراف بالخطأ والتردّى الأخلاقى، ورابعًا التعالى على حاكميَّة القانون بينما يرفعونه مثل «قميص عثمان» فى وجوه الخصوم، وأخيرًا القفز على شبهات التُّهم المُتبادَلة من داخلهم، بين فسادٍ وعمالة، كأنه لا حقَّ للجمهور الذى يخطبون وِدَّه أن يستوثق من طهرانيّة الخاطبين. فى السياسة يُمكن أن تتجاهل كل شىء، إلا بُقعة على ثوبك تأتيك من داخل البيت، لا من أثر معركةٍ مع غريم أو مُنافس.
القضيّة السالفةُ هامشٌ لا متن، وما طرحتها إلا على سبيل التمثيل والاستدلال. الأزمةُ أعمق من النجمين البارزين، ومن فاصل التلاسُن الذى خَطّوه بين فقرات ملهاةٍ سياسية، استطالت لأكثر من ثلاثة عقود. لا يلفت فى الرحلة الطويلة إلا أن خطاب المُعارضة لم يتغيَّر: قبل يناير 2011 تخبَّطوا بين خِفَّة وشعبوية وتحالفاتٍ مشبوهة ورفعوا لافتة المظلوميّة، وبعد يونيو 2013 تلبَّسوا الحياد المُتحامل والتزيُّد الفجَّ وبعض صلاتٍ بالأعداء ورفعوا لافتة المظلومية أيضًا، وبينهما كانوا خنجرًا فى خاصرة الشارع ومعبرًا قفزته الرجعيَّة الدينية نحو السلطة، ولم يتخلّوا عن مظلوميَّتهم. عجيبٌ أن يختبر الليبراليون جماعة الإخوان فى تحالفين انتخابيين بالثمانينيات، ثم يُلدَغ الناصريّون من نفس الجُحر فى 2012، ثم يتبعهم الماركسيّون وقطاع فى اليسار الديمقراطى من وقتها إلى الآن. لا تقع الإدانةُ فى نطاق بلاهة التكرار فقط؛ إنما فى خيانة الأيديولوجيا، ووضع رقبتها رضائيًّا على مذبح خصومها؛ حتى أن قياديًّا ناصريًّا تجرَّأ بعد ثورة يناير على الاعتذار للجماعة الإرهابية عمَّا عُوقبوا به فى الستينيات، رغم أنه كان حقًّا لا افتئاتًا، وكان عن جرائم لا توهُّمات.
محنة الأحزاب تنبع من ذهنيّة ناسها، لا من خارج أبنيتها. الحقبة شبه الليبرالية قبل 1952 شهدت صراعاتٍ وانقسامات، طالت حزب الأغلبية نفسه، ولم يكن موقوفًا فى قيود المُعارضة أو معزولاً عن حاضنة الشعب. ويبدو أن المرض ظلَّ كامنًا فى قَعر الروح، ثمَّ تجدَّد مع استعادة التجربة. تنبنى كيانات السياسة فى بيئتنا على قاعدةٍ شخصية أو مصلحية، ثم تأتى الأيديولوجيا غطاءً ساترًا للتوازنات المُفخَّخة، وفى تلك الصيغة قد يتفكَّك المعمار كاملاً لو اهتزَّ شخص أو انتُقِصَت منفعة، بينما تبدو اللافتة سليمةً والبيت هادئًا، والطبيعى عندما يكون الحزب حزبًا أن يخرج الناس ويعودون، أو بتذكرةٍ دون عودة، ويظلّ الكيان نشطًا وفاعلاً وقادرًا على الحياة من دونهم؛ لكنَّ كياناتنا تعيش فى رموزها بدل أن يعيشوا فيها؛ لهذا بدأ الناصريّون فريقًا وانتهوا أربعة، وانشقَّ على أقدم منابر اليسار جسمٌ جديد، سرعان ما انشق عليه ثالثٌ؛ كأنه توالدٌ عذرىّ بالانقسام، وطرح أحد الوُجهاء نفسه لرئاسة حزبٍ يُقاطع الدولة، ثمَّ ردَّ على الخسارة بالاستقالة والاحتراف لدى مُنافس ترشَّح على قوائم الأغلبية، والأمثلة فوق الحصر.. لا منطق فى الحركة أو الثبات، ولا قدرة على رسم الحدود الصراعية داخل التيَّارات؛ ثم يُلقَى اللوم على سُلطة الحُكم أنها لا تُبادر لتوحيد المُنقسمين على ذواتهم.
من مصلحة الدولة أن تتعافى البيئة السياسية؛ وتلك حقيقةٌ لا يُخطّئها إنكار بعض المُعتلِّين. لكن لو افترضنا صحَّة ادّعائهم بأن من غايات السلطة أن تظلَّ الأحزابُ هشّةً وضامرة؛ فلعلَّ المنطق يقتضى أن يبحث الحزبيّون عن دوائهم بينهم، ولا يطلبونه ممَّن يرونه خصمًا. إن تصدير أزمة الحزبية الراهنة للمُؤسَّسات الرسمية، يشطب على التسلسل الطبيعى لتطوُّر العِلَّة فى الزمن. إذ لم تكن أى من تلك الكيانات عفيَّةً ومُستقيمة الأداء فى المراحل السابقة، بل فى فورة التزاحم وانفتاح المجال العام بعد 2011 ظلَّت على ضعفها وتهافُتها، وعجزت عن ابتكار حلولٍ عملية فى المواجهة مع الأُصوليَّة وتغوُّلها على السلطة والشارع؛ حتى جاء الخلاص من الجمهور دون طليعةٍ أو قادة ميدانيين. كلَّما دار نقاشٌ عن تنشيط الحياة السياسية، أُثيرت مسائل التمويل والدَّعم وحُريَّة تأسيس الأحزاب، وبعضها حقوق لا نُنكرها، وتتابعت الاتّهامات على الصيغة التنظيمية من القانون والإجراءات التنفيذية، بينما لا يعترف أحدٌ بخللٍ فى فكرةٍ أو بناء وزعامة، ولا يتحدَّث عن الحوكمة والرقابة والشفافية وتداول السلطة وتمكين الشباب وتأهيل الكوادر. قسمةُ العدل أن تُجيب عن أسئلة المسؤولية الذاتية، بقدر ما تُطالب الدولة بأجوبةٍ عن الوضع العام. الشجاعة هنا قد تجرح الحزبيِّين وانحرافاتهم بنيرانٍ صديقة؛ لكنها ستُعزّز المصداقية وتخلق حالة احترامٍ وتقدير، تكفى لئلَّا تكون البطولات مجّانيةً أو الهزائم باهظةَ التكلفة.
حتى الآن، لم يعتذر الذين نسَّقوا مع الإخوان فى البرلمان، ولا الذين دعموهم فى الرئاسة ووقفوا خلف مندوبهم الباهت فى فندق فيرمونت، ولا من استمرأوا الاتصال بهم بعد يونيو 2013 وإلى وقتٍ قريب. ليس المطلوب الإدانة، ولن يُغيِّر الاعتذارُ شيئًا من الماضى، كما لا نتجاوز منطق أن بعض ذلك كان تحالفاتٍ مشروعةً وقتها؛ إنما الغاية المطلوبة، ما وراء الرسالة من تواضعٍ ونزولٍ عن الغطرسة، ومن اعترافٍ ضِمنىٍّ بأن السياسيين يُسيئون التقدير أحيانًا، وليسوا مُنزَّهين أو فوق المُساءلة الشعبية والأخلاقية. من نتيجة التعالى أنَّ ائتلافى المُعارضة الأكبر الآن، وبينما يتفرَّغ عُقلاؤهما لمُلاسنةٍ فجّة بين شخصين، ويحاولون صرفها رصيدًا من المُزايدة وابتزاز الدولة، عبروا بدمٍ بارد على لقاء شريكٍ مُباشر فى الأوَّل مع أحد وكلاء الإخوان بعاصمة عربية قبل شهور، وعلى ظُهورات مُتكرِّرةٍ للمسؤول الأرفع فى الثانى على قنوات الجماعة التى تبثُّ من الخارج، وتُموّلها حكومات وأجهزة مشبوهة الأجندات. لا معنى فى ذلك إلا أنهم يُقرّون تلك الخروقات، وهى تتجاوز مسألة القِيَم والدمّ المُراق إلى انتهاك حدٍّ قانونى صريح ضمن البنية التشريعية القائمة، والأوقع أن من يرقص على إيقاع الجماعة الآن لا يخجل من رقصات الماضى. يتجاوز ذلك نطاقَ الكَيد السياسى المقبول فى علاقة المُعارضة بالسُّلطة؛ ليقع فى حيِّز الخلل الفكرى واعتلال الخطاب والممارسة. كأنَّ الوقوف على يسار الحُكم صَكُّ مشروعيّةٍ لا يقبل النقد؛ وكأنَّ الغاية إجبار الدولة على لعبةٍ مفتوحة من دون قواعد أو معايير؛ رغم أنهم أحوج الناس إلى ترسيم الملعب وضبط قوانين الصراع، لا الإيغال فى ترسيخ السيولة والانفلات.
لم تكن المُعارضة بعيدةً عن مجالها الحيوى/ الشارع والجمهور، كما هى الآن. بالنظر إلى أنها كانت فى أوج الذيوع والانتشار وحرّية الحركة قبل عشر سنوات تقريبًا، فإن ما انتهت إليه حاليًا يُشير لأحد احتمالين: أنها أخفقت فى تعبئة خزَّانها وقتما كان الفضاء العام مفتوحًا، ولا قيود على الخطابات من أكثرها عقلانية إلى أشدِّها شعبوية، أو أنها حازت رصيدًا مقبولاً وقتها؛ لكنه تآكل بعدما خفتت النبرة التعبويّة وزالت وجاهة الاصطفافات. لو كانت ذخيرة يناير حقيقية وصُلبة ما تبدَّدت فى غضون سنوات، مهما يكن ضيقُ المجال العام واستثنائية اللحظة الوجودية بعد 30 يونيو. الكيانات التى تبتدر مقرَّاتُها ربوعَ مصر، لا يُسمَع لها صوتٌ فى سياسةٍ أو ثقافة، وإن تعلَّلت باختناق الجغرافيا فالحال نفسها فى براح الإنترنت. لا مُتابعة ولا تفاعل، ولا حتى أداء جاد تُسجّله حسابات الأحزاب وقادتها على كل المنصَّات. الرّاغبون فى النوم على الجانب المُريح سيذهبون مُباشرةً لاختصام السُّلطة، أمَّا الباحثون عن الإفاقة من منامهم الطويل فلعلَّهم يحتاجون قدرًا من شجاعة الاعتراف بالمسؤولية: بدءًا من تصنيم الأيديولوجيا وتكلُّس الخطابات وعدم اجتراح برامج جادة وبدائل مُقنعة، وليس انتهاءً بذبول المُؤسَّسات الحزبية وانقطاع الأجيال فى تسلسل عضويَّتها؛ إذ تتجلَّى كذلك فى عناوين دعائية ورسائل إنشائية هيمنت على كثيرٍ من اقتراحات الطليعة السياسية على طاولة الحوار الوطنى، وهى مساحةٌ خارج التضييق، ومشمولة النفاذ بوعدٍ رئاسى، وتسمح باختراق الجدار العام، والتسويق ومُكاسرة المُنافسين؛ لو توفَّرت أفكارٌ جادة وأطروحات مُتماسكة.
ليس سرًّا أن أروقة بعض الأحزاب شهدت صراعات، بدأت بسباقٍ على الزعامة وانتهت باتّهامات فساد. لعلَّها النفوس الوالغة فى المصلحة وحبِّ الذات؛ أو لعلَّها مُشاحنات عادية تطوَّرت لشُبهات جُزافية وإداناتٍ مُرسَلة. لكن لو خرجت بعض عناوينها إلى المجال العام فقد يُبادر أطرافها بالتترُّس خلف نظرية المُؤامرة، ويدّعون أنه استهدافٌ مقصود وتفخيخ من الداخل وراءه أجهزة ومُؤسَّسات. ليس تخمينًا ولا افتراضًا خياليًّا؛ فقد حدث سابقًا عندما تفجّرت فضيحةٌ عن وقائع انتهاك لفتاةٍ فى أحد المراكز الحقوقية المُرتبطة بحزبٍ تحت التأسيس، وفى قضايا جنائية أو نزاعات شخصية كان بعض أطرافها من السياسيِّين، ويتجدَّد الآن مع لُغةٍ ابتزازية واضحة فى قضية السبّ والقذف بين النجمين السياسيين سالفى الذكر. شرفُ السياسة يقتضى أن يُشمِّر رموز النخبة عن سواعدهم، ويخوضوا معاركهم برجولةٍ وثبات، وأن يحتملوا الهزائم المُرهقة كما يلهثون وراء البطولات الزهيدة. إن الاعتراف بالتقصير أو الاعتذار عن الخطأ قد يمسّ الأفراد؛ لكنه يصون الأبنية والأفكار، ويُخفِّض فاتورة الهزيمة لحدِّها الأدنى، أمَّا المُكابرة والإنكار والتهرُّب من التزامات المُواجهة فقد تغرى بالبطولة؛ إنما تظلّ بطولةً مجانيّةً، سهلة ومفضوحة واستهلاكية، ولا تجبُر الهشاشة أو تسترُ العَوار.
التباكى على الماضى قد يجلب بعض التعاطف والإشفاق؛ لكن المُؤازرة الصُّلبة يجلبها التلطُّف مع الحاضر والابتسام للمستقبل. يُريد الشارع نخبةً تعرف إلى أين تمضى، وليس فقط أين كانت، وتُجيد التطلُّع إلى ما يُمكن اقتناصه، أكثر من تعداد الفُرص الضائعة.. اقتحام صراع الراهن بأدواتٍ قديمة لا يدل إلّا على انفصالٍ عن الزمن، كما يبتذل خبرةَ التاريخ وديناميكيّة السياسة. المُعضلة أن بعض الأحزاب تحمل نقودًا مُهترئة وتريد صرفَها من حساب اللحظة الجارية؛ بينما لا بديل عن ضبط الساعات. إمَّا نتفرَّغ لتصفية الديون المُعلَّقة، مع ما يتولَّد عن ذلك من تفريعاتٍ وتفاصيل ورواسب آسنة، أو نفتح دفترًا جديدًا، ونبدأ مُعاملةً على شرط الواقع. وأُولى الخُطى أن نُسقِط لُغةَ الابتزاز والمُزايدة، وألّا نبحث عن شمّاعات تحمل عنّا أوزارَنا، والأهم أن تتحرَّر الأيديولوجيا من الصياغات الباهتة لتُكتَب بحبرٍ طازج، ثم تصفو الخطابات والمُمارسات من ألاعيب الحُواة ومنطق الربح بالمناورة. إنّ هزائم الميدان تُكسِب الخبرةَ وتُوجب الاعتداد بالنَّفس، وبطولاته تنتزعُ الأرضَ والنياشين، أمَّا التعالى على مقتضيات الاشتباك العاقل، والاعتصام بالعُزلة، والتزام الراحة على أمل الحصاد السهل؛ فإنها هزائم عاجلةٌ ومُكلِّفة، كما أن الشعبويّة وخطابيَّة المنابر، ورصاصات الصوت الزاعق، كلها بطولاتٌ مجانيّة. والسياسة تكره مَن يرتاحون للخسارات السهلة، وتضيق بالارتجال والاستعجال والأبطال المُزيَّفين.