ربما تشهد المعركة التي بدأتها إسرائيل في غزة، قبل ما يقرب من 4 أشهر، اتساعا كبيرا، على المستوى الإقليمي، في منطقة الشرق الأوسط، مع انغماس العديد من الأطراف في الحرب، بدءًا من جنوب لبنان، مرورا بسوريا، والعراق واليمن وحتى الأردن، بينما تبقى هناك أطراف أخرى، لا يمكن تجاهلها، في ظل تورطها بصورة أو بأخرى، وفي القلب منها إيران والولايات المتحدة، والتي اتسع نطاق استهداف جنودها في الآونة الأخيرة، بينما لا تبقى سفنها في مأمن، جراء هجمات الميليشيات، وهو ما يعني أن ثمة انتقالا تدريجيا في دائرة الصراع، من الأرض المتصارع عليها، إلى الإقليم بأسره، ومنه قد تمتد شرارة المعركة ما هو أبعد من ذلك، حال خروج الأمور عن السيطرة، ودخول قوى أكبر دوليا وإقليميا، في صراع مباشر، قد يأكل الأخضر واليابس.
ولعل انغماس أطراف إقليمية ودولية في دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، ليست بالأمر الجديد إطلاقا، حيث اتسم بطبيعته المتمددة، إلا أن الجديد في أزمة العدوان على غزة الأخيرة، هو دخول العديد من الجبهات في جبهة المعركة، في نفس اللحظة، مما خلق حالة من الارتباك الإقليمي، تهدف في الأساس إلى خلق حالة من الفوضى مجددا، بهدف تصفية القضية الفلسطينية، إلا أنها في نفس اللحظة حملت في طياتها انعكاسات دولية عميقة، في ظل التداعيات الكبيرة المترتبة عليه، في إطار التجارة الدولية والاقتصاد العالمي، ناهيك عن تزامنه مع أزمات أخرى، على رأسها الأزمة الأوكرانية، وتأثيراتها الممتدة على سلاسل الإمداد، وهو الأمر الذي يمثل بعدا جديدا في الإطار الصراعي بمنطقة الشرق الأوسط، والذي أصبح مرتبطا بصورة مباشرة، بحياة ملايين البشر في الغرب، جراء تداعياته الاقتصادية العميقة، وهو البعد الذي لم يكن متوفرا في المشاهد السابقة المرتبطة بالصراع في المنطقة، في ظل ما وفرته الجغرافيا من حماية لتلك الشعوب جراء ابتعادهم النسبي عن منطقة الأزمة.
امتداد دائرة الصراع، لم تقتصر على الجانب الميداني، في إطار العدوان على غزة، أو الهجمات التي تستهدف لبنان وسوريا والعراق، وغيرهم، وإنما امتدت إلى دخول أطراف غير إقليمية على خط المواجهة، وهو ما يبدو في نموذج جنوب أفريقيا، والتي أقدمت على رفع دعوى قضائية، ضد الاحتلال، لتضعه في مواجهة أخرى أمام القضاء الدولي، تحت مظل الأمم المتحدة، في سابقة تحمل أهمية كبيرة، سواء فيما آلت إليه الأمور، بعد القرار التاريخي الصادر عن المحكمة، أو حتى فيما يتعلق بالتغيير الكبير في ميزان الدعم الذي تحظى به فلسطين وقضيتها، وهو الأمر الذي يمكن البناء عليه في المستقبل، عبر خطوات منتظرة، سواء من الجانب الفلسطيني نفسه، أو من قبل القوى الداعمة له، في العالمين العربي والإسلامي.
وفي الواقع أن النتيجة المترتبة على المعطيات سالفة الذكر، تتجسد في حقيقة مفادها أن المأزق الحقيقي الذي يواجه الاحتلال الإسرائيلي، ليس مجرد الفشل في تحقيق أهداف العملية العسكرية، وإنما في تعدد الجبهات التي باتت في مواجهته، عبر عدة مسارات متوازية، أولها ظهور وجوه جديدة في المعسكر المناوئ له مباشرة، على غرار جنوب أفريقيا، وما تحمله من تأثير كبيرة في محيطها الإقليمي في القارة السمراء، بالإضافة إلى علاقاتها القوية مع قوى كبرى ومؤثرة في النظام الدولي، بينما يرتبط المسار الآخر، في المعسكر الموالي له، خاصة مع بزوغ أزمات، لم تكن موجودة من قبل، في داخل دولهم، من شأنها تأليب المزاج العام لديهم ضد حكوماتهم ومواقفهم، خاصة مع ارتباط الأمور بصورة كبيرة بحالة الارتباك الاقتصادي في الداخل مما يفتح المجال أمام حكوماتهم للتحرك بقدر من الاستقلالية عن القيادة الأمريكية التقليدية، بينما يمتد المسار الثالث إلى المواجهة المباشرة مع الأمم المتحدة، مع دخول محكمة العدل الدولية، في دائرة الأزمة، وما ترتب على ذلك من التزام، ربما سيتجاوز لأول مرة، قدرة "الفيتو" الأمريكي، حتى في حال استخدامه، على احتواءه.
الجبهات المتعددة التي باتت إسرائيل في مواجهتها ربما أسفرت في نهاية المطاف عن عجز واضح لدى حكومة الاحتلال في التعاطي مع المستجدات، خاصة بعدما فشلت في تحقيق إنجاز عسكري، يحفظ ماء الوجه، بينما لم تستطيع أن تعود خطوة أو خطوات للوراء، لأنها ستسفر لا محالة عن خروج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورفاقه من الباب الضيق، وربما ينتهي به المطاف إلى السجن، في حين بات الدعم المقدم له أقل بكثير من التطلعات، في الوقت الذي باتت فيه القضية الفلسطينية تحظى بزخم أكبر، على المستوى الدولي وهو ما يعكس تضارب الأحاديث الإسرائيلية عن إعادة احتلال قطاع غزة، وهو ما يبدو في انعقاد مؤتمر بعنوان "العودة" شارك فيه عددا من الوزراء بجكومة نتنياهو تارة، أو الحديث المتواتر عن التهجير بصور مختلفة، تارة أخرى، أو تناول مقترحات تدور حول فصل القطاع عن حل الدولتين، تارة ثالثة، في ارتباك صريح.
بينما يبقى الدعم الأمريكي الخالص، للاحتلال وممارساته، لم يعد كافيا إلى حد كبير، حتى مع تسخير كل الأدوات لخدمته، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لطبيعة العالم الجديد، مع صعود قوى جديدة، يمكنها العمل باستقلالية بعيدا عن الفلك الأمريكي، حتى وإن كانت لا تسعى لمزاحمة القوى الدولية الكبرى على قمة النظام الدولي، على غرار نموذج جنوب أفريقيا، وهو ما يظهر المعضلة الحقيقية التي تواجهها إسرائيل في اللحظة الراهنة، والتي تدور حول مفهوم "التعددية"، في صورته المزدوجة، في ضوء تعدد جبهات المواجهة على النحو سالف الذكر، بالإضافة إلى عدم قدرتها على التأقلم مع العالم بصورته الجديدة ذات الطبيعة "التعددية"، في ظل اعتمادها الكلي على الولايات المتحدة، منذ نشأتها، في الأربعينات من القرن الماضي، وهو الأمر الذي لا يتواكب في جوهره مع الوضع الدولي الراهن، ونهاية حقبة الهيمنة الأحادية التي سيطرت على العالم منذ التسعينات من القرن الماضي.
وهنا يمكننا القول بأن إسرائيل ربما تفتقد المرونة الكافية لمواكبة التغيرات الدولية الكبيرة التي يشهدها العالم، في ضوء عدم قدرتها على الحسم في مواجهة التحديات التي تجابهها، بينما يبقى اعتمادها المطلق على الحليف الأمريكي، رهانا خاسرا، مع تعدد القوى الصاعدة التي يمكنها المشاركة في صناعة القرار الدولي من جانب، بالإضافة إلى تعددية جبهات المواجهة من جانب آخر.