فى بداية عام جديد لسنا بحاجة إلى التنجيم وحسابات الفلك والكواكب، لنعرف أن أزمة النظام الدولى تتفاقم، وتستمر معنا فى 2024، الصورة فيما يتعلق بالأزمات والصراعات فى العالم وانعكاساتها الاقتصادية تتضاعف من دون أفق للحل، يتواصل العدوان الإسرائيلى على غزة، ومناطق بالضفة، فى حرب إبادة، تعجز المنظمات الدولية عن وقفها، أو مواجهة العدوان، وتقف الولايات المتحدة مع العدوان، ويفقد النظام العالمى ما تبقى من إنسانيته أو احترام القانون الدولى والإنسانى.
وفى فبراير المقبل تكمل الحرب فى أوكرانيا العام الثانى، ويتحول إلى أحد الصراعات المزمنة، وتدفع دول العالم ثمنا باهظا لـ«صراع نفوذ»، بلا أفق قريب للحل.
فى البداية كان كل معسكر يعلن حسم انتصاره، ويصر على تطبيق مطالبه ووجهة نظره، وحتى الآن لا تبدو أن هناك نتائج، باستثناء تضاعف أزمات الركود والتضخم، وتتفاعل مع بقايا تأثيرات كورونا، وأزمات الطاقة والحبوب والأخشاب والنقل.. تراجع شبح الصدام النووى لكن الصدام الاقتصادى وانعكاساته تتواصل وتؤثر على اقتصاد العالم، وتنعكس فى صورة تضخم وارتفاعات أسعار، تصل إلى كل دول العالم بدرجات متفاوتة، بينما المنظمات الدولية والدول الكبرى، بل والنظام العالمى الحالى، عاجزون عن مواجهة الأزمات، وتظهر الولايات المتحدة كطرف مشارك فى حرب روسيا وأوكرانيا، سحبت معها أوروبا فى مواجهة كان يمكن السيطرة عليها، لكنها تفاقمت وتفاعلت لتضاعف من أزمات اقتصادية متصاعدة من دون أفق للحل.
فى بداية ديسمبر الماضى نشرت مجلة إيكونوميست البريطانية، تقريرا قالت فيه إنه ولأول مرة منذ بداية حرب روسيا على أوكرانيا فى فبراير2022، يبدو الرئيس الروسى فلاديمير بوتين وكأنه قادر على الانتصار، بسبب افتقار أوروبا للرؤية الاستراتيجية، وأن الانتصار يتعلق بالقدرة على التحمل، ولذلك يمكن أن تستمر لسنوات عديدة.
وهناك رؤية لدى المحللين فى الغرب أن موسكو تضاعف من سعيها لمواجهة نفوذ الغرب، والولايات المتحدة، بالمزيد من المساعى لمواجهة النظام العالمى الذى يحظى بأكبر قدر من الرفض من قبل دول العالم، وأن التحالفات الاقتصادية والسياسية التى تمت خلال عام 2023، يمكن أن تثمر خلال سنوات فى تغيير توازنات القوة فى العالم، لتكون أكثر قدرة على التفاعل بعيدا عن نظام دولى يثبت فشله بشكل مستمر.
وكان توسيع تجمع «بريكس» فى أغسطس الماضى، أكبر مواجهة لاختلالات النظام الاقتصادى ورغبة الدول والتجمعات الإقليمية والسياسية، للمطالبة بإصلاح الأمم المتحدة ومعها المنظمات التى قامت ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع صعود اقتصادات دول مثل الصين والبرازيل والهند، وطموحات دول مثل مصر وجنوب أفريقيا، ورغبة دول مثل السعودية والإمارات العربية فى انتهاج طريق للتنمية المستقلة، وهى مطالب لا يساعد النظام الاقتصادى الحالى فى تحقيقها. أمام القمة 15 لبريكس فى جوهانسبرج، تحدث الرئيس الصينى شى جين بينج، عن عالم أكثر «إنصافا وعقلانية» يضمن مصالح أطراف متعددة، وليس طرفا واحدا، وكان الإعلان عن توسيع تجمع بريكس تحولا وتعبيرا عن رغبة وطموح فى إعادة تشكيل النظام الذى لم يعد مناسبا للواقع وحجم التأثير والنفوذ الاقتصادى.
ويعتبر محللون غربيون وأمريكيون أن توسع مجموعة «بريكس» وانضمام دول جديدة يدل على ثورة عالمية وترجمة لمطالبات متوالية لإصلاح النظام المالى والاقتصادى العالمى، وفى فرنسا وصف رئيس حركة «الوطنيون» فلوريان فيليب، توسيع بريكس «قبول 6 دول، أعضاء جدد فى بريكس أهمها مصر وإثيوبيا وإيران والسعودية والإمارات» بمثابة ثورة جيوسياسية عالمية، يمكن أن يضعف أمريكا، وفى نفس السياق ترى عضو الكونجرس الأمريكى مارجورى تايلور، أن «بريكس» تهدد الاقتصاد الأمريكى.
وكانت تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، حول «بريكس» هى الأكثر تعبيرا عن تحولات تواجه النظام العالمى، حيث قال ماكرون «لا يمكن التقليل من المحاولات التى تطلقها مجموعة بريكس للتوسع وإقامة نظام عالمى جديد، لأن النظام العالمى القائم أصبح ضعيفا، ويتعقد يوما بعد يوم»، لافتا إلى أن هناك خطرا يواجه أوروبا مع تراجع ثقلها الدولى وصعود قوى أخرى.
ماكرون قال أيضا إن حدود أوروبا مع أفريقيا تواجه تهديدات بسبب تصاعد الغضب ضد إرث الاستعمار، فى إشارة إلى ما يواجه فرنسا فى النيجر ودول أفريقية أخرى تبدى تمردا على السيطرة الفرنسية.
تجمع «بريكس» ترجمة لمساعى الصين والدول الناشئة لتحقيق نمو سريع للكتلة التى تضم الاقتصادات الناشئة الكبيرة، التى لا تجد النظام الاقتصادى العالمى متناسبا مع حجم وقوة الاقتصاد فى دول العالم ذات الاقتصاد الصاعد والطموحات التنموية، فالنظام الذى وضعت قواعده باتفاقية بريتون وودز فى يوليو 1944 بالولايات المتحدة الأمريكية، وتشكيل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى اللذين ظلا تحت سيطرة الولايات المتحدة والسبع الصناعية، هذا النظام لم يعد مناسبا لقوة الاقتصاد فى دول مختلفة، وبالتالى فإن بريكس خطوة بالطريق قد تغير من قواعد النظام الاقتصادى، توازيا مع الدعوة لإصلاح النظام الأممى، الذى يعجز عن مواجهة الأزمات بل ويساهم فى مضاعفتها بدلا من مواجهتها.