حازم حسين

عقدة الدولة الظالمة وحل الدولتين.. عن فريضة أن نحلُم مهما بدا الحلم مستحيلا

الأربعاء، 17 يناير 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا شرفَ يفوقُ الموتَ لأجل الوطن؛ لكن ما لم يُشرق الوطنُ من بين أكوام الجُثث؛ فإنّ الموتَ قد يكون مجّانيًّا، وقوافل الشهداء قرابين على مذبح عدوٍّ لا يشبع من الأشلاء والدم. الحقُّ يقول إنّ الغزِّيين العُزَّل ليسوا مسؤولين عن انغلاق أُفق السياسة، والمُقاومة أيضًا؛ فإسرائيل التى اغتصبت الأرضَ تحصُد الأرواحَ بالشهوة نفسها، ولا تفصل بين رغبتها فى ابتلاع الخريطة، وجهودها لتبييض الجغرافيا من ساكنيها. لكنّ المنطقَ والبراجماتية يقولان شيئًا آخر؛ أهمّ ما فيه الْتماسُ التوازن بين المُمكن والمأمول، وتفعيلُ ماكينة التحرُّر بكامل طاقتها الحربية والسياسية، وقَطْع الطريق على الغريم بكلِّ السُّبل الخشنة والناعمة، وبالأخلاق والقانون، وعلى يقينٍ كامل بأنها معركةُ النَّفَس الطويل، ومُباراة النقاط والخبرات المُتراكمة، وتتطلَّب شيئًا من التواضع دون تفريط، ومن الشدَّة دون إفراط، ومن التلاحُم الوطنى الذى لا تعلوه غايةٌ مهما قِيْل عن شرفها، ولا مصلحةٌ مهما رأى فريقٌ أنها تتقدَّم على غيرها. الدولةُ بعيدةٌ بقدر ابتعادنا اليوم عمّا قبل قرار التقسيم، وبقدر الفارق بين ترسانة الصهاينة وهشاشة المدنيِّين، وبقدر الطُهرانية التى ترفعها بعض الفصائل فى وجوه غيرها، ولن تذوب المسافاتُ الطويلة إلَّا بالتحليق مع الأمل لأعلى أطياف التفاؤل الوردية، والانغماس فى الواقع حتى أعمق بُقَع التشاؤم السوداء.
 
وُضِعت العراقيلُ فى طريق «حلم الدولة» الفلسطينية طوال الوقت. فى صَدر الصراع كانت الحماسةُ على قاعدة التأصيل الدينى مانعًا من التعاطى البراجماتى، وفوَّت العربُ فرصةَ الخروج بالمكاسب المُتاحة، على أمل تعزيزها لاحقًا. وبعدها لعبت الشراهةُ الصهيونية دورًا حاكمًا فى تغييب القضية وراء ستارٍ من الشحن والمعارك الجزئية، وتصعيد الأطماع بين محطَّةٍ وأُخرى. الحاضرُ يقول إن اليهود ما كانوا ليقبلوا بتفعيل مُعادلة التقسيم فى شِقّيها بالتوازى ولو ارتضاها الفلسطينيون؛ لكن ذلك لا يمنعُ الإقرارَ بخطأ التقاعس عن اختبار السياسة وقتها، وكانت التوازنات الدوليةُ أثقلَ ممَّا هى عليه حاليًا، أو فى الجولة المصرية من «مينا هاوس» إلى كامب ديفيد، والشرخ الذى أحدثه الانقسام الفلسطينى فى جدار أوسلو؛ فساعد تل أبيب على دَفن الاتفاق بأقلّ قدرٍ من الأعباء القانونية والأخلاقية. واليوم، يُريد الاحتلالُ الهيمنةَ الكاملة دون مُنغّصات، وتتعشَّم الفصائل المُحافظة فى دولةٍ لا يُواكبها اعترافٌ بالطرف الآخر، رغم رومانسية الإلغاء النفسى بينما يتحقَّق الحضور المادىّ بقوَّة الأمر الواقع.
 
