حازم حسين

عار إسرائيل يجرّها إلى لاهاى.. وقائع الإبادة بين القانون والسياسة والكؤوس الخاوية

الخميس، 11 يناير 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تقف إسرائيلُ اليوم مُتّهمًا مكسورَ العين؛ لا قاتلاً مُتبجّحًا ومُطمئنًّا باختلال الموازين. الوقفة فى واحدة من مرافق الأُمم المتحدة؛ لكنها مُحصَّنةٌ نسبيًّا من فيتو الأمريكان فى مجلس الأمن، ومن رمزية قرارات الجمعية العامة وهشاشتها الإجرائيّة. حرَّكت جنوب أفريقيا دعواها أمام محكمة العدل الدولية لتضع المُجرم فى قفصٍ لم يتحسَّب له، وبينما ترميه بعار الإبادة الجماعية فى غزَّة؛ فإنها فى الواقع تخطُّ معالمَ مرحلةٍ مُغايرة فى الصراع؛ إذ لا يعود السباق فى قُدرة الغاصب على الإماتة، أو مُكابرة المغصوب ادعاءً للبأس وكتمانًا للألم، ولا على نزاع السرديات ودعايات المُحتل والمقاوم رأسًا برأس؛ إنما سيصير من عُهدة القانون، وتحت قدسيّة الحياة وحُرمة دم المدنيِّين. الصهاينة يعون تمامًا خطورة الامتحان، ويمثُلون للمُساءلة بوداعةٍ مُصطنَعة، بينما يُفتّشون عن كلِّ ثغرةٍ دنيئة لهَدم الجلسة على رؤوس القضاة والمُدَّعين والمُحامين والعالم كاملاً.
 
قبل خمس سنوات قدَّمت السلطة الفلسطينية دعوى للجهة نفسها؛ على خلفية نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس، والأخيرة أرضٌ مُحتلّة وفق القانون الدولى، ولها وضعيّةٌ خاصة بموجب قرار التقسيم وما تلاه من مُقرّرات. قبلت المحكمةُ الادعاء وعلّقته لأكثر من ثلاثين شهرًا، قبل أن تنظره أو تضرب له موعدًا. أمَّا خطوة جنوب أفريقيا فبدأت قبل أقل من أسبوعين، تحديدا 29 ديسمبر، ليبدأ نظرها اليوم دون إبطاءٍ أو رخاوة، وصحيح أنها تتّصل بحربٍ مُستعرة ولا تحتمل التلكّؤ؛ إلَّا أن الجدية قد تعكس تحوُّلاً سياسيًّا وأخلاقيًّا لا يقلّ سخونة عن نار القصف، ومن علاماته أن قُضاة لاهاى يصرفون النظر عن تعقيدات الموقف الغربى، ولم يتقيَّدوا بضغوط الإسناد الأمريكى المُتشدِّد للصهاينة، كما أن سرديّة الإرهاب الحمساوى وحقّ الدفاع عن النفس لم تعُد فعَّالةً كما كانت، وصار الوضع أكثر توازنًا ويقبل الفحص بعيدًا من الاستقطاب والمُزايدة. وما يُقلق إسرائيل أنها مُهدَّدةٌ بأن تكون دولةً مُجرمة أو مارقة؛ ليس بخطابات الإنكار والتظاهرات كما اعتادت؛ إنما بجريمةٍ موصوفة، وتفصيل قانونى، وحُكم لا ينقضه الانحياز ولا يُلوِّثه التضليل.
قدَّمت جنوب أفريقيا ملفًّا مُكتملاً ومدعومًا بالقرائن والأدلّة. وبامتداد أربعٍ وثمانين صفحة رصدت جرائم الاحتلال ضد الغزّيين، وعزَّزتها بمواقف رسمية وتصريحات لمسؤولين إسرائيليين.. لا تحملُ الأوراق جديدًا لم يسمعه العالم أو يره عيانًا؛ لكن القيمة العُظمى تنبع من جدّية التحرُّك، ومن رمزية البلد المُدَّعى بتاريخه النضالى ضد الفصل العنصرى وجرائمه، فضلاً على حياده الناصع. إنَّ تحريك الخصومة من أبعد نقطة عن الصراع وأطرافه، لا يترك مجالاً لمُراوغة تل أبيب وادّعائها أنه تصوُّر مُنحاز، كما لا يُقوِّض محاولات التهدئة على شرط الإنقاذ العاجل، فيما لو جاءت الخطوة من البيئة العربية الإسلامية، مع ما يتولّد عنها من تشدُّد أمريكى أوروبى، قد يُعقِّد الموقفَ ويفتح بابَ الجدل على مُرتكزاتٍ تاريخية وعقائدية. دُفوعُ الصهاينة تجاه دول الإقليم ستُركِّز على عداوة الماضى وسوابق المُواجهات، وقد تضع الإسلام فى مُقابل اليهودية، وتشتغلُ على المصلحة الجغرافية المُباشرة؛ وهو ما لا يصحّ الاستناد إليه فى الردِّ على ملفٍّ أفريقى أسمر، يدين بالمسيحية ولا يتحدَّث العربية.
 
«العدل» هيئةٌ أُمميَّة، ومُقرَّراتها مُلزمة لأطراف اتفاقية جنيف 1948 لمنع الإبادة الجماعية والمُعاقبة عليها، ومنها إسرائيل. وهى محكمةُ دولٍ لا أفراد، ويختلف ذلك عن صيغة «الجنائية الدولية» ونظام روما الأساسى، وفضلاً على أن الصهاينة لم يُوقِّعوا عليه؛ فإنه لا يتجاوز المسؤولية الشخصية إلى الأنظمة والحكومات، كما أن فيه من الثغرات ما يسمح بالإفلات من المُساءلة، وقد وُظِّفَت المحاكمُ الإسرائيلية لتحصين العسكريين؛ انطلاقًا من حجّية عرض النزاع على القضاء المحلى. ولِعِلم الاحتلال أن الوقوف أمام الأولى يختلف عن الثانية؛ تلقّى الدعوى باهتمامٍ غير المُعتاد، ونشط دبلوماسيًّا ودعائيًّا لإحباطها، وغيَّر شيئا فى خطابه السياسى والحربى، كما تغيَّرت نبرةُ الولايات المتحدة.. المرافعةُ الأولى قد لا تُفضى لجولةٍ قريبة، وربما يُطيل القضاةُ وقت الفحص والمُداولة، وإن عادوا سريعًا فإمَّا بقرارٍ أو رفضٍ أو تعليق ناعم؛ لكنّ المكاسب مُتحقِّقة فى كلِّ الحالات.
 
فازت فلسطينُ بالتوهُّج والرواج؛ وإن لم تقتنص حُكمًا نافذًا. لقد سوَّقتها إسرائيل فى أوائل «الطوفان» تحت لافتة الداعشية، وعندما اعتدلت الصورةُ تنازعها جناحان: المُشفقون على القتلى، والمفتونون بادِّعاء القوَّة والانتصارات الوهميّة. وما تفعله المُقاربةُ القانونية أنها تُصفِّى القضيةَ من الشوائب، وتمسحُ غبارَ الميدان عن مظلوميَّتها الصادقة؛ لتقف ضحيّةً ونِدًّا أمام القاتل بتساوٍ كامل، دون اعتبارٍ لضغط الجغرافيا ووحشية السلاح؛ بل إنَّ ما ينصرُ طرفًا فى ساحة الحرب، هو ما قد يهزمه فى قاعة القضاء. وهكذا يربحُ الفلسطينيون بالذيوع أوَّلاً، ثمّ بفرصة انتزاع إدانةٍ دامغة للعدو، أو إحراج البيئة الدولية إن تأخَّرت فى القرار أو عجزت عن إنفاذه، وما وراء ذلك من عارٍ أخلاقى، يقعُ أوَّل ما يقع على عاتق العالم الأوّل، ويقدحُ فى رصيده الحضارى وما يدَّعيه من فَضلٍ وسَبقٍ فى الخُلق والإنسانية. سيتغذّى ذلك على فوائض الضمير الصاعدة شعبيًّا؛ لينعكس على الحكومات والمجتمع المدنى، ما أفاق منه وما يُقيم عامدًا فى ضباب الغفلة. وستكون الأُمثولةُ الغربية محلَّ اختبارٍ قاسٍ، والعمل الدولى مُتعدِّد الأطراف، وموثوقية المنظومة الأُمميَّة وقوانينُها وعدالتها. والرسالةُ أن الجنوب لم يعُد عاجزًا، وثمّة منافذ لاختصام الشمال بأدواته؛ وقد استحدثها لتطويق خصومه بالأساس، فإذا بها تُزيل أقنعته وتخدشُ وجهه الأبيض.
 
الدعوى الأفريقية ليست بعيدةً من بيئة النزاع. لقد كان توثيق إجرام الاحتلال من قرارات القمَّة العربية الإسلامية، وتتابعت رسائل الدعم، وربما يجرى تعاونٌ فى الكواليس.. أمَّا فى التفاصيل؛ فقد أُعِدّت الأوراقُ بشمولٍ وإتقان؛ فميَّزت بين الإبادة وجرائم الحرب، وتدرَّجت من القصد الجنائى للركن المادى. وهى إذ تُطالب بتدابير تحفُّظية عبر تعليق العدوان، تدعو أيضًا لوقف الإبادة وتثبيت المسؤولية عنها، وإفادة المحكمة بتقارير مُنتظمة. ورغم أن للقرارات صفةً نهائية مُلزمة وفوق الطعن؛ فلا سبيل لإنفاذها إلا عبر قناةٍ أُمميَّة وحيدة؛ كأن تُوضَع تحت الفصل السابع من الميثاق، أى أن تعود لمخلب واشنطن فى مجلس الأمن. ربما تبدو النهايةُ السعيدة على طريقة الأفلام حلمًا بعيدًا؛ لكنَّ الوَصمَ وتلطيخ سُمعة إسرائيل وإرساء سابقة قانونية فى إدانتها، ليست أُمورًا عارضةً ولا قليلة الأهمية والأثر.
 
فى تُراب غزَّة وجثامين ضحاياها ما يُثبت جريمة الحرب؛ لكن تُهمة الإبادة الجماعية مُراوغة بطبعها، خصوصًا أننا نُفتِّش عنها فى نزاعٍ قائم، وليس لحسمٍ واقعة طواها الماضى واتَّضحت معالمُها الكاملة. التحدِّى يخصُّ النيّة، وإثبات أن آلة البطش أضمرت الإبادة أو التمهيد لها. انطلاقًا من أن التكييف يقعُ على أيّة أعمال تستهدف التدمير الكلى أو الجزئى لجماعةٍ بشرية، بالقوميّة أو العِرق أو الجنس أو الدين. وفى ذلك تستندُ الدعوى لمواقف المُسؤولين الإسرائيليِّين وتصريحاتهم، وفيها ما يكفى لتثبيت القصديَّة المُبيَّتة، من رسائل نتنياهو عن إطالة الحرب وتغيير الخرائط، ووَصف وزير دفاعه للغزِّيين بأنهم «حيوانات بشرية» وتُعاملهم إسرائيل على هذا الأساس، ودعوة وزير التراث لقَصفهم بقنبلةٍ مدنية، ومواقف وزراء وأعضاء كنيست روّجوا للطَّرد أو طالبوا بالقتل دون قيد، وتحويل القطاع لبيئةٍ غير صالحة للحياة. وتأسيسًا على مَوقف الدولة بأعلى مُستوياتها؛ فإن جرائم الحرب المُتمثّلة فى القصف العشوائى والتجويع والتهجير والإعدامات الميدانية واستهداف النساء والأطفال والأعيان المدنية، تتجاوز توصيفها المادى المُباشر لتصير عنوانًا على نوايا الإبادة والتطهير.
 
تُناور الحكومةُ الصهيونية لتخطِّى المصيدة، وتُقاوم الربط بين مقصدها شديد التطرُّف وضرباتها شديدة الوحشيّة. حملت الأيامُ الأخيرةُ تسريبًا لبرقيّةٍ دبلوماسية، وَجَّهت سُفراء إسرائيل وبعثاتها الخارجية إلى ترويج سرديّة عن مُراعاة الالتزامات الإنسانية، والعمل مع الشركاء لإغاثة المدنيِّين، بجانب الضغط على الحُلفاء لإصدار بيانات داعمة، والإشارة إلى أن تل أبيب ستُخاطب قادة بعض الدول؛ لتأمين حاضنةٍ تُجنّبه فخّ الإدانة. وقبل يومين قال مُتحدث الجيش دانيال هاجارى إنهم استجابوا لرغبات أمريكية بالانتقال لمرحلةٍ ثالثة من الحرب، بضرباتٍ جوّية أقل وتحرُّكاتٍ برِّية أهدأ، ودون طقوسٍ احتفالية، مع التركيز على معاقل «حماس» وتيسير المساعدات. وبالتزامن كان «بلينكن» يُجرّب لُغةً أكثر حساسيّةً تجاه المسألة الإنسانية، ورغم تجاهله الحديث عن وَقف النار؛ أدان تصريحات التهجير، وتشدَّد فى تمكين الفلسطينيين من البقاء بالقطاع، وإعادتهم إلى المناطق التى أخلوها. ونُسِبَت تصريحاتٌ لمسؤولٍ أمريكى بأن وزير الخارجية أبلغ نتنياهو بتجميد الحملة والاتجاه لعمليّات جراحيّة محدودة، وبأن عليه الاختيار بين رضا واشنطن أو إرضاء حُلفائه المُتطرِّفين، فى إشارة لوزيرى المالية والأمن القومى سموتريتش وبن جفير. وما سبق قد لا يكون معزولاً عن أثر الدعوى، ولا عن تحضيرات المثول أمام المحكمة وتجهيز الحُجج والردود.
 
يجتمع قضاةُ العدل الخمسة عشر، ويُضاف إليهم قاضٍ من كلِّ طرف. وعليهم جميعا أن يستمعوا لمرافعة جنوب أفريقيا، ثم أن يُقرروا إن كانت لهم الولاية القضائية، ويحق لإسرائيل الدفع باعتراضٍ مبدئى فى شق الاختصاص فقط، فإن قُبِل تسقط القضية، وإن رُفِض فإن المحكمة ستنظرها بتوسُّعٍ؛ سواء أقرَّت تدابير طارئة أم تغاضت عنها. والمُعتاد أن تظلّ الدعاوى على الطاولة لسنوات؛ وحتى لو اختلف الإيقاعُ فقد يتطلَّب الأمرُ شهورًا، وربما تتوقَّف الحرب قبل أن تفصل المحكمة. لكن الإيجابى أن كبح المقتلة الدائرة لن يُغلق الملف؛ إذ تظل تهمة الإبادة صالحةً لإدانة المتهم، كما لا تسقطُ بانقضاء الحدث ولا يسرى عليها التقادُم.. المدخلُ الوحيد أن تُسحَب الدعوى، والأرجح ألَّا يحدث ذلك؛ لو افترضنا حدوثه، دون تسويةٍ مقبولة خارج المحكمة. وليس فى مَقدورٍ أحد أن يُحدِّد الغاية سوى جنوب أفريقيا، لكنها لو قَبلت تفاهُمًا ضمنيًّا مع تل أبيب ورُعاتها، فستُحرص على أن يكون مُثمرًا للضحايا الذين اصطفَّت معهم؛ أى أن القضية رابحةٌ بكل الأحوال، وستُوضَع على طريقٍ جديدة تُغيِّر التعاطى معها مُستقبلاً، فى السِّلم والحرب، ولا تتركُ جدارَ القتل خفيضًا فيسهُل انتهاكه والقفز عليه فى كلِّ اشتباك.
 
الإدانةُ إن وقعت؛ ستنعكسُ على أمريكا وأوروبا انعكاسًا مُباشرًا. لقد تحقَّقت الإبادةُ بأيدٍ صهيونية، لكنها أُديرت بسلاحٍ ودعايات غربية. والمُحتمَل أن واشنطن وتابعيها ربما يُغامرون بالانكشاف المُبكِّر عبر ضغوطٍ ومُقايضات لإفساد الدعوى، بدلَ انتظار التعرِّى عند ثبوت التُّهمة. ولعلَّ ذلك يُتيح سياقًا مُناسبًا لخَفض الوحشية، وتوظيف سُلطة البيت الأبيض المعنوية والمادية على تل أبيب، لإقرار التهدئة ودَفع السياسة. ولأنّ سوابق المنظومة الأُمميَّة لا تُبشّر بانتصارٍ قانونى يُغيِّر وقائع الأرض؛ فقد يكون مُهمًّا النظر لتحويل المنازعة وقودًا يُعجِّل بترتيب الميدان، ما يتطلَّب أن يظل فريقٌ خارج دائرتى الاستقطاب: الاحتلال والمقاومة فى غزّة، وإسرائيل وجنوب أفريقيا فى لاهاى، وعليه لا معنى لابتزاز دُول التماسّ أو المُزايدة عليها بطَلب الانضمام للدعوى، كما سبق وأراد البعض توريطَها فى الحرب؛ إذ الكثافةُ ليست معيارًا لفاعليّة الحركة وأثرها. هذا من أمور العاطفة لا العقل، وكلاهما يسمح للعدو باستمراء رواية الخطر الوجودى وسط مُحيطٍ معادٍ؛ بينما الأصل أن السلاح والقانون من أدوات الزراعة؛ أمَّا الحصاد فيكون فى السياسة حصرًا، ولا قيمةَ لحَسم المعارك والقضايا ما لم يُترجَم فى الجغرافيا، وأوَّله تجميدُ النار، ثمّ تثبيت الديموغرافيا، وأن يستعيد الفلسطينيون ولايتَهم على أُصول الدولة؛ تحضيرًا لاستيلاد الدولة نفسها لاحقًا.. لا يمنعُ ذلك احتمالَ أن تنخرط دُولٌ عربيّة فى النزاع؛ وإن فعلت أو أحجمت فسيكون على ضوء حساباتٍ عقلانية، تُوازِن بين فِقه الضرورة واعتبارات المصالح الظرفيّة والدائمة.
 
ما فعلته جنوب أفريقيا كبيرٌ وجليل؛ لكنه يظلّ من أدوات الضغط لا الحَلّ. ولإسرائيل تراثٌ طويل من الوقاحة وازدراء القانون؛ ولا إشارة على أن واشنطن بصدد العدالة أو الحياد.. ورغم ألاعيب ما يُسمَّى «محور الممانعة» فلا عاقلَ يُطالب بإبعاد السلاح تمامًا، كما لا يصح تجنيب السياسة أو التعالى عليها، والخلاصةُ أن فلسطين فى حاجة لأوراقها الثلاثة: قوّة رشيدة، وقانون جاد، ودبلوماسيّة تلتقى العدو فى محطّة هزيمته، أو تُعرِّى سرديّة انتصاره. وإن كان فى الثلاثة ما يخذل الغزِّيين العُزَّل؛ فإنه السلاح المُذخَّر بأُصوليّةٍ جارحة، وقد سرق القضية من إنسانيَّتها العادلة إلى عقائديةٍ بهيمية، تُغذِّى الصهيونية التوراتية وتتغذَّى منها، بينما تُدار المُواجهة العلنية تحت السقف ولا تخلو الغرف المُغلقة من تفاهمات. لقد أدانت الورقة الأفريقية أعمال «حماس» فى 7 أكتوبر وما أسمته «احتجاز الرهائن»، وغفرها الأُصوليّون الذين يكفرون بالقانون الدولى، وهم لا يمتدحون خطوةَ محكمة العدل إلَّا على سبيل النكاية؛ كأنها تختصم دولَ التعقُّل، وليست نضالاً سلميًّا ضد الاحتلال، جوهره رفضٌ عميق لأن تكون فلسطين ساحةً لتصفية حسابات بدائيّةٍ فى العِرق والاعتقاد. الحماسةُ للتقاضى إقرارٌ بالنظام الأُممىّ القائم، وهو يعرف طرفين: إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ويتنافى مع شهوة الإلغاء والهيمنة من النهر للبحر؛ إن كانت من الصهاينة تُجَّار الدم أو الميليشيات مُحترفة الشعارات. وبينما تُطرَح القضيّة فى لاهاى، وعلى أىِّ وجهٍ سارت؛ فإنها تصبُّ حصرًا فى إناء السياسة، لذا لا عَجَب أن أهل الحناجر والمنابر يهتفون بالبنادق والعبارات الرنَّانة لعُقود؛ وما زالت أصواتهم ضائعةً وكؤوسُهم خاوية.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة