كل ما تريده إسرائيل فى غزّة أن تُقايض الدم بالكلام، ما كان يعنيها استهجانُ العالم وفى ظهرها غولُه الأكبر، الولايات المُتحدة، وقد لا تشغلها اليوم مُشاكسات القانون وما زال الغولُ على عهدِه معها، حقيقةُ أنها دولةٌ مارقة، ونسخةٌ عصريّة للنازيّة، لا تُبشِّران بأن تُثمر مُداخلةُ المحكمة الأُمميَّة الأعلى ما يُمكن حصاده؛ لكنّ غواية الأمل تقضى بأنّ كلَّ خطوةٍ للأمام؛ انعتاقٌ من أحد قُيود الماضى، مهما ضاقت أو تعثَّرت. على وجه العاطفة، يحقُّ الابتهاج بإدانة الصهيونية بأىّ صوتٍ زاعق أو خافت، وعلى وُجوه التعقُّل كلّها يتعيَّن أن يُرشِّد الفرحون طقوسَ فرحتهم. فى الحياة الواسعة لا تعرفُ الدراما منطقَ النهايات السعيدة حصرًا، وقد قال قُضاةُ القانون والأرواب السوداء كلمتَهم ومَضوا؛ بينما قضاةُ البارود والسترات العسكرية فى الميدان، والقذائف أعلى صوتًا من بكاء الأطفال، والعدالةُ أقصر قامةً من أكوام الخراب.
أقلُّ من شهرٍ منذ حرّكت جنوب أفريقيا دعواها، عقدت الهيئةُ القضائية جلستى استماع، وفى الثالثة أقرَّت حزمةَ تدابير لا تُنكَر أهميّتُها، كما لا يُعوَّل عليها فى مناخٍ مُختلّ، فى الشكل؛ أدانت محكمة العدل جرائمَ تل أبيب، وحملت من أوحال القطاع ما لطَّخت به سِحنةَ العصابة التى صارت بلدًا، ويكفى لأن يُلازم أزمانها المُقبلة، ولا أكثر، القتلى على حالهم فى طوابير الموت، والمخابيلُ فى السلطة وبطون الدبابات، وتجَّار الشعارات يتوضؤون بخُطَبٍ عصماء عن الأقصى، ويُصلّون على شَقفةٍ حُسينيّة وإلى مَرقدٍ أو عتبةٍ مُقدّسة، لا حاجةَ لدليلٍ جديد والأشلاءُ فى حِجْر نتنياهو، والدماءُ تسيح من بين فَكَّيه، ولا أثرَ فى الغيب وفكرةُ الدولة مرفوضةٌ من بعض بَنيها كما يرفضها العدوّ. القضاةُ يُقيمون الحجَّة الأخلاقية؛ لكنَّ العطايا المعنوية لا تردع وَحشًا جارحًا ولا تسترُ جُثّة عارية.
قديمًا، أخذت الأُمم المُتّحدة من الفلسطينيين أرضهم، وأعطتهم ورقةً، ظلَّت تتناسلُ إلى أن صارت بُرجًا يزحم السماء، كلّها قرارات ووعودٌ بليغة لا تُساوى حِبرَها، والخوفُ اليوم أن ترقصَ القضيّةُ فى لاهاى، وتُذبَح فى فلسطين، لقد أسَّست المحكمةُ لمُنازعةٍ عادلة يُرافقها الترجيح، وقالت بصريحِ العبارة إنّ ما يحدثُ قد يرقى لإبادةٍ جماعية، وإنّ لها ولايةً قضائية تتأتّى من سلامة الدَّفع الجنوب أفريقى بموجب ميثاقها؛ فرفضت ردَّ الدعوى، وأوجبت على الدولة العبرية 6 تدابير، منها أن تتوقَّف عن الأعمال المُشكِّلة لأركان الجريمة، وعن التحريض ودعايات مسؤوليها السياسيّين والعسكريين، وتعود عن حصارها سماحًا بإنفاذ المساعدات، ثمّ تُقدّم تقريرًا بعد شهرٍ بما أنجزته تحت قائمة الفروض المطلوبة. ثمَّة انتصارٌ أدبىّ فيما تضمَّنه المنطوق، والصراعُ فى حاجةٍ لكل إسنادٍ ناعم أو خشن، وثمّة ثُقوبٌ مادّية قد تجعله مُجرَّد ورقةٍ بين التلال القديمة والجديدة، والواقع يتجاوز رفاهيةَ الرياضة المبدئيّة ومُناورات إبراء الذمَّة.
رحَّبت خارجيةُ فلسطين ومعها دولٌ أُخرى بالإحماء القانونى، قبل مُباراةٍ طويلة مُنتظَرة، وزادت مصر، وبريتوريا صاحبةُ الادِّعاء، بأنهما كانتا تأملان قرارًا مشمولاً بوقف النار، نظريًّا قد يبدو أنه ليس فى اختصاص المحكمة أبدع ممَّا كان، وأنّ قُضاتها ساروا على خيطٍ يُوشِك أن ينقطع أو يُسقطَهم فى برزخ العجز الكامل، وعمليًّا فقد وضعت إنفاذ مُقرَّراتها فى عُهدة إسرائيل وحدها؛ فصارت خصمًا وقاضيًا: بمُهلة الشهر مع القتل، ومَوعدة اللقاء على تقريرٍ من إعدادها، سيكونُ محلَّ فَحصٍ وجدل يزجّ بالقضية لتفريعاتٍ لا معنى لها سوى استهلاك الوقت، ومع التسليم بأنّ المنصَّة العدليّة جهةُ فصلٍ لا تنفيذ؛ كان عليها أن تستوفى مهمَّتها على الوجه الأمثل، وتُشرِكَ معها بقيَّةَ المرافق الأُمميَّة فى التطبيق والرقابة والمُتابعة؛ حتى مع تَوقُّع أن تتصدَّى واشنطن بحق النقض فى مجلس الأمن. الخطوةُ التى قطعتها «رمزيّةٌ بلاغيّة» بالأساس، واحتمالات بلطجة تل أبيب تعلو على آمال التزامها بالقانون؛ لذا كان الأفضل أن يزيح القُضاةُ عبءَ الكُلفة الإنسانية عن كواهلهم؛ لتصير الأُمم المتحدة وأذرُعها أمام واجبها الإنقاذى أو عارها الأخلاقى، من دون التفافٍ أو مُواربة.
قُوامُ المحكمة خمسة عشر قاضيًا، أُضيفَ لهم اثنان: ديكجانج موسينيكى لجنوب أفريقيا، وأهارون باراك لإسرائيل، بعضُ القرارات خرجت بموافقة 15، وكثيرها بـ16 صوتًا تُقارب الإجماع، قاضيان خالفا بلديهما: الألمانى اصطفّ مع الضحايا، والأوغنديةُ دعمت السفّاح بأكثر ممَّا دعمَ نفسَه، فرفضت قرارين قَبِلَهما العضو الصهيونى، خريطةُ التصويت تُشير لتوافقٍ عالٍ، كان يتعيَّن توظيفه لناحية إنهاء المحنة الدائرة فى غزَّة بإجراءٍ مُعجَّل؛ لكنَّ راكبى المنصّة انحازوا لخيار المُواءمة، ولأن يُسجِّلوا مَوقفًا قيميًّا نزيهًا دون أثرٍ ملموس، يُفهَم من ذلك احتمالُ تعرُّضهم لضغوط، أو سعيُهم الذاتى للمَسح على رؤوس الفرائس دون استثارة وحوش البيت الأبيض وكابينت الحرب. وبطبيعةِ الحال لم يقصدوا بالشهر السابق للتقرير أن يمنحوا الاحتلالَ فُسحةً للقتل؛ لكن هذا ما سيحدث؛ وبدلاً من النزاع لاحقًا فى حقائق الأرض، ستكون الخصومة فى محتوى الرواية الإسرائيلية، وما تعذَّر القضاء به اليوم والنزيف على آخره؛ لا يُمكن أن نتوقَّعه غدًا وقد أُتيح لجيش العدوان أن يُهندِسَ خططَه، ويختار من قائمة القتل ما يسمحُ بالمراوغة والخداع.
الإيجابيةُ الوحيدة أن مُخرجات الجلسة أسقطت السرديَّة الصهيونية. ما عاد حديثُ الإرهاب والدفاع عن النفس صالحًا للمَضغ والثرثرة فى محافل الدنيا، لا سيَّما أن القرار لم يتوقَّف أمام «طوفان الأقصى»، ولا أدان «حماس» إلَّا بقدر العبور الهادئ على مسألة تحرير المخطوفين. يتشابهُ ذلك مع حديث أنطونيو جوتيريش عن أن الانسداد لم يبدأ فى 7 أكتوبر؛ بل هو نتاجُ ظُلمٍ تاريخىّ صنعه الاحتلال ويُواظب عليه لعقود. من هنا تبرزُ السرديّة الفلسطينية العادلة، ويُعاد الصراعُ إلى نطاقه الأصيل؛ لناحية أنه قضيّة تحرُّرٍ وحقوق ضائعة، وعُقدتُه الخروج على القانون الضامن للأرض والداعم للمُقاومة المشروعة، وإدارةُ الخصومة أُمميًّا تحت هذا السقف، تُذكِّر العالم بأنه أنشأ المحنة ورعاها طوال الوقت، وأن الحلَّ فى المُتناول لو أراده، لا فى بطش السارق ولا صرخات المسروق؛ إنما فى تفعيل المُقرّرات المُخزَّنة على الرفوف، بجانب ميثاق الأُمم المُتّحدة، المُنحرف وشِبه المُعطَّل.
بعضُ الرومانسيين هلَّلوا للقرار بوصفه انتصارًا تاريخيًّا؛ كأنه أوقفَ المقتلةَ أو رفع العلم على جُغرافيا الدولة المُبتغاة، أو خلَّص فلسطين ممَّن يسرقون وهج قضيَّتها. فلنعُدّ الآثار: أخفقت إسرائيل فى إسقاط الدعوى، وتُواجه تُهمةً مُرجَّحةً بالإبادة، وطُلِب منها أن تردع المُحرِّضين وألَّا تطمس الأدلّة، وأن تعود بمُذكّرةٍ وافيةٍ عمّا أنجزته، إنها فضيحةٌ عالميّة فعلاً؛ لكن الصهيونية فى رصيدها كثيرٌ من الفضائح وأمارات الانحطاط، ومن المُبكِّر الجَزم بأنها لم تعد فوق القانون؛ إذ يتحدَّد ذلك بالإخضاع المادى لا المعنوى. جمهرةٌ من المُدانين فى كل الدنيا تعجزُ القوانين عن مُحاسبتهم، ولا يُجدى الوَصم فى كبح انفلاتهم ومُداواة ضحاياهم، والذين يُساندون الاحتلال واثقون من إجرامه؛ لكنهم يتعلّلون حينًا بميليشيات المنطقة، وأحيانًا بانقسام الفلسطينيين، ويُجاهرون كثيرًا بانحيازاتهم الوقحة دون تبرير. وقد يُؤثّر قرارُ «العدل» على رُعاة تل أبيب، أو يدفعهم لرعاياتٍ بديلة لا تنطبع بصماتُهم عليها؛ لكنَّ الردع المأمولَ لن توفّره المحاكمُ على الأرجح؛ خصوصًا لو تحركت تحت السقف، ولعبت بأدنى حدٍّ من طاقتها المُتاحة.
هواء «لاهاى» الذى حمل ذبذبات صوت القاضية جوان دونوجو تاليةً للقرار، هو ما طيّر حُكمًا لمحكمةٍ هولندية يرفض دعوى ضد صادرات السلاح لإسرائيل، بزعم أنها من أُمور السياسة التى لا ولاية عليها للقضاء. يحدثُ أمرٌ شبيه فى أروقة الكونجرس ولم تتوقَّف شحنات الموت، وأمام المحكمة العليا فى لندن وقد تُرَدّ الدعوى أو تُجمَّد، أو يبحث المحافظون عن مسارٍ للتحايل عليها، الغربُ الذى يزهو بمعماره القضائى، تصيرُ محاكمُه رديفًا لنزوات السياسيِّين كلّما أرادوا أو قضت المصلحة؛ ومن غير المُرجَّح أن يتخطَّى قُضاتَه لينصاع لقُضاةِ الأُمم المُتّحدة. لقد تأسَّس النظام الدولى القائمُ لتظهير توازنات القُوى الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، أى ليكون أداةَ ترويضٍ وإخضاع؛ لا ميزانَ عدلٍ ومُساواة، وإسرائيلُ نفسها تِرسٌ فى ماكينة الهيمنة، وهى البندُ غير المكتوب فى أوراق انتصار الحُلفاء على المحور، لنا أن نفرح بالترضيات التى تسمح بها حدود اللعبة، وهذا ما يُرَاد بالضبط؛ لكنَّ المُباراة تُحسَم غالبًا بطرائق مُغايرة.
استبق «نتنياهو» الجلسةَ مُتحدّيًا المحكمةَ ومُستخِفًّا بها؛ وجدَّد رسالته بعدها. وقد وجَّه مكتبُه أعضاءَ الحكومة بألّا يُعلِّقوا؛ تجنُّبًا لجُنونٍ يُوظَّف فى القضية لاحقًا؛ لكنَّ الليكودى جالانت والتلموديَّين بن جفير وسموتريتش لم يتأخّروا؛ فحافظوا على مزيجهم المُصطنَع من بُكائيات اليهود ومُمارسات النازيِّين. وقطاعٌ عريض من رأيهم العام تلقَّى القرار بالترحاب؛ لأنه ما أدان الحرب ولا ألزمَ بوقفها، أمَّا مسائلُ الفضيحة والبُقَع الأخلاقيّة فإنهم يعتادونها، ولا يرون إسرائيل بلدًا إلَّا لو خبز فطيرتَه بالدم وبنى هيكلَه من الجماجم.. الأمينُ الأُمَمى ّأحال مُخرجات لاهاى لمجلس الأمن، والمُؤكَّد أن دُولاً أُخرى ستطلبُ جلسةً فى القريب، والمحكمةُ ساميةٌ والقرارات مُلزِمة، ومُخالفةُ الاحتلال مضمونةٌ منذ الآن ولا نحتاج شهرًا لنستوثِق منها. طَرفٌ واحد يُشرف على المهزلة العالمية، ولن تُحرِجَه الإدانةُ الضمنيّة اليوم، ولا إنْ صارت صريحةً بعد عقود، وسيُفسِد تطويقَ حليفته بالقوّة أو القانون أو بهما معًا، هل المطلوبُ أن نتوقَّف؟ لا عاقلَ قد يقول بذلك؛ لكنّ لا أحدَ ينفخُ بالونةَ الوَهم إلَّا الذين يُشاركون فى مسرحية «هاتوا القضية وخُذوا ورقة».
منطقُ المصلحة الذى يُلوّث هواء فلسطين بعَوادم العالم الأوَّل؛ يُكسِب مُنازعةَ جنوب أفريقيا رمزيةً طُهرانيّةً مُضاعَفة، لقد كانت أوَّل بلدٍ أفريقى يعترفُ بإسرائيل، والتاسع عالميًّا، وتقدَّمت باعتراف «الأمر الواقع أو القانون» على كثيرٍ من أوروبا، وسبقت تركيا وإيران بشهور، جمعتهما علاقاتٌ وثيقة حتى سقوط الفصل العنصرى فى التسعينيات، بدأ تبادلهما الدبلوماسى مُبكّرًا منذ 1949، واتّسع التعاون ليشمل الاقتصاد والتقنية، وربما تسهيل التجارب النووية الإسرائيلية عند سواحلها، المُفارقة أن تل أبيب صوَّتت فى كلِّ المناسبات ضد نظام الأبارتيد، ما كان يُوجِب نمطًا ودودًا غير ما آلت إليه العلاقة، إن سيرة بريتوريا النضالية وواقعها المُنضبط، وكونها ليست دولةً مارقة، ويشهدُ العالم بأنّ نُسختها العصرية بُنِيَت على مُعاناةٍ وكفاح، كُلُّها تُنزّه دعوى الدولة المسيحية السمراء شديدة البُعد عن نطاق الأزمة، ولا تترُك مُتّسعًا للصهاينة أن يقدحوا فى موقفها، ولا أن يُثيروا الشُّبهةَ بشأن اتّساقها الأخلاقى وتقييمها المحايد.
فى المُقابل، تأخَّرت الهند مثلاً فى الاعتراف سنتين، وكانت على جفاءٍ مع دولة العصابات العبرية إلى السبعينيات، وقبل أيام طُرِحَ فى قمَّة عدم الانحياز بأوغندا أن يُوصَف عدوان غزَّة بالإبادة الجماعية، فاعترضت نيودلهى بكلِّ تاريخها الطويل مع مرارة الاستعمار، والولايات المُتّحدة أفاقت بُرهةً عند العدوان الثلاثى على مصر؛ ثم عادت أبًا روحيًّا، وظهيرًا ومُرشدًا لنازيِّى التوراة، تتكفَّل المصالح دومًا بترسيم خريطة القِيَم، وليس فى جعبة فلسطين ما تُقدّمه لأحدٍ من الطامعين، ولا ما تضغط به على أحدٍ من المُتردِّدين. حالةُ ألمانيا غنيّةٌ بالدلالات؛ إذ فى وقت التأسيس لم تكن غادرت عداوتها لليهود تمامًا، وفى يدها بقايا دمائهم، واليوم «بالانتهازية أو بعُقدة الذنب» تُصفّق لأفران الصهيونية ومحارقها ضدّ الغزِّيين، حتى أنها أعلنت التضامن معها فى الدعوى. برلين تتبرَّأ من النازية بدعمها، مثلما أدانت تل أبيب «أبارتيد أفريقيا» وتجاوزته. ولندن التى منحت الوعدَ وواشنطن التى ألبسته رداءً شرعيًّا؛ قتلتا الملايين فى كلِّ ساحةٍ، وما اعتذرتا ولا لُوحِقَتا بإدانةٍ؛ ولو عاريةً من النفاذ، القانون واضحٌ إزاء كلِّ هذا؛ لكنّه بعينٍ واحدة عندما يُوضَع بين خصمين غير مُتكافئين، لقد أدان الرايخ فى نورنبرج والعنصريِّين البيض فى الجمعية العامة، ويجلس فى مُدرّجات المأساة الفلسطينية صامتًا ومُستمتعًا منذ سبعة عُقود.
ليس المقصودُ التقليل من قيمة ما جرى فى لاهاى. والعَشَم أن يُستكمَل إلى الإدانة الكاملة؛ رغم احتمال أن يستغرق النزاعُ سنواتٍ ولا يُفضى لشىء. القصدُ أن تُوضَع المسألةُ فى سياقها، ولا تكون مُداولات محكمة العدل شبيهةً بأحاديث «اليوم التالى»؛ بينما تُسحَق غزَّة حاضرًا، ويتصارعُ على مُستقبلها مجنونٌ بقلنسوةٍ ومُغرِضٌ بعمامةٍ سوداء، غادر القضاةُ والمُدَّعِى والمُتَّهَم لحياتهم العادية، ولن تلحقهم فلسطينُ للأسف، كلُّ يومٍ من الحرب طَعنةٌ فى ضمير الإنسانية؛ لا يُداويها القانون، ولن يغفرَها اليتامى الذين تتلطَّخ عيونُهم بالدم وتزدحم صدورُهم بالثأر. لعلّ المحكمةَ اجتهدت ما وسعها؛ وكان المطلوب والعاجل أكثر، وربما يرتاحُ الرومانسيون والمُراوغون والقتلة لخيار المواءمة؛ لكن الأرواح المُتساقطة عن الشجرة لا تحتملُ أن يمتدَّ خريف الحرب الدائرة منذ أكتوبر شهرًا إضافيًّا. وربما يرتضى المُقامرون بالقضية الرجوعَ بورقةٍ جديدة؛ وسرعان ما سيكتشفون أنها لا تُقرّ حقَّهم فى السيادة على ما تبقَّى من أطلال. أنا شخصيًّا سعيدٌ بالقرار، سعيدٌ جدًّا، بقدر سعادة طفلٍ غَزّى فَقَد أُسرتَه وسريرَه ورغيفَه، ولا تصلُه الأخبار، وفى صدره شىءٌ تجاه العالم؛ بينما العالمُ لا يحفلُ به موتًا أو حياة، كما لا يراه مُجرمو الكابينت ومُناضلو الأنفاق وأساطينُ القانون فى لاهاى.