مُعضلةُ التسوية أنَّ مُكوِّنًا عظيمًا من الطرفين لا يُريدها عند الحدود المنطقية المُقنعة. كان لافتًا أن يقول وزير خارجية إيران إنَّ ما يجمعهم بإسرائيل هو الاشتراك فى رفض «حلّ الدولتين»، وخطاب حماس يُواكب ذلك. أمَّا الإشكاليةُ الكُبرى فتخصّ الجغرافيا أوّلاً: بدأ الأمر بحصَّةٍ عربية تُقارب نصفَ المساحة، تقلَّصت كثيرًا بعد النكبة، ثمّ آلت إلى 22 % فقط عقب عدوان يونيو 1967، وهى الآن أقلّ ممّا كانت عليه قبل خمسة عقود. ثمّة توازنٌ ديموغرافى لا يُقابله اتّزان على الأرض، وتداخُلٌ عميقٌ بالاستيطان فى الضفَّة والوجود العربى وراء الخطّ الأخضر. وإن تقبَّل الصهاينةُ التسويةَ فسَقفُهم أن تكون الدويلةُ الجديدةُ عاريةً من كلِّ مُقوِّماتها؛ إلَّا الاسم والعَلَم، وطموحُ الضحايا أن يمتلكوا جيشًا مُنظّمًا ومنافذ حُرَّة على العالم، بينما تظلُّ المقاومةُ مشروعةً من عدَّة مُستويات: المقتنعون بالسلام يحقُّ لهم دَفعُ الحدود الظالمة إلى خطوط التقسيم المُعترَف بها دوليًّا، والمُؤمنون بالقوَّة لن يتخلَّوا عن حلم التطهير الكامل من النهر للبحر، وانفرادُ أحد التيَّارين بالسلطة لن يُنهى حركة التحرُّر الوطنى، واشتراكُهما فى الإدارة سيُبقِى المسألةَ عند استقطابها الراهن، والعدوُّ الجائعُ لا يُسلِّم بإخلاء نصف فلسطين، ولا ربعها، ولا أىِّ شبرٍ تطاله أحذيةُ جنوده وجنازيرُ دبّاباته.
 
أنحازُ شخصيًّا إلى أن إسرائيل بلدٌ كامل من اليمين، تختلف فيه الخطابات ولا تتبدَّل الأُسس الراديكالية المسبوكة من حديد التوراة ونار الاستيطان الإلغائى. ولو افترضنا صلاحيةَ التصنيف الأيديولوجى الشائع، وحُجّيته على السياسة اليهودية؛ فالعُقدة تتجاوز الشخوصَ والمُماحكات الحزبية وصراعات السلطة. ليست المشكلةُ فقط فى أنَّ الجيِّد للدولة العبرية سيّئ لنتنياهو، والعكس. فالأزمةُ أنّ النزعةَ اليمينية الجارحةَ تحكُم العقلَ الصهيونى بعُموميّته، شارعًا ومُؤسَّسات وأطيافًا سياسية. كان المُعتاد أن تقع الكارثةُ فى عُهدة التقدُّميين؛ فيتقدَّم المُحافظون ليُرمِّموا الصورةَ ويحصدوا نصيبهم من المكاسب. هكذا كانت الحال فى حرب أكتوبر 1973 التى رفعت الليكوديين على حساب العُمّال، وبالكيفية نفسها فيما بعد أوسلو واغتيال رابين. كلُّ امتحانٍ قاسٍ كان يدفع الدولةَ بعُنفٍ من اليسار إلى اليمين، وما حدث فى «طوفان الأقصى» أن المُتطرّفين كانوا فى الحكومة بالفعل؛ فكانت الإزاحةُ نحو مزيدٍ من الغطرسة التى حوَّلت الإسرائيليين جميعًا إلى فيالق من الحمقى والمخابيل. حُكّام تل أبيب يعتبرون «حلَّ الدولتين» نكسةً وطنية وعقائدية، وصار الناخبون يُشاركونهم الرؤية؛ لذا فإنَّ إطاحةَ الحكومة القائمة لن تستجلب بالضرورة تغيُّرًا فى الرُّؤى والإجراءات؛ إذ البيتُ بكامله اليوم على نغمةٍ واحدة، وحتى لو خفتت قليلاً مع إسكات البنادق؛ فإن خُفوتَها لن يكون دليلاً على انحسار المدِّ اليمينى.
 
ينظرُ الغربُ للمُستعمَرة التوراتية باعتبارها قاعدتَه المُتقدِّمة فى الشرق؛ وهكذا ترى نفسها أيضًا. منابر العبرية تُواكب شعبويَّة اللغة فى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وفنلندا والسويد وغيرها، حتى أنه لا يُمكن فصلُها عن الجائحة اليمينية التى تستشرى بامتداد أوروبا، وانتعاشة الجمهوريين الأمريكيين أو سطوع تيَّار شبيه بالمحافظين الجُدد داخل الحزب الديمقراطى. بُنِيَت المسألةُ منذ التسعينيات على البحث عن عدوٍّ بديلٍ للشيوعية، وتطاول البنيانُ تحت تأثير الهجرة الكثيفة، وبزوغ روح إسلامويّة تُطلُّ من وراء غلائل العلمانية الشفَّافة. صار الإسلامُ الغريمَ المثالىَّ للقوميِّين المُتشدِّدين فى شمال العالم، وتلاقى ذلك مع سرديَّة صهيونية تُحرِّف مسألةَ فلسطين لمعركةٍ دينية. اليمينُ كان على المسار الصاعد فى إسرائيل؛ بزخم الموجة الأنجلوساكسونية البيضاء، وأثر الفراشة الذى لا يزول؛ على ما قال درويش، وما فعلته «حماس» أنها عزّزت أجواء الحشد وسرَّعت وتيرتَها، فما عاد مأمولاً أن يمتدَّ الصراع الأيديولوجى فى تل أبيب، وتقع مقاومة يساريّة مثلما يجرى فى بعض الدول وراء المُتوسِّط. حزب العمل مات إكلينيكيًّا مع بقايا اليسار المُوزَّعة على كياناتٍ شديدة الهشاشة، وجانتس ويائير لابيد فى الوسط لا يقلّان شراسةً عن مُثلث «نتنياهو/ سموتريتش/ بن جفير». التربةُ الأوَّلية الصالحة لاستقبال بذرة التسوية على شرط الدولتين لم تعُد متاحةً، ورمالُ الساحة المُتحرّكةُ فيها من التفاصيل الأمنية والاجتماعية ما يقطع باستحالة الفكرة، فى المدى المنظور على الأقل.
 
صدمةُ «الطوفان» خلقت وعيًا جديدًا بين سكَّانٍ يتعاقدون مع نظامهم على الأمن أوَّلاً. الانكشافُ الذى أظهرته العملية، ثمّ الهشاشةُ التى فضحتها الحرب على غزَّة؛ ستُنتِجان بالضرورة مزيدًا من التشدُّد بشأن الترتيبات المستقبلية، مثلما رفعتا منسوب الوحشية بغرض استعادة الهيبة وتجديد صورة الرَّدع. يُمكن افتراض أن أيَّة حكومة بديلة عن ائتلاف الليكود والتلموديِّين، لن تجرؤ على انتهاج مساراتٍ قد تُحمَل على أنها تنازلاتٌ سياسية وأمنيّة. وإن كانت رُزمةُ الأهداف غير الواقعية التى حدَّدها نتنياهو بدت محاولةً يائسةً لإطالة بقائه فى السلطة؛ فإنَّ فحواها قد صارت مطلبًا له الأولويّة فى نفوس الإسرائيليين عمومًا، ومُستوطنى الجنوب والشمال بالتحديد، وربما فى الضفَّة أيضًا. ما يعنى أنه سيُنظَر لأيَّة تهدئةٍ ظرفية، أو مُقترَح للتسوية الدائمة، من منظار المخاطر المُحتملَة لا وعود الفُرص المضمونة. ونتاجُ ذلك أن تذهب الدولةُ لمزيدٍ من العَسكرة على حساب السياسة؛ وتنصرف الخياراتُ كلّها إلى تحييد الخصوم بدلاً من تمكينهم. والسبيلُ الوحيد أن ترتدع التهديدات بالقوّة أو الشروط القاهرة، سواء على أجندة الاحتلال أو السياج العازل فى غزّة، وتعديل قواعد الاشتباك بتكسيح قدرات «حزب الله» أو إزاحته لشمال نهر الليطانى فى لبنان. ولأنها غاياتٌ يستحيل تحصيلُها من القطاع والضاحية؛ فمآلها أن تحترقَ أوراق التفاوض فى أيدى الجميع؛ إن تطوَّرت الحربُ أو طُمِرَت جمراتُها تحت رماد الجولة الحالية.
 
افتُتن كثيرون بعد السابع من أكتوبر، بتشبيه عملية «حماس» بحرب التحرير المصرية قبل نصف القرن.. ظاهريًّا ثمّة تشابهات فى التوقيت والفاعلية الاستخبارية وتقنيات الخداع؛ إنما عمليًّا لا رابطَ بين الحدثين تقريبًا. خاض المصريون معركتَهم من أرضٍ مُحرَّرة، وعلى صِفة الدولة فى مواجهة احتلالٍ عارض، وجمعوا بين السلاح والدبلوماسية بديناميكيّةٍ وتكامُلٍ ناضجين. أمَّا الفصائل فإنها تنطلق من أحضان غريمها، ويُثقلها الانقسام، وقد اصطنعت صراعًا مُعطِّلاً بين المُقاتل والمُفاوض. والأهمُّ أن الانتصار العسكرى وحده لم يكن كافيًا للحَسم وتَثمِير القوّة فى خزّان المكاسب الميدانية والسياسية. احتاج الأمرُ إلى طاقةِ دَفعٍ استثنائية حملها «السادات» فى طائرته إلى تل أبيب؛ فأحدث بها صدمةً مُزلزلةً للعدوِّ والصديق، وأجبر الجميع على الانخراط فى ورشةٍ جادة؛ لتصفية المسألة التى كانت عالقةً بأثر تجميد الجبهة وانحياز الوسطاء. ولا يبدو أن الجرأةَ التى تحلَّى بها الرجلُ قديمًا تسهُل إعادةُ إنتاجها اليوم؛ فالأوضاعُ الدولية أكثر اختلالاً عمّا كانت، وكيانُ الاحتلال أشدّ توحُّشًا بينما يُستَهدَف من داخله، والمقاومةُ عاجزةٌ عن المُوازنة الخلّاقة بين الوطنى والأيديولوجى، ولا زعامة كاريزمية تُلائم الدور المطلوب؛ فى غزّة والضفّة أو فى واشنطن وتل أبيب.
 
كلُّ ما فات لا يلغى حتميّة تنصيب اللافتة ولو لم يقرأها أحد؛ فأنْ تجدَ القضية عنوانًا معلومًا أفضل من أن تظلَّ حائرةً أو تائهة. وأهميّة الإلحاح فى طَرح «حلّ الدولتين» أنه يُبقِى البديلَ السياسى لحالة الانسداد قائمًا، وقابلاً للتحقُّق ولو من ناحيةٍ نظرية. العربُ يُثيرونها لتثبيت الحقوق التاريخية العادلة إلى أن يحين أوانُ استيفائها، والولايات المتّحدة تتّخذها وسيلةً للمُناورة وتقطيع الوقت وتقاذُف كُرة اللهب بين الإدارات المُتتابعة على البيت الأبيض؛ لكنّ المُحصِّلة واحدة: المُنحازون للسلام سيجدون منفذًا عاقلاً يهربون إليه من الجنون، والمُغرمون بالحلول الصفرية وإلغاء الآخر سيصطدمون بخيار الحياة الثابت بعد كلّ جولةٍ مع الموت. وإن كان التنشيطُ يتطلَّب جهدًا أكبر؛ لناحية تحرير القضية من غبار حقبة التقسيم، وما تلاها من انحرافٍ إلى الوحشية أو الراديكالية، واستكشاف بدائل جديدة أعلى كفاءة فيما يتّصل بقواعد الاقتسام، وترسيم الحدود، وشروط التعايش، وتوازنات القوّة والردع، وموضوعات مُبادلة الأراضى، وبقيّة إشكالات الحلِّ النهائى. وربما تُثار صيغةُ الدولة الواحدة بتصوِّرٍ أنضج وأكثر عملانية، أو يُفتِّش المعنيّون بالنزاع من خارجه عن كوابح للأُصوليّة المُتسلِّطة على الفريقين. لن يقبل التوراتيّون دولةً علمانيّة جامعة، ولا الإسلاميّون أيضًا سيقبلونها؛ إنّما من مهام المُيسِّرين أن يُوسّعوا حدودَ النقاش، ويُحوّطوا بيئةَ التفاوض بجدرانٍ عالية؛ تُقيّد المراوغةَ وتمنع التهرُّب من الالتزامات. 
 
فى لحظةٍ ما، كان الصهاينةُ مُقتنعين بأنهم قضموا سيناء للأبد، ولن يُغادروا ما اقتطعوه من الأردن ولبنان، بل لم يتصوَّر سكّان «غوش قطيف» أنهم سيموتون خارج بيوتهم المقطوعة من لحم غزّة، وتكفَّلت الأيّام بتبديد الأوهام كلّها، وتطبيع نفوسهم على واقعٍ جديد. و«حلّ الدولتين» الذى صار بعيدًا، وربما يُقارب الاستحالة بمُعطيات «هنا والآن»، ربما يكون المدخلَ الأكثر جدّية ومعقوليّة لتعبئة شرايين الاحتلال والمقاومة بالمُنشِّطات. دروسُ التاريخ حاسمة، وما ترفضه اليوم قد تكون أوّلَ المُبادرين إليه غدًا. مُنظَّمة التحرير وُصِمَت بالإرهاب ثم عادت لتُدير نضالَها من الداخل، و«حماس» قد تكون فى موضع «عرفات» من صورة أوسلو مُستقبلاً. إنها مهمَّة شديدة الصعوبة فعلاً؛ لكن منذ متى كانت فلسطين سؤالاً سهلاً أصلاً، أو كانت القضايا الوجودية تُحسَم فى الواقع قبل أن يحسمها الخيال؟! لولا الدروب العسيرة ما تحرَّرت الجزائر، ولولا الرومانسية الحالمة ما استقلَّت الهند، ولولاهما معًا ما كنت القضيةُ الفلسطينية حيَّةً وهادرةً إلى اليوم، وبعد كلّ ما تلقّته من ضرباتٍ قاتلة.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة