هل نبدأ الحكاية من الماضى أم من الحاضر والمستقبل..؟
لكن "الحكاية مش حكاية السد العالي"- الذى نحتفل هذه الأيام بمرور 64 عاماً على وضع حجر أساس أعظم مشروع هندسى بالقرن الـ20 - كما كتب أحمد شفيق كامل ولحن كمال الطويل وغنى عبد الحليم حافظ، ولم تكن مجرد كلمات أغنية عابرة للاحتفال ببدء عملية بناء السد.
" الحكاية اللى لازم نقولها من البداية" أن السد العالى لم يكن مجرد بناء هندسى إعجازى تحافظ به مصر على منسوب مياه النيل وحمايتها من الفيضانات، أو ضرورة استراتيجية لتوفير الكهرباء من جنوب مصر إلى شمالها، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية، بل كان مرحلة تاريخية فاصلة ومعركة إرادة وطنية ورمزاً لنضال شعب وإرادة دولة بقياده «شاب ثائر" اسمه جمال عبدالناصر كان عمره 36 عاماً عندما أعلنت مصر «الشابة» نيتها بناء السد عام 54
مصر فى هذه اللحظات الوطنية المجيدة أكدت قدرتها على فرض إرادتها السياسية والوطنية وفرض إرادة التحدى لتحقيق الحلم فى التحرر واستقلال القرار والبناء وسط عالم بدت تتشكل فيه الامبراطوريات الجديدة التى تحاول فرض السيطرة وكسر إرادات الأمم الناهضة.
رفضت الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا تمويل قروض مشروع بناء السد الا بشروط تمس السيادة الوطنية على مصر.
هل كان فى الإمكان بناء السد بصورة طبيعية دون معارك أو عدوان ..؟
ليست مفاجأة لو قلنا أن بناء السد كان يمكن أن يتم بسهولة لو قبل عبدالناصر بالشروط واستسلمت مصر للولايات المتحدة منذ اللحظة الأولى وهو ما أرادته الامبراطورية الجديدة البازغة بعد الحرب العالمية الثانية، للسيطرة على جموح دولة رسمت خارطة للنهضة والتنمية وأصرت عليها مهما كلفها ذلك من تضحيات.
اذن لم يكن السد هو المعضلة وإنما الرهان كان على كسر إرادة مصر وكانت الشروط أن تتعهد مصر بعدم إبرام أية اتفاقات مالية أو الحصول على أية قروض دون موافقة البنك الدولى وأحقية البنك فى مراجعة ميزانية مصر وأن تركز تنميتها على مشروع السد العالى فقط وتخصيص ثلث دخلها لمدة عشر سنوات لهذا الغرض واستبعاد الكتلة الشرقية كلية من المشروع، وأن تجرى عقود الإنشاء على أساس المنافسة.
الشروط كانت لعبة مكشوفة ولذلك رفضتها مصر وكانت لديها قدرة على الرفض لأن الهدف هو السيادة والرضوخ للسيطرة الأميركية والغربية وعزلها بعيداً عن الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية وقتها وإفشال أية محاولات للاستعانة بهما للحصول على السلاح لبناء القوات المسلحة وفشلت الضغوط على "ناصر" للتخلى عن طموحه ومشاريعه وتوجهه القومي.
ردت مصر بقوة أدهشت العالم وزلزلت كيانه وأعلنت تأميم قناة السويس للاستعانة بإيراداتها فى تمويل السد. وانتصرت الإرادة الوطنية فى المعركة بعد عدوان ثلاثى غادر فشل بالقوة فى كسر عزيمة وطن تمسك بالصمود والإرادة.
مهم أن نعيد قراءة الملحمة من جديد للأجيال التى لم تعش هذه اللحظات المجيدة فى تاريخ مصر أو التى قرأت عنها و شاهدتها بعد ذلك فى عدد قليل من الأفلام أو المسلسلات التليفزيونية لتتعرف على زمن الحلم والإرادة والبناء والتوحد فى الوطن والانتماء له فقط،
مهم أن تعرف الأجيال الجديدة كيف كان- ومازال – السد العالى حامى الحمى لمصر من الفيضانات ومواسم الجفاف ومن التهديدات الحالية
قبل بناء السد كان الفيضان يغمر مصر، وفى بعض السنوات حين يزيد منسوب الفيضان يؤدى إلى تلف المحاصيل الزراعية وغرقها، وفى سنوات أخرى حين ينخفض منسوبه تقل المياه وتبور الأراضى الزراعية.
أحدث السد نقلة نوعية كبيرة فى التنمية فى مصر، حيث نقلها من الزراعة الموسمية إلى الزراعة الدائمة، وحماها من أضرار الفيضانات وأسهم فى استصلاح وزيادة مساحة الأراضى الزراعية،
شهدت مصر قبل بناء السد فيضانات عارمة فى بعض السنوات، ويقول مؤرخون إن من أشدها فيضان عام 1887، وبلغ إيراد مصر من المياه حينها نحو 150 مليار متر مكعب من المياه، وحمل النهر جثث الضحايا من السودان وجنوب مصر حتى المصب.
انتهى خطر الفيضان تماما بعد بناء السد العالي، حيث أن بحيرة ناصر- طولها 500 كيلومتر بعرض 12 كيلومتر- تقلل من اندفاع مياه الفيضان، وتقوم بتخزينها بشكل دائم للاستفادة منها فى سنوات الجفاف.
حمى السد العالى مصر من كوارث الجفاف والمجاعات، فى سنوات الفيضانات الشحيحة فى الفترة من عام 1979 إلى 1987،وهى أشد الفترات جفافا فى العصر الحديث حيث تم سحب ما يقرب من 70 مليار متر مكعب من مخزون بحيرة ناصر، لتعويض العجز السنوى فى الإيراد الطبيعى لنهر النيل.
كما حمى السد مصر من أخطار الفيضانات العالية، التى حدثت فى الفترة من عام 1998 إلى 2002. و حماها فى السنوات الأربع الأخيرة ، ولولاه لتوقفت الزراعة فى الوادى والدلتا الموسم الماضي.
أسهم السد العالى فى زيادة مساحة الرقعة الزراعية بمصر من 5.5 إلى 7.9 مليون فدان، وساعد على زراعة محاصيل أكثر استهلاكا للمياه مثل الأرز وقصب السكر، كما أنه أدى إلى تحويل المساحات التى كانت تزرع بنظام الرى الحوضى إلى نظام الرى الدائم.
كما وفر الطاقة الكهربية- 10 مليارات كيلو واط سنويا- التى تستخدم فى إدارة المصانع وإنارة المدن والقري، وأدى إلى زيادة الثروة السمكية عن طريق بحيرة ناصر، وكذلك تحسين الملاحة النهرية طوال العام..
ولم يتكلف السد سوى 500 مليون جنيه مصري- حوالى 150 مليون دولار-- غطى تكاليفه فى أقل من عام ونصف، حيث بلغ العائد الزراعى فى العام التالى 300 مليون جنيه، وحوالى 100 مليون جنيه أخرى من الكهرباء، والأهم أن نعمة الأمان من الفيضان التى حققها السد لا تقدر بمال مما دفع الملايين من المصريين ليسكنوا مئات الجزر النهرية التى صارت فى مأمن من الفيضانات وتقدر قيمتها الآن بمئات المليارات، وكذلك الكورنيش النهرى فى العديد من المحافظات وقيمته التسويقية العالية.
كان السد المشروع الأهم لمصر الثورة لتحقيق التنمية الزراعية وتوليد الطاقة الكهربائية من أجل النهضة الصناعية الضخمة التى شهدتها فى الستينات. واختارته الهيئة الدولية للسدود والشركات الكبرى، "كأعظم مشروع هندسى شيد فى القرن العشرين."
يأتى يوم الاحتفال بوضع حجر التأسيسى فى 9 يناير والسد العالى فى أفضل حالاته حافظًا لمصر أمنها المائى على مدار حوالى 64 عاما، وموفرا الاحتياجات المائية للشعب المصري، بفضل جهود الدولة فى السنوات الأخيرة، وحافظها من الفيضانات والجفاف، ومنقذها من شر السدود الأخرى
السد العالى هو الحصن المنيع للأمن المائى المصرى على مر العصور فى الماضى والحاضر والمستقبل. تحية لبناة السد العالى وتحية للشعب المصرى ولزعيمه.
و...حفظ الله مصر وقائدها وسدها العالي