منتصف يناير من العام الماضي يزور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الهند وتهلل الصحافة الهندية للزيارة وتصفها بـ"الزيارة التاريخية"، وهي الزيارة الثانية على هذا المستوى من جانب مسئولين إسرائيليين إلى الهند منذ العام 2013 أي بعد 15 عاما.
نتنياهو يستبق الزيارة بإصدار بيان يعبر فيه عن سعادته بالزيارة للقاء "صديقه مودى" - رئيس الوزراء الهندى - لتعزيز العلاقات بين تل أبيب ونيودلهى وخدمة "المصالح الأمنية والاقتصادية والتجارية والسياسية لإسرائيل"، ووصف نتنياهو هذا الأمر بأنه "نعمة عظيمة لبلاده."
العلاقات منذ الثمانينيات بين الهند وإسرائيل أخذت منحى تصاعدى ملحوظ دعمته التحولات الجذرية التي شهدتها مصر بين عهدى الزعيم جمال عبد الناصر فى الخمسينيات والستينيات والرئيس أنور السادات فى السبعينيات، والانحيازات العربية للمعسكر الغربى ودعم باكستان فى حربها مع الهند بشعارات دينية إسلامية ضد "الهند الهندوسية".
الغباء السياسي العربي والأوضاع الدولية الجديدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي دفع الهند إلى ما يسمى "بالمراجعة الشاملة في سياستها الخارجية وعلاقاتها مع الدول" واستدارت البوصلة الخارجية للهند من موسكو إلى واشنطن والذى كان يمر عبر تل أبيب، وأعلنت الهند تطبيع العلاقات مع إسرائيل عام 1992 خاصة مع دخول منظمة التحرير الفلسطينية مرحلة "أوسلو".
بعد أيامٍ قليلة من افتتاح السفارة الإسرائيلية في نيودلهي وقف وزير الدفاع الهندي، في البرلمان يبرر تطبيع العلاقات مع إسرائيل من خلال احتياجات الهند في الحرب ضد الإرهاب والجماعات الجهادية في كشمير.
المثير للأسى أن التطبيع يحدث في وجود حزب المؤتمر الوطني الذي أسسه غاندي وترأسه نهرو -الضلع الثالث في حركة عدم الانحياز بعد ناصر وتيتو- ومن بعده انديرا غاندي وهو الحزب الذي شهد تعاطفا كبيرا من الهند للقضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية.
فماذا حدث وما سبب هذا التحول العنيف في الموقف الهندي التاريخي المتعاطف والداعم للعرب وقضاياهم في المحافل الدولية الى الداعم لإسرائيل ؟
في أكتوبر الماضي أطلق رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، تصريحات مثيرة ندد فيها بعملية "طوفان الأقصى" ووصفها بالهجمات الإرهابية ضد إسرائيل.
وأعلن عن تضامن الهند مع إسرائيل "في هذا الوقت العصيب"، واتصل بنتنياهو مؤكدا له: "إن شعب الهند يقف بحزم إلى جانب إسرائيل في هذه الساعة الصعبة. والهند تدين الإرهاب بقوة وبشكل لا لبس فيه بجميع أشكاله ومظاهره".
التحول العنيف من نيودلهي تجاه تل أبيب، أصاب الشعوب العربية بالأسى والحسرة على زمن " عدم الانحياز" والعلاقات العربية الهندية القوية وخسارة القضية الفلسطينية حليف قوي للغاية في المحافل الدولية.
تقارير صحفية ودراسات سياسية فسرت هذا التحول الدراماتيكي الى سلسلة من المواقف العربية التي أدت الى تآكل الدعم الهندي للموقف العربي بدأت من الوقوف العربي - باستثناء مصر- إلى جانب الصين، خلال الحرب الصينية الهندية عام 1962، وخلال الحروب الباكستانية الهندية عامي 1965 و1971، حيث انحاز إلى جانب باكستان. وفي عام 1969، رفضت منظمة المؤتمر الإسلامي عضوية الهند مجاملة لباكستان، مع أنها تضم عددا من السكان المسلمين يفوق مسلمي بعض الدول العربية.
كل تلك المواقف العربية دفعت الهند إلى إعادة التفكير في مواقفها تجاه القضايا العربية وابتاع سياسة مغايرة يمكن وصفها بالسياسة المزدوجة وبدأت في فتح قنوات تواصل مع اسرائيل و اضطرت خلال حربها ضد الصين إلى قبول مساعدة عسكرية قدمها رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون. كما استفادت من علاقات في مجال التكنولوجيا الزراعية مع إسرائيل.
حتى مع وصول أنديرا غاندي إلى السلطة عام 1966، استمر الدعم الهندي للعرب خاصة خلال حربي 67 و73. كما دعمت الهند بقوة قرار الأمم المتحدة رقم 3379 للعام 1975 الذي يدين الصهيونية باعتبارها شكلًا من أشكال العنصرية كما سمحت لمنظمة التحرير الفلسطينية بفتح مكتب في نيودلهي، وكانت أول دولة غير عربية تمنحها الوضع الدبلوماسي.
الارتباك العربي بلغ مداه في الموقف من دعم المشروع الأميركي في أفغانستان وفي دعم باكستان، في مواجهة الهند، وهو ما دفع الحزب اليميني الهندوسي، الذي صعد لسدة الحكم عام 1998 وحتى عام2004. الى اظهار تعاطفه العلني تجاه إسرائيل.
بداية من عام 1999، أصبح التعاون بين اسرائيل والهند كبيرا، وتزامن مع اندلاع الحرب الهندية الباكستانية الثالثة، حيث زودت تل أبيب الهند بالسلاح، وخاصة طائرات الاستطلاع بدون طيار. دفعت الحرب بالهند نحو «إسرائيل» على نحو أكثر قوة، فخلال عامين أصبحت تل أبيب ثاني أكبر مورد للأسلحة إلى الهند، حيث حصلت على تسعة أنظمة صواريخ باراك في فبراير 2001، وبلغت التجارة الثنائية بين البلدين مليار دولار، بعد أن كانت أقل بخمس مرات في بداية الثمانينيات.
الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء آرييل شارون إلى نيودلهي عام 2003، كانت تتويجا لهذه المرحلة . فكانت أول زيارة يقوم بها رئيس للحكومة الإسرائيلية للهند والتي تلتها صفقة أنظمة فالكون أواكس للإنذار المبكر الثلاثة التي قدمتها إسرائيل للهند عام 2004، بموافقة أمريكية، لمراقبة خطوط التماس في كشمير.
التحالف الأمني الهندي الإسرائيلي، اعتمد على رؤية مشتركة للجماعات الإسلامية، سواء في كشمير، أو مع صعود منظمات المقاومة الفلسطينية الإسلامية، حماس والجهاد الإسلامي.
لم يتوقف قطار التحالف الهندي الإسرائيلي، بخروج حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي من السلطة عام 2004. وانما واصلت حكومة التحالف التقدمي الموحد، التي ضمت إلى جانب حزب المؤتمر، أحزاب يسار الوسط تعاونها الأمني مع تل أبيب. ففي نوفمبر 2007 زار وزير الداخلية الإسرائيلي مائير شطريت نيودلهي لتنسيق هذا التعاون، وفي ديسمبر 2009 قام رئيس أركان الجيش الإسرائيلي جابي أشكنازي بزيارة إلى الهند، لتعزيز التعاون الدفاعي. وخلال تلك الفترة بدأت الهند، مدفوعة بتصاعد الهجمات التي تنفذها جماعات جهادية، بالعمل على تشكيل جبهة دولية موحدة ضد الإرهاب، وقد وجدت في إسرائيل شريكا وحليفا بدعم أمريكي، يتجاوز مسألة الإرهاب نحو دعم الهند كمنافس قريب ومجاور للصين، وربما كبديل للصين في سلاسل التوريد وكمنصة تصنيع منخفضة التكلفة للشركات الإسرائيلية والأمريكية.
ومع عودة بهاراتيا جاناتا إلى السلطة، في عام 2014 بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي أصبح التحالف الهندي الإسرائيلي، أكثر رسوخا وعلانية. وهيمن مودي على السياسة الهندية.
على الجانب الاقتصادي، تعتبر إسرائيل ثالث أكبر مورّد للأسلحة إلى الهند. وفي عام 2017، زار رئيس الوزراء مودي إسرائيل، ليصبح أول زعيم هندي يزور تل أبيب. كما فازت مجموعة «أداني» الهندية بمناقصة خصخصة جزء من ميناء حيفا مقابل مليار دولار، لتسيطر على أحد الموانئ البحرية الرئيسية في إسرائيل، حيث يتحرك حوالي 99٪ من جميع البضائع داخل وخارج البلاد عن طريق البحر.
كما اشترت نيودلهي 250 قنبلة سبايس 2000 من رافائيل بالإضافة إلى طائرات استطلاع بدون طيار وصواريخ سبايك الموجهة المضادة للدبابات. والهند عضو في المنتدى الرباعي 12يو2 إلى جانب إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة منذ عام 2022، الذي يعمل على إنشاء «استثمارات مشتركة في مجالات المياه والطاقة والنقل والفضاء والصحة والأمن الغذائي». وقد زادت التجارة بين الهند وإسرائيل من 200 مليون دولار في عام 1992 إلى 7 مليارات دولار في عام 2022، دون اعتبار مشتريات المعدات العسكرية.
وذرا للرماد في العين العربية يحاول "مودي" عدم خسارة العرب تماما بالدعوة إلى حل الدولتين، ودعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس لزيارة نيودلهي في عام 2017 والحفاظ على نسق تمويل مستمر لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، في محاولة للحفاظ على صورة الهند في المنطقة العربية لأسباب جيوسياسية واقتصادية.
وخلال قمة مجموعة العشرين التي استضافتها نيودلهي في سبتمبر الماضي، تم الإعلان عن إطلاق الممر الاقتصادي للهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذي يضم الهند والولايات المتحدة والسعودية والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، حيث سيربط هذا الممر الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط. لذلك تسعى الهند إلى دعم أي صيغ لحل القضية الفلسطينية بهدف تنفيذ هذا المشروع الحيوي بالنسبة لها، والذي يوازي مشروع طريق الحرير الصيني.