فاصلٌ زمنى طويل بين رصاصات الجنود فى الإسماعيلية وصرخات المحتجين فى التحرير. اتّفقتا ظاهريًّا فى التقويم واختلفتا فيما عداه، وجوهريًّا كانت كثير من المشتركات. واليوم، تُجلّ الدولة ذكرى ثورة 25 يناير بموجب الدستور، وديباجته التى احتفت بها جنبًا لجنبٍ مع موجتها الثانية فى 30 يونيو؛ لكنها لم تتوقَّف، ويجب ألَّا تتوقَّف، عن الاحتفال بعيد الشرطة. ليس ثمّة نزاع بين الحدثين؛ إلا بقدر الشُّبهة وراء تحديد ميقات التظاهر، والخصومة التى سعى البعض لترسيخها فى البيئة الوطنية بعدما صارت هشّةً، وارتبكت مناعتها. الشباب الذين استُشهِدوا فى مُواجهة الاحتلال ما كانوا طرفًا فى السياسة بمعناها الأيديولوجى والسلطوى، والشباب الذين هتفوا فى الشوارع ما كانوا فى عداءٍ مع صفحة من تاريخ البلد ومُوجبات افتخاره. الإنجليزُ قديمًا سعوا لتركيع الدولة بكلِّ السبل، وفريقٌ بعد ستَّة عقودٍ أراد تركيعها من باب تخليق العداوات وسرقة الذاكرة. وبإمكاننا الآن، ونحن نقف على مسافةٍ موضوعية عاقلة من المشهدين، القول إن المستثمرين فى دماء 1952 هم المُتربّحون من دماء 2011، وقد خسروا بالطريقة نفسها فى القديم والجديد.
بأثر الزخم الذى أحدثته ثورة 1919؛ انتزعت مصر تصريح 28 فبراير بإلغاء الحماية البريطانية، ثمّ فازت بعد عامٍ بدستور 1923 وانطلاق حقبةٍ شِبه ليبرالية، سمحت بتشكيل حكوماتٍ وطنية فى استراحات قصيرة بين نزوات المُحتلّ وجنون القصر. وبانتقال العرش لفاروق بوفاة والده، ثم فوز الوفد فى الانتخابات، سعى «النحاس» للتفاوض على تحفُّظات الاستقلال الجزئى، واضطُرّت بريطانيا بعد مُماطلةٍ وتسويف لتوقيع مُعاهدة 1936، وبموجبها أجلت جنودَها عن أنحاء مصر مع بقاءٍ محدود فى القناة لدعاوى أمنية، وبالتزاماتٍ وتسهيلات لوجستية فى أوقات النزاعات، وإقرارٍ بالعودة للحوار بعد عشرين سنةً تمهيدًا للجلاء. لكنّ الأجواء التالية للحرب العالمية الثانية شجَّعت الحكومة على طلب المُراجعة، ودفعتها لتصعيد الملف إلى مجلس الأمن، وعندما أُوصِدَت أبوابُ التفاهم كان على مَن وقَّع الاتفاق أن يُنهيه. وفعلها زعيم الوفد فى أوائل أكتوبر 1951، وبعد أقلّ من خمسة عشر أسبوعًا وقع العدوان الغاشم.
كانت أيامًا من نارٍ وبارود. السياسةُ الثائرة فى العاصمة أشعلت ثورةً مُقاومةً فى إقليم القناة؛ فعاش المُحتلّ فترةً عصيبة من الفوران الشعبى الهادر بالحناجر والسلاح، وأُحرِقَت مخازنُه واستُهدِفَت آلياتُه وجنوده، وردّوا بهدم كفر أحمد عبده وإحراق كنيسة بالسويس، وتكثيف التحرُّش بالمواطنين وأجهزة الإدارة. وعندما استشعروا أن قوّات الشرطة «بلوكات النظام» ضالعةٌ فى موجة التحدّى والغضب؛ وجّهوا إنذارًا فى صبيحة الجمعة 25 يناير لإلقاء البنادق وإخلاء المدينة؛ فرفضه وزير الداخلية فؤاد سراج الدين، وأَمَّن رجالُه على الرفض، وتحصَّنوا بمبنى المحافظة بتجهيزاتٍ خفيفةٍ فى مواجهة آلة قتلٍ مُتوحِّشة، وحصارٍ خانقٍ من سبعة آلاف مقاتل عسكرى، وهُم عدَّة مئاتٍ تغلُب مدنيَّتُهم على خبراتهم القتالية. أسفرت المعركة غير المتكافئة عن استشهاد نحو خمسين وإصابة ثمانين، وقُتِلَ وجُرِح خمسةٌ وعشرون إنجليزيًّا. ومن جلال البطولةِ وقف العدوُّ نفسُه مُؤدّيًا التحيَّة للخارجين جُثثًا مُطهَّرةً أو أبدانًا نازفة. من وقتها صار اليومُ المهيبُ بُقعةً مضيئة فى الذاكرة الوطنية، ومحطَّةً على طريق النضال لأجل التحرُّر، واعتُمِد عطلةً رسميّة بقرار رئاسى منذ 2009.
عامان فقط استعاد فيهما المصريون الحكاية على نطاقٍ وطنىّ واسع؛ وفى الثالث امتدَّت يدٌ غامضةٌ لتخُطّ سرديّةً بديلة. فى التاريخ البعيد حدَّد المُحتلُّ الموعدَ وصيغة العدوان، واستجاب الجنود مُضطرِّين لأنه لا سبيلَ للهَرب من الاستحقاق. أمَّا فى القريب فكان الاختيارُ مُرتّبًا ومقصودًا. بدأ الأمر من احتجاجات تونس فى 17 ديسمبر 2010، وإطاحة رئيسها زين العابدين بن على وفراره فى 14 يناير. لو كانت الخصومةُ مع نظام مبارك حصرًا؛ فإنه ظل فى السُّلطة ثلاثين عامًا، وما كان طولُ البال يضيق على موعدٍ آخر، ولو أنَّ العاطفة وحدَها حرَّكت رغبةَ الاعتراض؛ فإنَّ فى الأيام فوارغَ كثيرةً غير الذكرى الوطنية. إنَّ كثيرين جدًّا ممَّن تدفّقوا على الشوارع كانوا عفويِّين وحَسنى النيَّة، وبينهم مُغرضون قطعًا؛ لكنّ الذى حدَّد التوقيت لم يكن بريئًا إطلاقًا. أوَّلاً لأنه اختصم النظامَ فى ساعةٍ مجيدةٍ تخصُّ البلد لا حاكمه، وثانيًا لاختزال المسألةِ من طلبٍ للإصلاح أو التغيير؛ لتصير صِدامًا مع مرافق الدولة الباقية قبل الشخوص وبعدهم، وأخيرًا لأنه أراد أن يسلخَ اليوم عن الذاكرة الجمعيّة، ليُكسِبَه تأريخًا بديلاً بنكهةٍ شِقاقيّة؛ إذ يصيرُ مملوكًا للثائرين فى مُقابلة المُؤسَّسات ورجالها وحزب الأغلبيّة وقواعده، وقبلهم جميعًا مَن يرفضون الثورات وينحازون لنهجٍ إصلاحىّ مُتدرِّج؛ والمُؤكَّد أنّ غالبيةَ المُحتجّين ما أرادوا تلك العداوةَ المجّانية، ولا فطنوا لآثارها الخادشة لمُدوَّنة النضال، والماسّة بتماسُك المجتمع ومناعته الذاتية، النابعةُ أساسًا من الاختلاف للوطن، لا عليه، ولا لتكبيده فواتير المُشاحنة بين مُكوِّناته وقُواه السياسية.
نُسخةُ 25 يناير الأولى أشعلها الإنجليز، ثمّ نفخ فى نارها آخرون. يومها التالى احترقت فيه القاهرة، وامتدَّ اللهبُ لمئات المنشآت العامّة والخاصة، وما زال المُتّهم مجهولاً؛ وإنْ كانت بريطانيا من المُستفيدين أو حامت الشبهةُ حول كثيرين منهم الإخوان. سلوكُ الجماعة يقبلُها ويُقدِم عليها، وقد طالت فنادقَ ودُورَ سينما ومتاجر يملكُها أجانب، وكان حسن البنا قد أشرف بنفسه على جرائم شبيهةٍ منذ أواخر الثلاثينيات. أمَّا الغرضُ فكان إرباكَ الدولة؛ والأثرُ بين ثلاثة: إظهارها عاجزةً عن ضمان الأمن لإفساح طريق الاحتلال مُجدَّدًا، وإسقاط الحكومة الوفدية وقد حدث بعد ساعاتٍ، وإرباك النظام طمعًا فى القفز عليه، ولاحت بشائرُه بعد ستّة أشهر. كانت جريمة 25 يناير شرارةً فجَّرت بُركان الرفض، فعمَّت التظاهراتُ وتعالى الهتافُ ضدّ الملك؛ لكن الذين احتجّوا وهتفوا غير الذين أحرقوا، وعندما تحدَّث الرئيس عبد الناصر عن اليوم فى خطابٍ بالعام 1960، وقال إنه كان بادرةً للثورة الاجتماعية على أوضاع فاسدة، كان قارئًا للدلالة لا مُبرِّرًا للحدث. والخُلاصةُ أنّ مصر خسرت أرواحًا وأُصولاً وثروات، وكانت الخسارة بابَها لاستعادة نفسها مع حركة يوليو، والتفاف الشعب حولها، ومُحاولة الإخوانِ الالتفافَ عليها، من التلويح بالقوَّة أمام قصر عابدين حتى اللجوء إليها فعليًّا فى حادث المنصَّة.
أمَّا النسخة الثانية بعد تسعٍ وخمسين سنة؛ فقد دُعِى لها من مجهول، واستجاب الشباب فرادى، وفى غضون أيّامٍ تشكَّلت هياكلُ وتنظيمات ومجموعاتُ دعمٍ وتنسيق؛ كأنها طُبِخَت سَلفًا فى مطابخ احترافيّة. ترقّت المطالبُ من الإصلاح للتغيير، ومن ترشيد مُمارسات النظام إلى الدعوة لإسقاطه. الإخوان كانوا بعيدين فى المبتدأ، ثم التحقوا بدائرة النار بعدما اكتملت ملامحها. حضورُهم الطاغى فى ائتلاف شباب الثورة، وهيمنتُهم على منصّات الميدان، ثمّ إحكام قبضتهم على خطوط الإمداد من إعاشة وأدوية ولجان تأمين، وما سبق ذلك ورافقه من اقتحام السجون وإحراق أقسام الشرطة، ونَهبٍ لمقرَّات «أمن الدولة» وأوراقه، وتدشين قائمةٍ من الأحزاب الرديفة أو المُوالية، كانت كُلُّها تُشير لعملٍ مُنظَّم، التقت معهم فيه بعض القوى المدنية أو خُدِعَت؛ لكنّ التطوُّرات سمحت بأن تفرضَ الجماعةُ لونَها على لجنة تعديل الدستور، وعلى استفتاء 19 مارس، ثم تُشعل أحداث محمد محمود وتستغلُّها فى اختطاف البرلمان، ومن بعدها ابتلاع الرئاسة، واستدعاء المدنيِّين ظهيرًا لمرشحها على طريقة المُمثِّلين الثانويين «الكومبارس» فى مُؤتمر فيرمونت.. المحتلُّ الأبيض صنع صدام 25 يناير سابقًا، واجتهدت الأُصوليّة لتحصيل مكاسبه، والرومانسيةُ الثوريّة أعادت إنتاج نسخةٍ وطنيّة منه، ولم تتخلّ الأُصوليّةُ أيضًا عن انتهازيّتها الوقحة. النوايا وحدها لا تكفى لتبرير الأفعال؛ إذ العبرةُ بالنتائج والمآلات. وإذا كانت المناسبةُ الأولى أعادت الولايةَ للشعب وأكملت مهمَّة الاستقلال؛ فإن الثانية رهنته لفصيلٍ مُتطرِّف ووضعت البلدَ كاملاً فى عين العاصفة.
لستُ فى خصومةٍ مع الثورة؛ فأنا أحد المشاركين فيها ولا أندم على ذلك أو أتبرّأ منه؛ إنَّما إجلالُها الحقُّ يُوجِب إخضاعَها للنقد والتشريح. لقد كان من مزاياها أن كشفت الرجعيَّة الدينية، وقلَّصت جاذبية الشعارات الشعبوية فى العمل العام، وفضحت خِفَّة النُّخب الكرتونية وعجزَها عن قراءة اللحظة بشروطها، ناهيك عن إحسان التعاطى معها. لكنَّها تركت أثرًا سلبيًّا على المجال العام؛ لأنَّ ما أبداه السياسيّون من هشاشةٍ عملية، وما وُصِموا به من تَشوُّهٍ وانحراف، ثمَّ انسياق بعضهم وراء الإخوان، ضعفًا أو طمعًا، أسقطت جميعًا مصداقيّةَ الأحزاب وقادتها، وعزلتها عن الشارع الذى وجد نفسه مُضطرًّا للاضطلاع بعبء الإنقاذ؛ فتصدَّى بالأصالة للعصابة الإخوانية، بينما كانت طليعتُه فى مُؤخّرة الصفوف أو تحت سقف القول الزاعق والفِعل المُهادِن. وفوق ذلك، فقد أربكت الدولة، وبدلاً من تبديد ميراث مُشكلاتها؛ زادته كَمًّا ونوعًا، وتفرَّع عن مُداواة آثارها صراعٌ طويل مع الإرهاب، ومُعاناة من انحياز المواقف الدولية، وفاقدٌ مُوجع من الموارد والأصول، كما تفاقمت أزمات السوق واختلالاتها الهيكلية، وفُرِضَ على البلد أن يسلُك مسارًا جراحيًّا بمتاعب أكبر وعافيّة أقل، وأن يُعيدَ بناء ساحته السياسية من نقطة الصفر تقريبًا؛ وقد توزَّعت أركانُها بين ساقطٍ مع الإخوان، أو واقفٍ على أطلالهم، أو عاجزٍ عن استيعاب السياق الجديد، ومُواكبة إيقاع ما بعد «هدم المُؤامرة ورَفع أنقاضها».
يُخطِئ مَن يظنُّ أن تصويبَ مسار التاريخ يبدأ بالقطيعة معه. كانت ثورةُ يوليو نتاجَ مُثيراتٍ عِدَّة، منها بطولة جنود يناير 1952. وكان يجب أن تكون ثورة 2011 بناءً على الراسخ فى الهُويَّة والذاكرة. ما حدث أنَّ الأُصوليِّين وبعض المُراهقين وتابعيهم أرادوها قطيعةً مع دولة يوليو، مُتجاهلين أن فى ذلك انقطاعًا عن تأسيس الجمهورية ونضالات التحرُّر والاستقلال، وعن التراكُم الذى يحفظ للدول كيانها، ويجعلُ صراعَ السياسة مُنتِجًا وقابلاً للتطوُّر. وعلى هذا المعنى؛ فالذين أحرقوا القاهرة كانوا يُهينون دماء الشهداء أكثر ممَّا يثأرون لهم، والذين سعوا لإحراقها مُجدَّدًا، أو ظلّوا مُحايدين بينما يرفع الإرهابيّون المشاعل والقنابل؛ كانوا يذبحون تجاربَهم الشخصية بأيديهم. وما تأكَّد قديمًا أنَّ الرجعيّة ولغت فى الدناوة، وأهلَ السياسة ضربتهم الرخاوة، والمُؤسَّسات وحدها كانت جاهزةً فى لحظة الحسم؛ فصَدَّت الصقور وعالجت القصور، وهو ما كرّرته سيولة 2011 وتكفَّلت به صلابة 2013. والفارق بينهما بقدر الفارق بين ترسيم الصراع فى مداره السليم، واختراع تناقضاتٍ عصريَّة المظهر وبدائيّة الجوهر. لا الاحتلال يماثُل نظامَ مبارك، ولا بنادق الجنود تُشبه أذكار البنّا وتنظيرات سيد قطب، وإذا كان أبطالُ يناير القُدامى منعوا الإنجليز من مُرادهم، ومهَّدوا للاستقلال، فإن أبطال 25 يناير الجديدة لم يمنعوا الإخوان من سرقة تُفّاحة المدنيَّة وسَحقها تحت الشباشب.
التعارُض الذى أراده السطحيّون والمُغرضون بين عيد الشرطة وتظاهُرات يناير؛ تجاوزته الدولةُ منذ اللحظة الأولى لتصفية شوائب التجربة. الدستور المُستفتَى عليه بعد شهورٍ قليلة حفظَ للثورة رمزيَّتها المُنزَّهة عن عَوَار مُستغلِّيها، والمُمارسة العمليّة أعادت الاعتبارَ للذاكرة وسيرة أبطال الإسماعيلية، ولسنا فى وارد مُنازعةٍ واهيةٍ ولا أساس لها. لا إحياءَ العيد يشطُب الثورةَ من التاريخ؛ وقد تأسَّست عليها حلقةُ يونيو ودولتُها، ولا استبقاءَ المعنى الوطنى من 2011 يمسُّ قيمة الجهاز الأمنىّ؛ وقد بناها عبر مسارٍ طويل من الجهد والتضحيات. الرئيسُ حريص فى كلِّ سنة أن يحتفل بالمُناسبتين، والمُؤسَّسات تحرَّرت من أثر الاستقطاب الذى خلقته الخطابات الزاعقة قبل عقدٍ من الآن، والعَوام فى الشارع لا يرون تناقُضًا بين الحدثين، أو غضاضةً فى أن نحفظَ لكلٍّ منهما قدرَه ومعناه.. الأخطاءُ واردةٌ دائمًا، والهتافات الجارحة فى أوقات السخونة تُداويها ساعاتُ التعقُّل والمُقاربات الناضجة. ولولا رأى الناس ما يُغضبهم من الحزب الوطنى ما اعترضوا، ولولا رأوا ما يُسيئهم من الإخوان ما أطاحوهم خارج السلطة والبلد. والذين يجتهدون لتجاوز الأخطاء أفضلُ ممَّن يسعون لاستثمارها، وكانت 25 يناير 1952 تصحيحًا لخطأ مُعاهدة 1936 ثمّ خطأ إلغائها دون رُؤيةٍ واضحة، وما أفسدها أنَّ يدًا سوداء عملت على تلويثها بحريق القاهرة، مثلما كانت 25 يناير 2011 رفضًا لسوء الإدارة وطَلبًا لتحسين الأوضاع، ولا يُضيرها أنَّ بعض الانتهازيين تلاعبوا بها، فى الائتلافات والتليفزيونات والرحلات والمنافع الشخصية، أو ركبها الإخوان وأخرجوا ألسنتهم؛ قبل أن يقطعها المصريّون فى كلِّ الميادين بطول مصر وعرضها.
كان جنودُ الإسماعيلية أبطالاً عِظامًا، ومن ورائهم شعبٌ كامل غضبَ لهم وحفظ قُدسيّة دمائهم؛ اللهم إلَّا تيَّارات ترى الوطن تُرابًا عَفِنًا ورجالَه خصومًا يحجبونها عن أطماعها. وكان شبابُ التحرير موجةً حالمةً تكسَّرت على صخور التجّار والانتهازيين، قبل أن تكسرها غشومةُ الجماعة الإرهابية فى سنةِ حُكمها السوداء. الأوائلُ كانوا يدافعون عن الوطن مُجرَّدًا، والأواخرُ دافعوا عن مواقعهم فيه. وبين التاريخ القديم والجديد قواسمُ لا خلافَ فيها؛ وإن تبدَّلت ملامحها: الاحتلال صِنو الرجعيّة، ومُغتصب الأرض ليس أسوأ من مُختطف الهوية وسارق الذاكرة، ورصاصات الشاطر وبديع و»حسم ولواء الثورة» ما كانت أحنَّ ولا أرفق بالمُجنّدين والمدنيِّين من رصاص الإنجليز. أُحرِقَت القاهرةُ قديمًا لأنّ فريقًا غامضًا اصطفّ مع العدوّ، ونجت حديثًا لأنّ العدوَّ استعجل الحصادَ؛ فخلع القناع وكشف عن وجهه. لو كانت القوى السياسية أكثر نزاهةً فى الماضى ربّما ما اضطررنا لفاتورة الدم، ولو كانت أصلبَ وأنضج فى الحاضر ما ذبحتْ ثورتَها تحت حذاء التنظيم. اليوم؛ نحتفل بعيد الشرطة ردًّا على من أراد شطبَه قهرًا، ونتذكّر الثورة نكايةً فيمن أرادوها سِنّارةً تصطادُ لهم السلطة والهيمنة. 25 يناير يومٌ مصرىّ خالص بكل ما فيه من مباهج وأحزان، ومن بطولاتٍ وسقطات، والذين يفرزون ساعاته إنما يختصمون ذاكرة البلد أو يُعادون ما صار إليه بعدما صحَّح مساره، وفى ذلك يتلاقى المُخطئون المُستكبرون عن الاعتراف والاعتذار، مع فلول «عصابة البنّا»، وأرامل الائتلافات، ومن لم يُغادروا خيامَ التحرير بعد. والتاريخُ بطبعه يهضمُ ويتجاوز، ويتركُ أيَّام الأوطان والشعوب صافيةً من الشوائب، وحجّةً دامغةً على الفشلة والمُشوَّهين.