حازم حسين

رقصة الذئاب فى دائرة النار.. جغرافيا «رسائل البريد» فوق غزّة وتحت سقف الحرب

الأحد، 21 يناير 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
حتى اللحظة الأخيرة قبل الحرب، يتبادل الجميع رسائل الطمأنة. الحروبُ بطبعها مُراوغة؛ فإمَّا تُريد أطرافها المناورة طمعًا فى امتلاك المُبادأة، أو تسقط فيها فجأة بفعل سوء التقدير وخطأ الحسابات. والوضعُ فى المنطقة قد آلَ لتصعيدٍ خطير، وصار عند أعلى درجاته سخونة. وأخطر ما فيه أنك لا تعرف مَن يبتغى الهدوء فعلاً، ومَن يتسحَّب ببطءٍ ناحية الإشعال. فى إسرائيل مخابيلُ يسبكون أهدافهم على ألسنة النار، وفى البحر الأحمر فريقٌ يتساوى لديه الصمت مع الكلام، وشمالاً حزامٌ من ميليشيات المُمانعة يُكبّلهم الخوف وتُثيرهم الكرامة. والولايات المُتّحدة شريكٌ فى أحاديث التبريد ومُمارسات التسخين، وكلّ ذلك لا يصبُّ فى صالح غزَّة، وقد أُدِيرت جولةُ التلطيش المُتبادَل على شَرفها أصلاً. كلُّهم ضعفاء يتصنَّعون القوّة، وليست فى يد أحدهم ورقةٌ حاسمة، والتساوى كما يُطفئ المعاركَ بالتعادل أحيانًا؛ فإنه كثيرًا ما يُوقِدها بتَواُزن الهشاشة ومطامع الحسم.
 
الخلافاتُ القديمة تجدَّدت على أطراف القطاع. الجبهاتُ الرديفة غطَّت أجندتها بغلالة المظلمة الفلسطينية، والصهاينة ركبوا أمواج «طوفان الأقصى» على أمل أن تحملهم لتوازناتٍ جديدة، يُمهّد لها السلاح ويصيغها الرعب والدم. وشيئًا فشيئًا تتزحزح قواعد الاشتباك، وتنخرطُ ساحةٌ بعد أُخرى فى لعبة «صناديق البريد». والمُؤكَّد أن واشنطن وطهران لا تُريدان حربًا واسعة المدى، وتخشاها إسرائيل وحزب الله؛ لكنهم يقولون ولا يعملون، أو بالأحرى يسلكون السُّبل المًعاكسة تمامًا. إنَّ مركزيّة غزّة فى الصراع الراهن، على ما يُبدى كلُّ المتصارعين، حدودُها أن يتشدَّد الاحتلال فى إنجاز أهدافه ضد حماس، ويشتغل المُمانعون على تعطيله لتخفيف الضغط عن الغزّيين، على أن تنشط الوساطةُ الأمريكية لامتصاص فائض الحرارة وترتيب طاولة التفاهم. وما يحدثُ أن البيت الأبيض ما زال مُنحازًا، وحُلفاء الفصائل ما خفَّفوا ضغطًا ولا وفّروا للقضية صفاءها من الاستقطاب واللكنة الشيعية، واليمينُ الصهيونى المُتطرّف يُراهن على الانفجار قبل أن يُفرَض عليه قرار. والثلاثةُ يتشاركون بجدّية فى ترسيم ميدانٍ جديد، أوسع من فلسطين، وأشدّ إيلامًا من قضيّتها العادلة.
 
لا ذاكرةَ لإسرائيل خارج مُدوّنة الموت والخراب. إنَّ تاريخها بالكامل هو تاريخُ الحروب مع المنطقة، ووجودها مُعلَّق على شَرط التوتُّر الدائم. لقد بدأت عصابةً قبل أن تصير دولة، وجيشًا قبل السُّلطة المدنيّة. يُمكن تلخيصُها فى رحلة الميليشيا من مأسسة العنف إلى ابتكار جسمٍ سياسى، وهى بذلك لا تختلفُ عن تجربة «داعش» فى الرقّة السورية، ولا عن دُويلة الحزب فى عُموم لبنان. نجح آباءُ العصابات فى تنظيم آلة القتل، ثم أخضعوا أطرافها قهرًا، وتقدَّم أحدُهم ليقود الكيان المُلفَّق بمعمارٍ حداثى وذهنيّة أُصوليّة جارحة. على هذا التأسيس؛ فإنها لا تنظر لنفسها كبلدٍ طبيعى، ولا تُدير نزاعاتها تحت سقف القانون والوسائل السلمية. المرَّةُ الوحيدة التى فعلتها مع مصر كانت تدفع خطرًا وجوديًّا داهمًا، ويبدو اليوم أنها لا ترى تهديدًا حقيقيًّا، أو تتعامى عنه. لكنّ الخُلاصةَ أن حربَها على «غزّة» لا تستهدفُ الاحتواء أو التطويع؛ بل الإبادة ماديًّا أو معنويًّا. بمعنى أن يُزاح الغزِّيون كُتلةً واحدة أو تتفكَّك روابطهم ليصيروا أفرادًا فى مجتمع بدائى. تفريغُ الأرض أو ابتلاعُها بمثابة شَرط الوجود لدى الصهاينة، وهم يعلمون أنهم مُحتلّون، ويعيشون على حدِّ الخطر حربًا وسِلمًا؛ لذا فإن أفضل هديّة لتل أبيب من خصومها أن يدعوها إلى النِّزال؛ لا سيّما أن الغول الأمريكى حاضرٌ على أهبة الاستعداد.
 
تصطفُّ واشنطن بجانب حليفٍ مجنون، سعيًا إلى ترويض غريمٍ لا يقلّ جنونًا. لقد كانت «غزّة» الضعيفة فرصةً مثاليّة لأن يُخرِج كلُّ ذئبٍ هائجٍ ما فى جوفه: نتنياهو يُغالِب أزماته الداخلية بأشدّ صُور الوحشية، ويُجاهر مُتفاخرًا بإفساد مسار أوسلو والقطيعة مع «حلّ الدولتين»، والذين يُسمِّون أنفسهم بالمُمانعة يسرقون الورقةَ الأخلاقية الشريفة؛ ليُقامروا على مصالح ليست فوق الشبهات. والأمريكيّون يعرفون أن الملفات صارت مُتشابكةً، والعاطفة المُتأجّجة فى الإقليم لن تفصل رصاصةَ الثأر عن رصاصات الملف النووى. كان غريبًا أن يصرفوا رصيدًا سياسيًّا ودعائيًّا للحوثيّين مثلاً، بأسوأ أشكال التعاطى وأكثرها خِفّة؛ بدءًا من التهديد، ثمّ بناء تحالُفٍ بحرى خاص، واستصدار قرارٍ من مجلس الأمن، وتنفيذ عشرات الغارات الجوية على اليمن، وإلى تصنيفهم جماعةً إرهابية، وكانت إدارة بايدن نفسها رفعتهم من القائمة قبل ثلاث سنوات، وعقب 31 يومًا فقط من إدراجهم فيها أواخر ولاية ترامب. إن كان فى هذا السلوك شىء من الانتقاء والانتهازية، فإنَّ أردأ ما فيه التدليل على رُعونة الأمريكيِّين وغرامهم بتسديد الكُرات فى المرمى الخاطئ.
 
يتردَّد فى أروقةِ البيت الأبيض، وعلى ألسنة مسؤولين ومُقرَّبين من الإدارة؛ أنهم ينتظرون ما بعد نتنياهو لإنجاز رُؤيتهم للملف الفلسطينى. كان جيّدًا أن ينضبط خطابُهم جزئيًّا على إيقاع الحرب، فينتقل من إسناد الإبادة بشكلٍ فاضح، إلى انتقاد الانفلات العسكرى ورَفض التهجير والتمسُّك بمسألة التسوية على قاعدة الدولتين. لكنَّ المُؤسف أن تكون قنوات ضخّ الذخيرة سالكةً، بينما تنسدّ قنوات الدبلوماسية والضغط السياسى. ولا شكّ فى قُدرة واشنطن على ترويض تل أبيب، كما لا حصافةَ فى الرهان على إزاحة حكومة الليكود، وقد صارت النزعةُ اليمينية حاكمًا للشارع الصهيونى. خلاف الجمهور مع نتنياهو على الشخص لا الفكرة، ومن غير المُرجَّح أن تُثمر أيّة انتخابات وشيكة نظامًا أقلَّ تشدُّدًا، أو خطابًا ينحو للتهدئة والحلِّ الشامل. إذا لم يكن «بايدن» قاصدًا تقطيع الوقت؛ فإنه يُبرهِن بهذا التصوُّر على منسوبٍ عالٍ من الرخاوة والغباء.
 
فى المقابل، تُشير الوقائعُ إلى تحضيراتٍ تتجاوز حدودَ الحرب القائمة، وتتمرَّد على توازناتها المرعيّة فى غزّة وبقيَّة الساحات الساخنة. عندما ربطت إيران بين تفجيرات مرقد قاسم سليمانى فى كرمان، وما تراه عربدةً إسرائيلية أمريكية فى المنطقة؛ كانت فى الواقع تُمهِّد لجاهزيّتها أن تكون طرفًا فى المُعادلة لو فُرِض عليها ذلك. ضرباتُها الثلاث التى وجهتها للعراق وسوريا وباكستان فى يومين، حُمِلَت على الثأر والاستباق، بالقول إنها كانت ضدّ مجموعاتٍ إرهابية وأنشطةٍ للموساد. وبعيدًا من المُعلَن وواقع الأرض، يُمكن النظر إليها من زاوية استمرار الرسائل والمُكاتبات، والتلويح بالمدى الجغرافى الذين قد يؤول إليه ميدانُ الحرب المقبلة، وإن كان مشروعُها النووىُّ لم يكتمل بعد؛ فبإمكانها استدعاء قوّةٍ نوويّة أُخرى إلى حلبة النزال. أى أنها لم تقصد التصعيد بقدر ما أرادت الاستعراض، تلويحًا بالحديد وتأطيرًا لجُغرافيا النار. ثمّة رسالةٌ وراء مدى الصواريخ الذى يقارب 1200 كيلومتر، وفى استهداف مناطق سُنّيةٍ ذات طبيعة سياسية وعرقيّة مُركَّبة ومُربِكة، والردّ الباكستانى شديد الحِدّة والسرعة. هكذا يقولون إنَّ يدَهم الطويلة لا تعجزُ عن الوصول لتل أبيب، ولو قضت المصلحة بقصف ذوى القُربى؛ فإن الأغرابَ أحقّ بالوَجل والترقُّب، كما أن مخزون البارود قد يتضاعفُ بتهييج بلدٍ أو أكثر فى الحزام الآسيوى العريض، وقد تُشبَك الساحة العربية فى غيرها من القوقاز إلى أوراسيا، وحال إضافة كل ذلك إلى الماراثون اللاهث من فلسطين للبنان واليمن، تكون الدائرة قد تضخَّمت إلى حدِّ المُغامرة الكونية المُزعجة؛ فإمَّا أن يتعقّل الخصومُ أو يتحضّروا لمُباراةٍ فوق كلّ التوقُّعات.
 
ما أكثرَ القضايا العالقة بين المحور الشيعى والصهيونية الأمريكية، ولم تكن فلسطين طرفًا فيها، ولا يجب أن تكون. ومع افتراض الرغبة لدى دولة الاحتلال وتيّار الميليشيا فى خَلط الأوراق، فتُوَحِّد الأُولى صراعاتها ويستحلبُ الثانى دعائيّة القضية، فليس من مصلحة واشنطن أن تنفتح الساحاتُ على بعضها، ولا أن يمتزج الحقوقى بالعقائدى، ويبدأ الفصلُ الواجب بينها من رَدع التوحُّش فى غزّة، ومن المُبادرة الجادة باستعادة المسار السياسى، وتثبيت دعائم الحُكم الرشيد فى العراق وعزله عن مفاوضات المحاور ومُشاكساتها، ولَعب دورٍ مُثمر فى ترسيم الحدود اللبنانية، واستعادة سوريا من فخّ الدول الفاشلة، وما تُجبرها عليه الظروف من تحالفاتٍ بصيغة الإذعان، وتسريع وتيرة انتشال اليمن من سيولة الجغرافيا وازدواجية السلطة. بعضُ الأهداف تبدو عسيرةً أو بعيدة، وكلها لا تتّصل ظاهرًا بالحالة الفلسطينية؛ لكن مسار الاستثمار فى الفوضى لن ينقطع إلَّا بعزل النطاقات عن بعضها، وتسييج فلسطين بالعدالة أوّلاً، أو برؤيةٍ تُفضِى إليها ولا تكون خارج المنطق والقانون.
 
ستتوقَّف الحربُ يومًا، ومن حَجم الدمار والقتل لم يعُد السؤال عن موعد الهدوء المأمول، بقدر ما هو عن الطريقة التى لا تجعله استراحةً بين حربين، كما جرت العادة. اليوم التالى لا يخصُّ أمور الأمن والإعمار ومُستقبل حُكم غزّة، حسبما تختزلُه أغلبُ المُقاربات؛ بل هو يوم العودة إلى الحالة الطبيعية، وتلك تتّسع لقائمةٍ طويلة من الحاجات: ترميم البيت الفلسطينى، وأن يكون القطاعُ حيًّا وصالحًا للحياة، ولديه ديناميكيّةٌ إدارية واقتصادية مُنتجةٌ وقادرةٌ على التطوُّر، مع اتّصالٍ عضوى بالضفَّة، أرضًا وبشرًا ومُؤسّسات، وأن يُستعَاد حلمُ الدولة من بين مخالب إسرائيل، وترتدع الأخيرةُ عن هواية الهروب من السياسة إلى السلاح. والأهمّ أن تكون القضية لأهلها، والقرار فيها وطنيًّا فلسطينيًّا حصرًا، لا إلى حواضن المال بما فيها من وصايةٍ واستلاب، ولا معاقل التسليح بما تُحدثه من خَرقٍ للنزاهة وتشويهٍ للرصيد الإنسانى. 
 
مخاطرُ الانفجار قائمة، ومخزونُها يتصاعد خطوةً بعد أخرى؛ لكنه لن يحدث غالبًا، لأنّ أطرافَه أجبنُ من الحسم، وأقلُّ أخلاقية من أن يتحمَّلوا ضريبة مواقفهم. مع الوقت سيكتشف المأخوذون بشعارات المُمانعين ودعايتهم أنهم اشتروا الوهم، وسيعرف الأمريكيون أنهم دعموا خصومَهم على جُثث الأبرياء، من حيث توهَّموا النجاح فى رَدع الخصوم وضَبط توازنات الإقليم، وستظلّ المسألةُ مُعلّقةً طالما يتّفق الأعداءُ جميعًا على أن تكون ميدانَهم للمُنازلات الرخيصة والرسائل غير المُكلِّفة.. كلُّ طرفٍ يضع السمَّ فى طعام الآخر، وكلُّهم يصبُّون فوائضَهم فى غزّة. يتلاقى الذئاب جميعًا على فريسةٍ واحدة، هى لن تملأ بطونَهم، وهم لن يأكلوا بعضَهم تحت أىِّ ظرف، لكنَّ الجوعَ جنرالٌ ماكر، يفتتحُ الحروبَ دائمًا بالإغراءات السهلة، وكثيرًا ما يحسمها بالأطعمة المسمومة.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة