يوم الثلاثاء الماضي، عاش الشعب المصري، لحظات تاريخية مجيدة، شاهدة على دخول مصر عصر الطاقة النووية، وتحقيق الحلم الذي طال أمده بعد البدء في تنفيذه، ثم تعثره وتعطله، ثم توقفه تحت ضغوط ومخاوف ومطامع.
تلك اللحظات التي كان الرئيس عبد الفتاح السيسي، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يشهدان- عبر تقنية الفيديو كونفرانس- عملية الصبة الخرسانية الأولى التى تستخدم كأساس للوحدة النووية الرابعة من محطة الضبعة للطاقة النووية، كواحد من المشروعات المشتركة العملاقة بين مصر وروسيا، كأحد ثمار العلاقات الثنائية بين الدولتين، في عهدها الجديد، والذي دشنه الرئيسان السيسي وبوتين منذ العام 2014 – وقبله قليلا- وتوثقت العلاقات بين الرئيسين والبلدين، واستعادت زخمها في سنوات الخمسينيات والستينيات وأكثر، وشهدت تطورا لافتا خلال السنوات الماضية، أثمر عن العديد من المشروعات والبرامج المشتركة بين الجانبين.
الذاكرة المصرية استعادت يوم الثلاثاء الماضي لحظات وسنوات تاريخية مشابهة في العلاقات بين البلدين، مصر والاتحاد السوفيتي، وقتها، وخاصة في العلاقات الوطيدة والقوية بين الزعيمين ناصر وخروشوف، والمواقف القوية والداعمة لمصر سياسيا وعسكريا واقتصاديا.
ومع ثورة يوليو 52، دعمت موسكو بشدة قرار مصر تأميم قناة السويس لتمويل بناء السد العالي بعد رفض الغرب.. وهدد الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف بريطانيا وفرنسا وإسرائيل باستخدام أسلحة نووية، محذرا "من التدخل العسكري في مصر والانقلاب في بلدنا الصديق".
ومع رفض الرئيس جمال عبد الناصر انضمام مصر إلى أي تحالف إقليمي برعاية الغرب تحت إغراء إمدادات السلاح للثورة المصرية الوليدة. كان الاتحاد السوفيتي وبدءا من خريف عام 1955 هو المورد الرئيسي للأسلحة لمصر. وتم توريد أسلحة بقيمة 250 مليون دولار أمريكي في إطار الاتفاقيات المبرمة. وتم توريد الدبابات وناقلات الجنود المدرعة والطائرات والمدمرات والغواصات وقوارب الطوربيد فيما عرف بصفقة الأسلحة التشكية. وقدم الاتحاد السوفيتي عام 1957 قرضا للقاهرة لشراء منتجات عسكرية جديدة.
وقدم الاتحاد السوفيتي دعما ماليا لمصر لبناء السد العالي، ودعما تقنيا وهندسيا، حيث قام المصممون السوفييت بتجميع واختبار نموذج مصغر لهذا السد في الاتحاد السوفيتي. وأصبح من الممكن توفير الكهرباء لعدد كبير من المنشآت الصناعية في مصر بعد تشغيل إحدى أكبر محطات الطاقة الكهرومائية في أفريقيا بقدرة حوالي 10 مليار كيلوواط/ساعة سنويًا. كما شارك المتخصصون السوفييت في كهربة المحافظات المصرية.
وأثناء زيارة «خروشوف» لمصر منذ في 9 مايو 1964، قام يوم 14 مايو هو والرئيس عبدالناصر والرئيس اليمنى عبدالله السلال، والعراقى عبدالسلام عارف، بالسفر إلى أسوان، وضغطوا على زر التفجير لتحويل مجرى النيل الذى كان ختاما للمرحلة الأولى من بناء السد العالى.
كانت الصورة الشهيرة التي مازالت تحتفظ بها الذاكرة المصرية حتى الآن للزعيمين ناصر وخروشوف في السد العالي تلقى بظلالها الوارفة الممتدة عبر فضاءات الزمن والتاريخ على صورة الزعيمين السيسي وبوتين يوم الثلاثاء الماضي لحظة تدشين على الرغم من مرور 60 عاما تقريبا لحظة تدشين عملية الصبة الخرسانية للوحدة النووية الرابعة في الحلم النووي المصري في الضبعة.
المفارقة التاريخية أيضا تشهد أن مصر بدأت حلمها بامتلاك الطاقة النووية ودخول «الطريق النووي السلمي» بمفاعل روسي، حيث تم إنشاء أول مفاعل نووي للأبحاث حمل اسم مفاعل البحث والتدريب التجريبي والذي تم الحصول عليه من الاتحاد السوفيتي وتم افتتاح المفاعل في أنشاص في عام 1961. فعندما بدأت مصر التفكير في استخدام الطاقة النووية في توليد الكهرباء في أوائل الستينيات، كان هناك عدد من المحاولات السابقة لبناء محطة نووية حيث قامت في عام 1964 بطرح مناقصة دولية لإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر بقدرة 150 ميجاوات في منطقة برج العرب، إلا أن عدوان 1967 أوقف المشروع.
سنوات طويلة والحلم معطل وكاد أن يصبح سرابا حتى تولى الرئيس السيسي الحكم في مصر وفتحت مصر خزانة أحلامها الكبرى لتحقيق التنمية الشاملة ومعها حلم المشروع النووي.
وبالفعل وفي 19 نوفمبر 2015 كان هو التاريخ الذي يُعد شاهدا على لحظة إحياء البرنامج النووي المصري بعد توقيع كل من حكومة روسيا الاتحادية وحكومة جمهورية مصر العربية اتفاقية حول التعاون المشترك لإنشاء محطة للطاقة النووية في جمهورية مصر العربية.
ومثلما شهدت الستينيات توسعا ضخما في شكل التعاون الاقتصادي وساعد الاتحاد السوفياتي مصر في تصميم وبناء حوالي 100 منشأة صناعية أصبحت أساسا لعملية التصنيع الكبرى. فان السنوات العشر الأخيرة تشهد زخما يبدو مماثلا في العلاقات الوثيقة والتاريخية بين البلدين
والسعي للحفاظ على التعاون الثنائي وتعميقه، فقد تم ابرام أكبر عقد في تاريخ السكك الحديدية المصرية لتوريد 1300 شحنات الركاب من قبل الشركة الروسية، و إنشاء المنطقة الصناعية الروسية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس. وتعمل اللجنة الحكومية المشتركة للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتقني بنجاح.
المشروع النووي المصري هو حلم يتحقق الآن بعد إجهاضه لسنوات طويلة لأكثر من 50 عاما على أرض الضبعة وعلى شاطئ البحر المتوسط.
وهو عنصر مهم في استراتيجية التنمية المستدامة في مصر، ورؤية مصر 2030. تنفيذ الحلم النووي السلمي في الضبعة يحقق فوائد عديدة لمصر، منها التنوع في مصادر الطاقة للدولة، وإنتاج وتوليد طاقة عالية، مما يساعد على تلبية الطلب المتزايد على الكهرباء بطريقة موثوقة واعتمادية ومستدامة ويعتبر أساس لتنمية اقتصادية مستقرة، الحفاظ على الموارد الطبيعية غير المتجددة مثل النفط والغاز واستخدامها بشكل رشيد، التكلفة التنافسية للكهرباء المولدة وبشكل ثابت على مدار اليوم بغض النصر عن الظروف الجوية، كما يعتبر مصدر طاقة نظيف خالي من انبعاثات الكربون، ويلعب دورًا بارزًا في مواجهة الاحتباس الحراري
كما يؤدي إلى استيعاب التقنيات والتكنولوجيا المتطورة وتعزيز البحث والتطوير، والارتقاء بجودة العمل والمنتجات محلية الصنع إلى مستوى المعايير الدولية،بالاضافة الى زيادة فرص العمل للمصريين بمشاركة محلية لا تقل عن 20% للوحدة الأولى وحتى 35% للوحدة الرابعة.
تنفيذ مشروع محطة الضبعة للطاقة النووية هو تتويج لسنوات عديدة من الجهود المصرية لإدخال الطاقة النووية إلى مصر حيث تعود خطط إنشاء محطة الضبعة للطاقة النووية إلى أواخر السبعينيات، عندما بدأت إجراءات اختيار الموقع.
يهدف مشروع الضبعة للطاقة النووية إلى بناء أربع وحدات من مفاعلات الماء المضغوط بقدرة 1200 ميجاوات لكل وحدة- أي بطاقة إجمالية 4800 ميجاوات- وتعتبر مفاعلات الماء المضغوط التي تم اختيارها هي أكثر أنواع المفاعلات شيوعًا في جميع أنحاء العالم.
وجاء عامل الأمان والموثوقية لتصميم المفاعل النووي من أهم عوامل المفاضلة الرئيسية لاختيار نوع المفاعل والتكنولوجيا المستخدمة، لبناء المحطة النووية في الضبعة، حيث تنتمي التكنولوجيا المستخدمة إلى نوعية مفاعلات الجيل الثالث المطور، وهو متوافق تمامًا مع جميع متطلبات ما بعد حادثة فوكوشيما، والتي وضعتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ويتم تنفيذ المشروع من خلال ثلاثة مراحل رئيسية، المرحلة الأولى وهي المرحلة التحضيرية والتي بدأت منذ ديسمبر 2017 وتغطي الأنشطة التي تهدف إلى تجهيز وتهيئة الموقع لإنشاء المحطة النووية، وتستمر لمدة عامين ونصف إلى أربعة أعوام.
المرحلة الثانية وتبدأ بعد الحصول على إذن الإنشاء وتشمل كافة الأعمال المتعلقة بالبناء والتشييد، وتدريب العاملين، والاستعداد للبدء في اختبارات ما قبل التشغيل، وتستمر المرحلة الثانية لمدة خمسة أعوام ونصف.
المرحلة الأخيرة وتشمل الحصول على إذن إجراء اختبارات ما قبل التشغيل والتي تشمل إجراء اختبارات التشغيل وبدء التشغيل الفعلي وتستمر هذه المرحلة حتى التسليم المبدئي للوحدة النووية وإصدار ترخيص التشغيل، وتصل مدة اختبارات ما قبل التشغيل إلى 11 شهر.
المتوقع افتتاح محطة الضبعة النووية فى 2028 لأول مفاعل نووي..على أن يتم تشغيل المحطة بشكل كامل على الربط التجارى بوحداته الأربع عام 2030
الحلم أصبح واقع والأمل بات قريبا.. ومصر الآن تدخل وبقوة عصر الطاقة النووية.