صار نتنياهو فى موقفٍ شديد الحرج. انكسرت فى كفَّيه صورةُ الرَّدع التى تعيشُ عليها إسرائيل، وذابت فكرة الأمن؛ وهى روح الدولة وقلب عَقدها الاجتماعى مع آلاف المُستوطنين، كما مضت ثلاثةُ أشهرٍ ولم يُحرز نصرًا بائنًا فى غزّة، ولا تحصَّل على أيَّة حصَّة من أهدافه المُعلَنة للحرب.
وتزيدُ على ذلك الضربةُ التى تلقَّاها أخيرًا من المحكمة العُليا، وافتتاح تحقيقٍ بشأن إخفاق السابع من أكتوبر، فضلاً على الشقوق المُتّسعة فى جدار تحالفه اليمينى بالحكومة، أو مع مُخالفيه الذين انضموا للكابينت أو ظلّوا خارجه. فالرقعة التى افترشها بالبيادق والأحصنةِ تتآكلُ تحت قدميه، وما عادت شعاراتُ المحنةِ والامتحان الوجودى فعَّالةً فى جَبْر التناقضات، أو استدامة العلاقة العكسية بين ساحة السياسة وميدان القتال؛ فبات طبيعيًّا أن تشتدَّ سخونتهما معًا، وأن يهرب من الرمضاء للنار؛ فتحترق أصابعه بأىِّ خيارٍ يكبشه من حزمة الخيارات التى تعقَّدت جميعًا.
لعلَّه لم يتوقَّع؛ أو لم يكن يأمل، أن تتصدَّى المحكمةُ للطعن على قانون «الحدِّ من ذريعة عدم المعقولية» بينما يخوضُ الجيشُ أخطر نزاعاته فى فلسطين وخارجها. لكن ما كان يخشاه قد وقع؛ وأسقطَ القضاةُ الورقةَ الأولى من خطَّة الإصلاح، وأسقطوا معها عمودًا بُنِى عليه الائتلافُ اليمينى، بنكهته التوراتية القومية شديدة الراديكالية والجنون. صحيح أن القرارَ لا يعنى عودةَ الدولة العبرية لرُشدها، إذ لم تكن راشدةً من الأساس؛ إلَّا أنّ المُهم فى الخطوة أنها تُعمِّق حالةَ الفرز فى البيئة السياسية، وتستعيد مفاعيل حالة الاحتجاج التى سبقت «طوفان الأقصى»، كما تُضيف بُعدًا جديدًا لأسباب الفشل التى ساعدت «حماس» على إنجاز هجمتها. والأهمُّ أنها تُزحزِح قليلاً فكرة الظرف الاستثنائى الذى يُؤجِّل النقد والمُحاسبة، ليصير مقبولاً أن تُطرَح فكرةُ الخلاص من الحكومة ورئيسها؛ حتى قبل أن تسكتَ المدافع. أى أن المشهد الذى أراد زعيم الليكود اختزالَه فى سَبت الطوفان، تحرَّر من النظرة الانتقائيّة وأُعيد لأصله الأوَّل: الشرخ الذى أحدثه اليمين فى البِنية المُؤسَّسية، وكان سببًا، فى نظر البعض على الأقل، لحالة الرخاوة والبطء التى تعاطت بها الأجهزةُ مع فضاء غزّة.
أصلُ الأزمة الفلسطينية فى الاحتلال، وباعثُ المقاومة على كَسر الجمود؛ أنها ضاقت بحالة القتل الصامت، وانعدمت خياراتها، ولم تجد فى يدها ما تخشى خسارته. أمَّا لناحية إسرائيل؛ فإيمانها بالتوحُّش وإلغاء الآخر راسخٌ لا يهتزّ، كما لا رغبةَ لديها فى حلِّ الصراع؛ لكنّ مُشكلتها تجلَّت عندما عجزت عن إدارته، وكتمان صوته؛ وتغافلت عن التبعات. هنا يصحّ أن يعود الصهاينة باللوم على مُثلّث «نتنياهو/ بن جفير/ سموتريتش»، والاتفاقات التى جمعتهم عقب الانتخابات الأخيرة. وكان أخطرها الخطّة التى أعدّوها لتقليص هيمنة القضاء على الدولة، واشتملت على ثمانية قوانين أوَّلها «حجّة المعقولية»، ما تسبَّب فى موجة غضبٍ عارمة، وأسابيع من التظاهر والمَسيرات، وإضراب قطاعاتٍ من الاحتياط الذى يُشكّل صُلب القوّة العسكرية. ورغم ضخامة عملية «حماس» بما يقطع بشهورٍ من التحضير؛ لا يمكن الإفلات من احتمال أن تكون مشاحنات تل أبيب قد حفّزت الفصائل، وعجَّلت بالتنفيذ. وهذا لا يُدين الحكومةَ بالتقصير فحسب؛ إنما يجعلها مسؤولاً مُباشرًا عن تأمين الظرف المُواتى لمُقاتلى القسَّام.
طموح نتنياهو لاستعادة السلطة، والإفلات من مصيرٍ مُظلم بين السجن أو الاعتزال؛ كان الأساس وراء تقديمه تنازلات رخيصة لحُلفائه الآتين من المُستوطنات بالتلمود والقلنسوة. طال الاتفاق أُمورًا تخصّ نفقات الائتلاف ومُخصَّصات الاستيطان والمدارس اليهودية وتسليح المُستوطنين، وكانت أهم مفاصله إعادة صياغة النظام القانونى والإدارى للدولة. وبجانب بند «المعقوليّة» الذى يمنح القضاء ولايةً على التعيينات وقرارات الحكومة وتفاصيل أخرى، تضمَّنت الخطَّة عناوين مُزعجة لبلدٍ تأسَّست ركائزُه على العصابات والمحاكم، مثل اللعب فى آليّة اختيار القُضاة وتحجيم صلاحيات مُدَّعى العموم. تمرّدت المعارضة، وهاج الشارع، وبدا أن رئيس الحكومة يُخلخل بنيان الدولة لمصالح شخصية، وبينما يسعى لتأمين مُستقبله المُهدَّد؛ يدفعُ النظامَ بكامله إلى هاويةٍ قد لا يخرج منها، وربما تكون تأسيسًا لحقبةٍ طويلة من حُكم الحاخامات.
الصيغةُ التى تعيش عليها إسرائيل غير تقليدية. إنها دولةٌ من دون دستور، وعقلها مزيجٌ من قوانين الأساس ومجموع التقاليد والأحكام. يبدو القالبُ المفتوح مُريحًا للأجهزة التنفيذية؛ لكنه فى الجوهر قَيدٌ وعبء؛ فبقدر ما يفتح الباب للنزوات ويُغرى بها؛ فإنه يسمح بترويضها. ولأنّ الحريديم شقّوا عصا الطاعة مُبكِّرًا ضد كلّ صور التنظيم والمَأسَسة؛ فإنهم غائبون عمليًّا عن دولاب السلطات، ومنها القضاء. والمعنى أن علمانية المحاكم ستظلّ عقبةً أمام طموحات المُتطرِّفين الدينيين؛ لذا سعوا لتحييدها مُستندين إلى الكنيست، وغامروا بتآكُل حظوظهم لدى الناخبين؛ على ما كانت تكشف استطلاعات الرأى، طمعًا فى تحصين الحكومة.. والغضبُ الذى أحدثته المغامرةُ طال الجيش، والأخيرُ عندما أخفق على حدود القطاع كان مضروبًا فى عقيدته، وقد أُقِيل وزيرُه وعاد، وتُرِكَ رئيسُ أركانه عرضةً للتهجُّم والتجريح من ابن نتنياهو وأعضاء الليكود والتوراتيين. ومهما كشفت التحقيقاتُ من أسباب الهشاشة آخرَ ثلاثة أشهر؛ يُمكن دائمًا إضافة ما فعله الائتلاف الحاكمُ بخطَّة الإصلاح فى أوَّل صفِّ المُتّهمين.
أُقِرّ أوَّلُ قوانين الخطّة تشريعيًا بقراءته الثالثة فى يوليو الماضى. ولأنه قانون أساس يخصّ هياكل المُؤسَّسات وعلاقاتها ضمن توازن السلطات؛ تصوَّر فريقُ الحُكْم أنهم أنجزوا المهمَّة وخرجوا بما أرادوا. والمُفارقة أن المحكمة العليا أسقطت القانون بأغلبية ثمانيةٍ مقابل سبعة، والأكثر صدمةً أن اثنى عشر منهم قالوا إن من سُلطتهم إسقاط قوانين التأسيس، ما يعنى إنهاء الأمل تمامًا فى ورقة الإصلاح بكلِّ عناصرها دون تصويتٍ على ما تبقَّى منها، وعودة الولاية القضائية على قرارات نتنياهو والوزراء وفق معيار المعقوليّة. والمنطق أن مرجعيَّةَ القياس التى تجعلُ الشىءَ معقولاً أو لا، لن تخرج عن سوابق القضايا واللوائح؛ أى لن ينحرف المسارُ عمَّا كان عليه.. تلقَّى اليمينُ ضربةً قاسية؛ لأن الموقفَ الأخير أثبت أنهم فى جانبٍ والبلد كلّه فى الجانب المُضاد، وأنَّ المُزايدة بالحرب لم تفلح فى رَدع خصوم الحكومة، والحصانة المُبتغاة صارت حلمًا بعيدًا، ولا شىء يمنع أن يسقط الائتلافُ اليومَ قبل غدٍ.
قُوبِل القرارُ بارتياحٍ عامٍ فى الشارع، ورحَّب به «لابيد» من المعارضة، وربما معه «جالانت» من الائتلاف، و«جانتس» من مجلس الحرب، إذ كان الثلاثة ضد القانون منذ سطره الأول؛ وفى المُقابل اشتعل جنون وزيرى المالية والأمن القومى، اللذين ربطاه بملف غزَّة وادَّعيا أنه يُضعِف معنويات الجنود فى الميدان. وانعكس التباين سريعًا على الكابينت، فشهد اجتماعُه التالى حدَّةً فى النقاش وتبادُلاً للاتهامات، اضطر «نتنياهو» إلى إنهائه سريعًا؛ للخروج من الجدل وكَتم الصراعات قبل استفحالها.. الظاهرُ أن الغضب كان مُوجَّهًا لتحقيق الجيش فى عملية حماس، وبدَفعٍ من تقاذُفِ كُرة الفشل بين الحاضرين جميعًا؛ لكن أثر الطعنة القانونية يظلّ حاضرًا فى خلفية المشهد. فما فعلته المحكمة العليا أنها فضحت عوار الأجندة الحكومية، ورفعت عنها غطاءَ المِحنة الذى تستّرت به؛ ما يسمحُ بتوسعةِ نطاق المُساءلة والإدانة، وإسقاط ذريعة تأجيل الاستحقاقات السياسية لحين حَسم الأولويات الحربية.
تصحُّ قراءةُ الديناميكية الجديدة على أنها انتصارٌ للرؤية الأمريكية. لقد كان البيت الأبيض مُعارضًا لخطّة الإصلاح، ودعا عَلنًا إلى الرجوع عنها، وبسببها امتنع عن استقبال نتنياهو بعد تشكيل الحكومة؛ على ما جرت العادة. وليس بعيدًا أنّ «بايدن» طالب زعيم الليكود بإعادة هيكلة ائتلافه، وبطَرد المُتطرِّفين الذين يُشكِّلون عبئًا على إسرائيل ويرفعون حرارة الصراع والمنطقة بكاملها. وإن أضفنا قرار واشنطن بسحب حاملة الطائرات جيرالد فورد، وصَحّ أن السبب يعود لخلافٍ فى الرؤى بشأن مسار الحرب وما بعدها؛ فإن السلطة القائمة فى تل أبيب قد آلت إلى حصارٍ خانق: طُول المُواجهةِ فى غزَّة دون نصرٍ أو مَخرَج، وانقلاب الشارع والمُؤسَّسات الصلبة، وأخيرًا إعادة بناء خطاب الدعم الأمريكى على غير ما كان لثلاثة أشهر، فيما يبدو أنه استجابةٌ لتحوُّل المِزاج العالمى، أو رغبةٌ فى ترويض اللوثة الصهيونية. ومجموع الثلاثة ينتهى إلى إسقاط «بيبى» وحكومته؛ إمَّا بالفشل الكامل فى الميدان، أو بضغطٍ شعبى يُهَندِس الأغلبية وربما يدفعُ لانتخاباتٍ مُبكِّرة، أو بالتعرِّى من غطاء الحليف؛ لتنكشفَ هشاشةُ العناوين الضخمة التى رُفِعَت للحشد العاطفى، وراهنت على حماية الولايات المُتّحدة بعينها الحمراء، أو تورُّطها فى الحرب بذراعها المُباشرة.
الفرضيةُ السابقة لا تعنى أن أمريكا تخلَّت عن إسناد إسرائيل؛ إنما لم يعُد الدعمُ شِيكًا على بياض. المُؤكَّد أنها ما تزال معنيّةً بسلامة الدولة العبرية، وربما بأن تخرُجَ من الصراع مُنتصرةً، بإعطاب «حماس» أو ترميم صورة الردع؛ لكن ذلك لن يصبَّ لصالح نتنياهو فى كلِّ الأحوال. معركةُ «ذريعة المعقولية» تكفَّلت بخدش صورته فى الداخل، أو بالأحرى أضافت جِراحًا جديدة لِمَا كان نازفًا بالفعل. وستكون مسألة وقتٍ لا أكثر قبل أن تنفكَّ القبضةُ التوراتية الراهنة فى تل أبيب؛ لا سيّما أن خلافات الساسة والجنرالات صارت أشدَّ وضوحًا، وتُهمة التقصير تتكثَّف فوق رأس الائتلاف، بدءًا من تركيبته الحَرجة وإلى فشله الساحق، وبينهما خطَّته الشموليّةُ المحمولة على عنوان الإصلاح. وما أنشأه قرارُ المحكمة يبدو قانونيًّا وإداريًّا بالأساس؛ لكنه سيكون مُقدّمةً لتغيُّراتٍ سياسية وعسكرية، ومُداولاتٍ فكرية وتنظيمية تتّصل بهوية الدولة وتوازناتها، والثابت من أعرافها وما يقبلُ التبديل. ربّما يفتح المخاضُ الحالى بابًا للبحث عن الوثيقة الدستورية الضائعة، وربما يخشى العلمانيون واليسار إثارة الموضوع فى حقبةٍ تتسلَّطُ عليها نزعةٌ يمينية مُلتاثة؛ حتى لدى بعض الواقفين فى مُعسكر السلام، وهُم قِلَةٌ أصلاً. لكن المُرجَّح أن تُبحَث مسألةُ قَطع الطريق على النزوات مُستقبلاً؛ وأن تدخلَ إسرائيلُ نزاعًا طويلاً على مدنيَّتها المُلوَّثة، بين أن تبقى نصفَ مُشوَّهةٍ كما هى الآن، أو تسقط فى الوحلِ إلى شَعر رأسها.
الولادةُ القيصرية للدولة لم تكن محطةً عابرة. فإسرائيلُ إلى اليوم تعانى خلالاً عميقًا فى الهُويَّة والتأسيس، ولا تعرفُ إن كانت دولةً مدنية حديثة أم يهوديةً رجعيّة. إنها من حيث تستميت للجمع بين الصفتين، وإقناع العالم بأنها صافيةُ العقيدة على صيغة العصور الوسطى وما قبلها، ومُخلصةٌ لرداء الحاضر وتتحدَّث لغته؛ فهى فى الواقع تأكلُ سرديَّتها بنفسها: التأصيل التوراتى يلغى الحاجة للدستور والقوانين الأساسية، والطابع الحداثى يصطدم بقرار المحكمة الأخير وإن بدا ظاهره ليبراليًّا؛ إذ يُمكِّن سُلطةً مهما كانت جدارتها من بقيَّة السلطات. والمَحكّ فى الحقيقة ليس أنها آلةُ قتلٍ مُنفلتةٌ ويتعيَّن كَبحُها، بقدر ما أنها مخلبٌ بدائىّ ولو أظهر خلاف ذلك. فالدولةُ العبرية علَّتُها فى أصلها، وما حرب غزّة أو صراع المعقولية سوى العَرَض الذى يشى بالمرض؛ وحالما تُغادرُ التباسَها الطويل لتصير دولةً فِعلاً؛ فإنّ كثيرًا من مشكلات المنطقة قد تضع يدًا على وصفة التداوى وقدمًا فى سكّة النقاهة. الذين يُنادون بحلِّ الدولتين يُفتّشون عن فلسطين داخل معدّة الغول الصهيونى الجائع دائمًا؛ والحقيقةُ أننا نحتاج للبحث عن الاثنتين معًا؛ إذ إلى الآن ما زال الصراع عند محطَّة الانتداب البريطانى: عصابة مُنظَّمة تقتل سكَّانًا غير مُنظَّمين، أمَّا الدولة هناك والسلطة هنا؛ فإنهما أثرُ الزمن ومكياج المُطاردات الحديثة؛ ربما لهذا برزت «حماس» فى مقابل الليكود والتوراتيين؛ لأنّ الأُصوليّة تنتخبُ بعضَها، ولأنها أقصى وأقسى ما يُناسِب صيغة القبيلة والجماعة. تلك الصيغة الأَوَّليةُ الجارحة؛ كأنها عبادةٌ بدائية: تُنحَر الذبائحُ وتفنى القرابين، ولا يُغادر الكُهّان طقوسَهم، ولا تشبعُ الأوثان.