كذبت إسرائيلُ منذ البداية فى ذبح الأطفال واغتصاب النساء وإحراق الجثث يوم الطوفان، ولم تعتذر. ثمّ كذبت فى ادِّعاءاتها عن قصف مستشفى المعمدانى، وتبيَّنت إصابته بصاروخٍ منها لا من حركة الجهاد على ما زعمت.
وحينما تقول إنَّ عددًا من فريق وكالة الأُمم المتّحدة لغَوث اللاجئين «أونروا» مُتورِّطون فى الهجمات؛ فاحتمال الكذب والتلفيق يتقدَّم على الصدق والتدقيق. كلُّ السوابق تُؤكِّد أنها بلد يعيش على الاختلاق؛ منذ كانت عصاباتٍ همجيَّةً واخترعوا لها دولةً، وإلى أن صارت آلةَ قتلٍ هائجةً يغضُّ العالمُ الطرفَ عن إجرامها. الغريبُ أن تتداعى حكوماتٌ يُفترَض فيها التعقُّل والانضباط لتبنِّى السرديَّة بخِفَّةٍ واستعجال، واتخاذ مواقف تُؤازر الاحتلال الموصوف بكلِّ النقائص، على حساب الضحايا الذين ثبتَ لهم أضعافُ ما أُلصِق بهم. إنَّ التتابُعَ اللاهث يفضح نيّةً مُبيَّتة، وينطوى على أغراضٍ مُضمَرة تفوق حدودَ المُعلن بالأحرف الأولى، وبما يستبقُ أىَّ معيارٍ جاد للفحص والتحقيق؛ والظاهر أنها مناورةٌ فى ضوء التطوُّرات القانونية الأخيرة للنزاع، أو تمهيدٌ لمرحلةٍ يُرتَّب لها تحت عنوان «اليوم التالى»، وأجندة اليمين الصهيونى لمُستقبل غزّة.
تلقَّت تل أبيب صفعةً قاسية مساء الجمعة، عندما أقرَّت محكمةُ العدل الدولية ستَّةَ تدابير مُؤقَّتة طلبتها جنوب أفريقيا فى دعوى الإبادة الجماعية، وبعد ساعاتٍ أطلقت حكومةُ نتنياهو نيرانَها الحارقة على أونروا؛ فاضطُرَّت الأخيرةُ لإنهاء عقود بعض مُوظَّفيها والتحقيق فى المزاعم. ولا يُمكن هنا أن ينصرف الذهن عن التزامن الغريب؛ إذ بعد أربعة أشهرٍ من عملية المُقاومة تُدفَع روايةٌ جديدة للواجهة، وقد اكتملت معلومات الهجمة قبل أسابيع، وعدَّل الاحتلالُ حصرَ ضحاياه، وتوصَّل لأعداد المهاجمين وهُويَّاتهم. كأنه قد فتَّش فى دفاتره عمَّا يرُدّ به على خسارة لاهاى، فلم يجد إلَّا تخليق سرديَّةٍ يصعُب إثباتها أو نفيها؛ ليكون بمقدوره العَيش مُجدَّدًا على الكذب، وأن يسرقَ مُهلةً إضافيّة تسمح بانتظام إبادته بوسائل مُغايرة، وقد يتيسَّر له ترميمُ جدار الدعم الغربى؛ بعدما تصدَّع بأثر العدوان الغاشم، وأن يرسُمَ سيناريو خنق القطاع أو إزاحة ساكنيه، بأدواتٍ تجعلُ الأُمَم المُتحدة شريكًا، أو على الأقل تُعطِّلها عن حصار الجنون وفَضحه. ليس المقصود إطلاقًا أن تفرز قِلَّةً من فِرَق الإغاثة بالشُّبهة أو البيِّنة؛ بقدر ما تقصدُ تحييدَ المُؤسَّسة عن أدوارها، ووَصْمها بالانحياز وانعدام الحياد.
غرضُ الأكذوبة أن تُستدَعى المنظومة الأُمميَّة إلى ساحة الحرب؛ لتصير طرفًا لا لونًا وسيطًا بين لونين. هكذا قد تتفرَّغ الوكالة لتبرئة نفسها، وتنصرف عن أدوارها الإنسانية بأثر الدعاية المُضلِّلة أو انقطاع الدعم. ومُستقبلاً قد يُوظَّف ذلك ضد الجمعية العامة ومرافقها. هذا من ظاهر الأهداف؛ أمَّا الخفىّ فيشتملُ على رغبةٍ فى مُواصلة تجويع الغزِّيين، وحرمانهم من مُقوِّمات الحياة والصمود على أرضهم، الآن وغدًا، والتمهيد لحالةٍ من التوحُّش قد تطال مراكز «أونروا» ومدارسها وفرق عملها، بمُداهماتٍ واعتقالات وعمليات قصفٍ، ثمّ شَطب قضية اللاجئين وما يتفرَّع عنها من مسائل الحلِّ النهائى؛ كالتعويض وحقّ العودة. وإذا كانت الخطوةُ الأولى للتهجير وابتلاع الأرض، أن تصير «غزّة» بيئةً قاحلةً وغير صالحةٍ للحياة؛ فإنَّ بقيَّة الطريق تُرسَم بقَطع الإغاثة، وتعمية عيون الشهود، وأن يختلى القاتل بضحاياه دون حضورٍ لمن يسعى لمَنع الجريمة، أو بالقليل يُوثِّق تفاصيلها الدامية.
أوائل ديسمبر، كتب مُفوِّض أونروا «فيليب لازارينى» مقالاً فى لوس أنجلوس الأمريكية، رصد فيه تفاقُمَ الأوضاع الإنسانية، وتصاعُدَ الدمار وملاحقة الفارِّين إلى الجنوب، وقال إن ما تعاينه الوكالة مُقدِّمةٌ للتهجير القسرى. وردَّت إسرائيل سريعًا بالاعتراض والنفى؛ لكنها واصلت أعمالها الوحشيّة بوتيرةٍ مُنتظمة، ولم تُجانب ذلك حتى بعدما فرضه «قضاةُ لاهاى» ضمن تدابيرهم الطارئة. كذبةُ الصهيونية الأخيرةُ تقعُ تحت صِفة الكيديّة؛ فقد رأت فى المُنظَّمة الإغاثية خصمًا يُعادى أطماعَها فى تسيير خطَّة الحرب وفق أهدافها المُسبَقة، كما أنها صاحبةُ مصلحةٍ مُباشرة فى وَصْمها ردًّا على موقفها الأخلاقى، وسعيًا لإسقاط جدارتها وحجّية تقاريرها. وتنطلق فى ذلك من وضعية «أونروا» شديدة الهشاشة؛ بالنظر لميزانيّتها المحدودة، وكونها قائمةً على تبرُّعاتٍ طوعيّة لا إسهامات دائمة بنظام الاشتراكات، فضلاً على تكفُّلها أعباءَ ملايين فى خمس مناطق، والمساس بأىٍّ منها ينعكس بالضرورة على البقيّة، ويضرُّ بيئاتٍ غير بعيدة من مقتلة جنوب غربى فلسطين. فكأنّها بالضربة الناعمة تنقلُ المواجهة للأردن وسوريا ولبنان، وتنزع فتيل القنبلة الاجتماعية؛ لتُفجّرها فى عموم الإقليم.
خريطةُ المرافق فى «غزّة» تُشير لأربعة أجنحة: سُلطة حماس وقد صارت مُعطَّلةً، ومُوظِّفى «فتح» وقد حيَّدتهم الحركة، وكلاهما ترفضه تل أبيب. والثالث مجموعات الهلال الأحمر، محدودة القدرات وسهلة الاستهداف بتهمة التبعية للفصائل، وربما تكون هدفًا للهجوم والتشويه قريبًا. وأخيرًا هياكل «أونروا» الأوسع عددًا وخبرة. طعنُ الوكالة لن يصُبَّ فى صالح الثلاثة السابقين، إنَّما سيُضيف لهندسةِ العجز ضلعًا رابعًا. ربما لا يتَّضح الأثرُ سريعًا بالنظر للاستثناء الراهن، وأن القطاع يعيش على كَفافٍ تتكفَّل به المُساعدات المُتدفّقة من مصر. إنَما فى المستقبل ستتضاعف الحاجات، وستعود عجلةُ الحياة الدوران بنَهَمٍ تخلقه الأوضاع البائسة، وبطلبٍ مشروع على المأكل والصحة والتعليم وإعادة بناء الروافع الاقتصادية. وقتها لا بديلَ عن تنشيط الماكينة الأُمميَّة بأقصى طاقةٍ مُمكنة، أمَّا غيابها فمعناه استمرار الحرب ولو توقَّفت النيران. وما من شَكٍّ فى أن الدولة العبرية تُحبّ ذلك، وقد قال وزير خارجيتها صراحةً إنهم سيمنعونها من العمل، وسيُحرصون ألَّا تكون جزءًا من المرحلة التالية.
رسالةُ «كاتس» تضمَّنت العملَ لحَشد الدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وغيرهما. وما حدث أن إسرائيل أطلقت الكذبةَ، وفى اليوم نفسه أعلنت تسعُ دولٍ تعليق تمويلها، ثم زادت لاثنتى عشرة. وتمسَّكت أيرلندا واسكتلندا والنرويج وإسبانيا بمُواصلة التمويل، بينما عادت فرنسا خطوةً للوراء مُعلنةً أنها لم تحسم أمرَها. والمأخذُ هنا أنهم أصدروا حُكمًا عِقابيًّا دون مُحاكمةٍ؛ كأنها لُعبةٌ مُرتَّبة فى الكواليس. لقد تجاهلوا ستَّة عشر أسبوعًا من الإبادة المُعلنة، وناطحوا محكمة العدل فى دعواها، ولم يُفوِّتوا فرصةً لنفى الاتهامات وتبرئة الاحتلال رغم الأدلّة الزاعقة، وعلى العكس تمامًا أدانوا مُؤسَّسةً ضخمة وداسوا على مُعاناة النازحين بالاشتباه فقط، وما توقَّفوا للفحص ولا أرجأوا لحين التثبُّت. وما يُؤسَف له أن القاتلَ أثار الغبارَ ومضى، ما أذاع خبرًا ولا رقمًا ولا قرينة. أحدُ مسؤوليه قال إن 12 عنصرًا تورَّطوا، واختلفت تقاريرُ فى أنهم سبعة، وفى الحالين هُم أقلّ من واحدٍ فى الألف؛ إذ تُوظِّف «أونروا» ثلاثة عشر ألفًا، إضافة لشُركاء ومُعاونين غير مُباشرين، ناهيك عن أن حدودَ التورُّط غير معلومة، ولا تفصيل فيما إذا كان بعضُهم أشهروا السلاح أو حملوا كاميرات أو استقبلوا الأسرى بالخبز والماء. أوردت «نيويورك تايمز» نماذجَ للاتهامات: مُستشارُ مدرسةٍ شارك فى خَطف امرأة، وعاملةٌ ساعدت فى جَلب جُثّة جندىّ، وثالثٌ حضرَ مذبحةً بأحد الكيبوتسات. ولو سَلَّمنا بها؛ فإنها تظلُّ أعمالاً فردية، كُلَّها يوم الطوفان، وبعيدةٌ من مرافق الوكالة ولوجستيَّاتها. أى لا تُشير لنشاطٍ منهجىٍّ ولا طابعٍ عام يُلوِّث الجهةَ نفسَها.. وإجمالاً، إن كانت التهمةُ فى غزَّة؛ فالعقوبة المُتعجِّلة تفتئتُ على حقوق ملايين فى الضفَّة وعمَّان وبيروت ودمشق.
السجنُ المُسمّى قِطاعًا فيه أكثر من مليونين، وكلُّهم ينزفون من مخالب الاحتلال الحاضرة، أو لهم ثأرٌ قديم فى رقبته. والوكالة لها مُوظَّفون دوليِّون؛ لكنَّ قوَّتَها الضاربة من أهل البلد. ومن الوارد أن ينتصرَ الغيظُ فى نفس أحدهم على شارة الوظيفة الأُمميَّة، كما من الطبيعى أن يكون فى الطابور الطويل من يُشايع «حماس» فكرةً أو تنظيمًا. الفيصلُ أن يكون الشخص مُتورِّطًا فى مُمارسةٍ مادية تُصادِم التزامَه الإنسانى، والأصلُ أنَّ الجُرمَ لصيقٌ بصاحبه، والعقوبةَ أيضًا. ويُوجِب ذلك على إسرائيل الإفصاحَ عن اتهاماتها منسوبةً لأفرادٍ مُحدَّدين، ومشفوعةً بأدلَّةٍ واضحة. أمَّا سحبُ الخاص على العام، وتعميمُ التهمة لتصيرَ منصَّةَ استهدافٍ للكيان بكامله؛ فإنها تُخفِى غرضًا دنيئًا لا ينقطع عن دناوة الاحتلال المُعتادة، كما أنَّ مُسارعة واشنطن وبعض ذيولها الأُوروبيين لتبنِّى التخليقة الصهيونية، ومنحها رصيدًا معنويًّا بقراراتٍ دعائيّة مُغرضة؛ إنما يُؤكِّد إصرارًا وقحًا على الانحياز الفجّ واستمراء الرقص فوق الجُثث، وينسف أيَّة شعاراتٍ يسوقونها فى نطاق الدبلوماسية عن «حلِّ الدولتين» ورفض التهجير والسعى للتهدئة.
تأسَّست أونروا 1949، وبدأت عملها بالعام التالى، وكانت معنيّةً بنحو 750 ألفًا طُرِدوا من بيوتهم، واليوم يُناهزون 6 ملايين صار ثُلثُهم مُهجَّرين للمرة الثانية فى نزوحهم داخل غزّة. وطوال تلك العقود لم تُسجَّل عليها خروقاتٌ تتجاوزُ دورَها، بينما المُؤكَّد أنه دخلها مُقاومون وغادروها، وأنَّ بقاءها الطويل يُدين إسرائيل فى السرَّاء والضرَّاء. لقد بُنِيَت لتكون مُؤقَّتةً؛ لكنها صارت دائمةً لأنّ العدو لم يشبع من الدم ولم يجد من يردعه. وتجدَّدت ولايتها مرَّاتٍ عدّة، آخرها ديسمبر قبل الماضى إلى يونيو 2026. ولعلَّ الصهاينةَ باتِّهامهم الآن يُريدون تكبيل يديها فيما تبقَّى، وأن يُعطّلوا التمديد بعد سنتين. والخطرُ أن تنتقل المهمَّة لمُفوضيَّة شؤون اللاجئين، وثمَّة فارقٌ شاسع: الأخيرةُ لا تشمل الفلسطينيين فى الأقاليم الخمسة المنكوبة، وليست مُقدِّمَ خدمةٍ؛ إنَّما حدودُها المساعدة والحماية الظرفية، ثم الحلول الدائمة بأوطانٍ بديلة. أمَّا «أونروا» فتُقدِّم خدماتٍ شبيهةً بالدولة، وصُلبُ عملها ضمان إبقاء أصحاب الأرض على مقربةٍ من حقوقهم.
إزاحةُ الثانية لصالح الأولى ستُقلِّص أنشطة الإغاثة، وتضغط على معيشة اللاجئين، والأخطر أنها ستفتحُ باب التهجير من زاوية التوطين بصيغة الحلِّ الدائم.
لم يبك الغربُ المُتحضِّر على أكثر من 100 شهيدٍ قضوا تحت عَلَم الأُمم المُتحدة؛ لكنَّ ضِباعَه فغروا أفواههم على شُبهةٍ ساقتها العصابةُ التوراتية بحق 12 مُوظَّفًا. وأونروا ليست مُجرَّد لمسةٍ حانيةٍ فى فضاءٍ مُتوحِّش، ولا واجبَ الضرورة الذى يحفظُ شيئًا من إنسانية العالم؛ وما زالت تذُبَح فى فلسطين. الوكالةُ فريدة فى بنيانها وأدواتها وأثرها النوعى، ولعلَّها الكيان الوحيد الذى ينشغل بكُتلةٍ واحدةٍ مطعونة إلى العَظم، ويُلطِّف جروحًا لا يتوقَّف الاحتلال عن الحفر فيها منذ سبعين سنة.
لقد أرسلت 540 ألف طفل للمدارس بحسب أرقام 2020، وعالجت مليونين، ومدَّت مظلَّة الأمان الاجتماعى لنحو 390 ألفًا والمساعدات لـ1.5 مليون من مُتضرِّرى النزاعات. والأهمُّ أنها جهةُ إغاثةٍ لا سلطة حُكم؛ فليس فى هياكلها جهازُ استخبارات ولا فِرَق أمن، وليست معنيّةً بحفظ النظام وإقرار القوانين. يقعُ العبء على حكومات الدول المُضيفة، وعلى السلطة وحماس بالداخل، وقبلهما إسرائيل بوصفها قوَّة الاحتلال الطاغية على الجغرافيا والبشر. إنْ حدثَ اختراقٌ فإنه من أثر جرائم الصهاينة، ومسؤوليته فى أعناقهم، مثلما كان اختراق السياج فى أكتوبر، وبما أنها لم تُسرِّح جيشَها الفاشل بكلِّ ترسانته الجارحة؛ فليس لها أن تسعى لتفكيك جيش الأمل الذى يستظلُّ به الضحايا، وهم ليسوا مُهتمِّين بإخفاق العدو ولا مسؤولين عن نجاحات الصديق.
اتُّهِمَت إسرائيل بالإبادة قتلاً وتجويعًا؛ فتفتَّق ذِهنُ النازى الغبى نتنياهو عن حلٍّ بديل. لقد دفع مجموعاتٍ عُنصريّةً مُتطرّفة للتظاهر عند معبر «كرم أبو سالم» لتعطيل المساعدات، ثمّ صوَّب بندقيَّته على «أونروا» لإكمال الحصار. هكذا يتيسَّر له قتلُ الغزِّيين والإفلات من المسؤولية فى التقرير المُلزَم بأن يرفعَه لمحكمة العدل بعد شهرٍ. وإن قصف منشآت الوكالة فقد برَّر مُسبقًا بمزاعم استخدامها فى أعمالٍ إرهابية، ومعه غطاءٌ من الأمريكيين والأوروبيين الذين بصموا على الرواية البائسة. ولأنهم لا يبحثون عن الحقيقة؛ فقد تجاهلوا إجراءات «لازارينى» بفصل المُشتبَه فيهم وفَتح تحقيق، وصَمّوا آذانهم عن تعهُّدات «جوتيريش» بالمُحاسبة ومناشدته باستمرار الدعم، ولم يتوقَّفوا أمام المُخاطرة السياسية، وقد عبَّرت أطرافٌ وازنةٌ عن غضبها من خِفَّة الممارسة؛ وتوالت الإدانات من مصر والأردن وفلسطين والسعودية والجامعة العربية وتركيا وآخرين، مُتضامنين مع الوكالة ورافضين للعِقاب الجماعى واستباق التحقيقات، وللتحايل على إنهاء التجويع بطُرقٍ بديلة.
دعا نتنياهو فى 2017 إلى ضَمّ «أونروا» لمُفوضيّة اللاجئين. هى فكرةٌ ظاهرها توحيد أُطر العمل، وباطنها شَطب حقِّ العودة، والدفع نحو التوطين. وفى خضمّ أزمته أمام محكمة العدل عاد للسيناريو القديم، لا بدعوةٍ سياسيّة مُخادعة؛ إنما باستهدافٍ مُغرضٍ على معنى الإزاحة الخشنة. والوكالةُ تُوجِّه ثلاثةَ أرباع مواردها للتعليم والصحة، بأكبر إسهامٍ فى القطاعين، ما يعنى أن «غزّة» من دونها ستكون ساحةً دائمة للجهل والمرض. هكذا تشقُّ إسرائيل طريقًا جانبيّة لخَنق الغزِّيين خصوصًا، وكلّ الفلسطينيين بالعموم، وتتحدَّى «قُضاة لاهاى» الآمرين بإيقاف الإبادة؛ فابتكر نازيِّو تل أبيب وصفةً اُخرى لاستكمالها. ربما يصحُّ تورُّط سبعةِ عاملين أو أكثر، ويُلام المُتورِّطون وفصائلُهم حصرًا، وقد يكون الأمر مُختلَقًا بكامله ولا لومَ إلَّا على الجانى وماكينة أكاذيبه؛ لكنَّ النوايا الصهيونية كانت ستُطلّ برأسها فى كلِّ الأحوال. مثلما قال بايدن لو لم تكن إسرائيل لاخترعناها؛ وهم الذين اخترعوها فعلاً، ومثلما تلقَّف زعيمُ الليكود وحكومتُه عملية الطوفان كأنهم أرادوها، أو كانوا شركاء فيها؛ فإنَّ سرديَّة الأونروا المُخترَعة بمثابة «مسمار جحا» الذى يدقّونه فى تابوت القضية. الادِّعاء بعد جلسة الجمعة ردٌّ على فضيحة الإدانة الضمنية، وورقةُ ابتزازٍ فى رحلة الحُكم النهائى؛ لكنه أيضًا حلقةٌ فى مسلسل بدأ منذ أوائل أكتوبر، وامتدَّ من ترحيل سكان الشمال إلى ملاحقتهم فى الجنوب، ثمّ التلويح بالعمل على محور فيلادلفيا، مُقابل اعتراضٍ مصرىّ صارم قد تنبنى عليه تطوُّرات ساخنة. وكالعادة لم تُفوِّت واشنطن وبقايا أوروبا المريضة فرصةَ التقطيع فى أبدان الضحايا والأكل على موائد القَتَلة.
جوهرُ المناورةِ أنهم ينقلون المعركةَ لتكون غربيَّةً غربية؛ فتتكسَّرُ صحوة الضمير شمالاً بالابتزاز تحت لافتة أنهم يُموِّلون كارهى اليهود. ووراء ذلك مساعٍ للضغط على الأُمَم المُتّحدة، وعلى محكمة العدل ودُول قُضاتها؛ كأنهم يُقايضون الإبادة بالإغاثة: إمَّا تتركونا نقتلهم؛ أو نُشرِكُكم فى القتل بتجويعهم.. وعمومًا، لن تكتمل اللعبة كما أرادوها، وهم يعرفون أن بقاء «أونروا» المُؤقَّتة كحالةٍ دائمة إنما يصبُّ فى صالحهم، ويخدم فلسفةَ التسويف، وإدارة الصراع بدلاً من حَلِّه، والبديل عنها سيكون انفجارًا عارمًا، أو طوفانًا حقيقيًّا بحجم فلسطين التاريخية. ستعودُ الأمور إلى سياقها المعتاد؛ وما سيتبقَّى من المشهد البائس أنه لولا همجيّة المُتحضِّرين البِيض؛ ما كانت نازيَّة التوراتيِّين المخابيل، وأنهم كلَّما تفنَّنوا فى صناعة الموت؛ تبتكر فلسطين وسائلَ نجاتها، وتتفنَّنُ فى فَرض نفسها على الحياة.