قرار محكمة العدل الدولية بحق إسرائيل، يبدو استثنائيا، في ضوء كونه إدانة صريحة للاحتلال، في ظل ما ارتكبه خلال العدوان الوحشى على قطاع غزة، حيث يمثل اعترافا من قبل القضاء الدولي بأنه يصل إلى حد ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وهو ما يمثل ضغطا ليس فقط على حكومة بنيامين نتنياهو، والتي أصبحت لا تجد سبيلا سوى مواصلة معركتها، في ظل فشلها الذريع سواء على المستوى الميداني أو السياسي أو الدبلوماسي، وإنما أيضا ورقة ضغط قوية على حلفائها، سواء في الولايات المتحدة أو الغرب الأوروبي، خاصة بعدما قررت بعض الأطراف، وعلى رأسها ألمانيا التداخل لدعم الدولة العبرية، في مواجهة جنوب أفريقيا باعتبارها الدولة صاحبة الدعوى.
إلا أن استثنائية قرار المحكمة يحمل بعدا دوليا آخر، لا يقل أهمية، يتجسد في إحالة القرار إلى مجلس الأمن الدولي، لإجبار إسرائيل على تنفيذ القرار، وهو ما يضع الولايات المتحدة، باعتبارها صاحبة "الفيتو"، والراعي الرسمي للاحتلال، في مأزق حقيقي، في ظل مواقفها المعروفة بانحيازها المطلق، وهو ما بدا في العديد من المواقف، أبرزها تقويض قرارات سابقة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو ما يعكس صعوبة الموقف، خاصة وأن قرار المحكمة، وإن لم يشمل نصا صريحا حول وقف إطلاق النار، تبقى قراراتها حول التوقف عن ممارسة أو التحريض على ارتكاب جريمة إبادة جماعية بالإضافة إلى تمرير المساعدات، بمثابة قرارات لا يمكن تنفيذها عمليا دون وقف العدوان.
وهنا تبدو استثنائية القرار على مسارين رئيسيين، وكلاهما يرتبط بـ"الفيتو" الأمريكي، ففي حال تصويت أمريكا في صالح القرار، فهذا يعني أنها المرة الأولى لواشنطن التي تصوت فيها أمام مجلس الأمن في قرار لا يصب إطلاقا في صالح الدولة العبرية، وهو ما يمثل، ليس فقط صفعة قوية لإسرائيل، وإنما أيضا بمثابة خطوة لتحرر قطاع كبير من الدول الحليفة للولايات المتحدة، من التزامها تجاه تل أبيب، وهو ما يعني اقتراب سقوط الغطاء الذي طالما منحته واشنطن لحليفتها الصغرى في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي بدت إرهاصاته مع العديد من المواقف الدولية، التي شهدت تغييرات جذرية منذ بداية العدوان، وفي مختلف مراحله، وحتى دخول دولة جنوب أفريقيا على خط الأزمة، عبر تقديم الدعوى في خطوة تاريخية، في ضوء كونها تمثل خروجا عن الدائرة التقليدية الداعمة للحق الفلسطيني، ناهيك عما تمثله من انطلاقة مهمة نحو تداخل أقاليم بعيدة نسبيا في قلب الصراع، والخروج عن البوصلة الدولية التي اتسمت بانحيازها لعقود لصالح طرف دون الأخر، وهو ما تناولته في مقالات سابقة.
بينما، على المسار الثاني، إذا صوتت بالاعتراض على القرار، فهذا يمثل نقطة مفصلية جديدة في تاريخ الأمم المتحدة، في ظل ما يمكننا تسميته بـ"التآكل الأممي"، وهو ما يعني أن أجهزة المنظمة الدولية الأكبر في العالم باتت تتآكل في ظل تضارب القرارات الصادرة عنها، وتعارضها، وهو ما يعني أنها تخلت عما ينبغي أن تحظى به من تكامل لتحقيق الهدف الرئيسي الذي أنشئت من أجله، وهو الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وهو ما يعني الانطلاق بخطوة واسعة نحو النهاية، في ظل حالة مخاض يشهدها العالم، سوف تنم لا محالة عن نظام دولي جديد، بات في حاجة إلى قواعد جديدة، بعيدا عن الأحادية التي هيمنت عليه منذ عقود طويلة من الزمن.
وفي الواقع، تبدو أهمية القرار الذي سوف يتخذه مجلس الأمن الدولي، فيما يتعلق بحكم محكمة العدل الدولية، ليس فقط في إنصاف ملايين المحاصرين في قطاع غزة، جراء القصف والجوع، وإنما أيضا في إنقاذ الهيئة الدولية، من حالة من الترهل، ربما بدت في العديد من المشاهد السابقة، كانت الولايات المتحدة هي البطل الرئيسي فيها، ربما أبرزها عندما خالفت الشرعية الدولية باحتلال العراق قبل 20 عاما، رغم رفض مجلس الأمن الدولي، واستبدالها بـ"شرعية التحالف"، عبر تشكيل تحالف رمزي، مع كل من فرنسا وبريطانيا، بالإضافة إلى تسييس القرارات الدولية في العديد من الأزمات التي شهدها العالم، مما ساهم في عجز المنظومة عن التعاطي مع الكثير من الملفات الهامة.
وهنا يمكننا القول بأن الخطوة القادمة التي سوف يتخذها مجلس الأمن الدولي، تمثل محطة حاسمة، سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، في ظل تداعياتها الكبيرة، ليس فقط على مستقبل العدوان الحالي على قطاع غزة، وإنما أيضا على مستقبل القضية برمتها، بينما في الوقت نفسه ستكتب بحروف واضحة مستقبل المنظومة الأممية، ومدى قدرتها على التعافي مجددا في مواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها، عبر تحقيق التكامل بين أجهزتها، بعيدا عن التسييس والانحيازات المعروفة، خاصة فيما يتعلق بقضية ربما تعد أحد أقدم القضايا في المجتمع الدولي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة