يعبر الفن دائما عن كل الأحداث التى تمر بها الأمة، عن الأوجاع والأحداث الصعبة، عن الحماس والاستعداد للتضحية، وعن الفخر والفرح وقت النصر، يخفف من وقع الهزيمة ويشحن الهمم ويلهب الحماس وقت الحرب والأزمات، فكم من صيحة وأغنية ولحن كان محفزا وموقظا للأمل، رافعا للمعنويات معبرا عن الشعور العام.
وعلى مر الأجيال، كانت القضية الفلسطينية فى قلب الفن والغناء العربى الذى عبر عن أحداثها دائما منذ النكبة وأحداث حرب 1948، وبداية الاحتلال الصهيونى للأراضى العربية، غنى لها عمالقة الطرب والغناء كلمات صاغها كبار الشعراء ولحنها أساطين الموسيقى، لتعبر عما يجرى على أرض فلسطين الحبيبة وما يتعرض له الشعب الفلسطينى، وتحث على الوحدة واستنهاض مشاعر الأخوة والعروبة وتحلم بتحرير الأرض، وتمنح الأمل فى النصر حتى وإن طال الزمن.
«أخى جاوز الظالمون المدى»
ما حدث على أرض فلسطين عام 1948 كان صادما لكل الأمة العربية، بعد احتلال قطعة غالية من قلب الوطن العربى، وما تعرض له أهل فلسطين من جرائم وحشية على يد العصابات الصهيونية، فعبر الفن عن هذه الأحداث بكلمات وألحان وأغان عبرت عن هذه النكبة، وكان من أوائل هذه الأغانى أغنية «أخى» التى كتبها الشاعر على محمود طه الملقب بشاعر الجندول، والمولود عام 1901 بالمنصورة، فكانت أول قصيدة تعبر عن أحداث النكبة، وكان عنوان القصيدة «فلسطين» ولحنها وغناها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وسماها البعض قصيدة «أخى»، حيث تكررت كلمة «أخى» سبع مرات، وكانت أبياتها تقول: «أخـى جـاوز الظالمون المدى، فــحــق الجهــاد وحـق الفـدا، أنـتـركهـم يـغـصـبون العروبة مــجــد الأبــوة والسؤددا، وليـسـوا بغير صليل السيوف يـجـيـبـون صوتا لنا أو صدى، فــجــرد حــســامـك مـن غـمـده فــليـس له بـعـد أن يـغـمـدا، أخى أيها العربى الأبى، أرى اليوم موعدنا لا غدا »، وكانت هذه الأغنية من أكثر الأغانى المعبرة عن أحداث النكبة وعن المأساة التى شهدتها فلسطين والأمة العربية.
«أصبح عندى الآن بندقية»
فى هذه الأغنية تعاون ثلاث قمم فى الشعر والألحان والغناء، فالقصيدة كتبها الشاعر الكبير نزار قبانى عام 1968، ولحنها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وغنتها كوكب الشرق أم كلثوم.
كتب الشاعر الكبير نزار قبانى هذه القصيدة بعد أحداث معركة مخيم الكرامة شرقى نهر الأردن عام 1968، حيث هاجمت قوات جيش الاحتلال قواعد الفدائيين الفلسطينيين، لكنها تعرضت لخسائر كبيرة على يد الفدائيين، فكتب نزار هذه القصيدة فرحا وتحية للمقاومة، وبعد أن أصبحت معركة الكرامة نقطة تحول كبيرة للمقاومة الفلسطينية، التى تطوع فيها الكثيرون بعد هذا الحدث، ولحنها محمد عبدالوهاب لتغنيها كوكب الشرق أم كلثوم، كما يوجد تسجيل نادر لهذه الأغنية بصوت أم كلثوم وعبدالوهاب معا، وتقول كلمات هذه الأغنية:
«أصبح عندى الآن بندقية، إلى فلسطين خذونى معكم، إلى ربى حزينة كوجه المجدلية، إلى القباب الخضر والحجارة النبية، عشرين عاما وأنا أبحث عن أرض وعن هوية، أبحث عن بيتى الذى هناك، عن وطنى المحاط بالأسلاك، أبحث عن طفولتى، وعن رفاق حارتى، عن كتبى عن صورى، عن كل ركن دافئ وكل مزهرية، إلى فلسطين خذونى معكم».
فيروز فى «زهرة المدائن»
الفنانة الكبيرة فيروز من أكثر الفنانين والفنانات الذين غنوا للقدس وفلسطين منذ وقت مبكر، حيث غنت ما لا يقل عن 10 أغنيات عن القضية الفلسطينة، أشهرها «زهرة المدائن »، وقبلها غنت العديد من الأغنيات منها فى منتصف الخمسينيات أغنية «سنرجع يوما»، وتوالت أغنياتها حبا فى فلسطين، ومنها نشيد أجراس العودة، «مريت بالشوارع، بيسان، يافا، سيف فليشهر، القدس فى البال، جسر العودة »
ويقال إن أشهر أغانى فيروز «زهرة المدائن» تعود قصتها إلى حيث كانت الفنانة الكبيرة تزور القدس، عام 1964 تزامنا مع زيارة بابا الفاتيكان بولس السادس، وأدت الترانيم أمامه فى كنيسة القيامة، ورأت بيت لحم، وأبهرتها ذكريات الناس المطبوعة على المفاتيح، والتقت بامرأة مقدسية تحدثت معها عن معاناة سكان القــدس من ممارسات وانتهاكات قوات الاحتلال، وأهدتها المرأة الفلسطينية مزهرية ورود، وبكت فيروز من شدة التأثر، وتحدثت بعدها مع الأخوين رحبانى ليترجما هذه الواقعة فى أغنية فكتبا «زهرة المدائن» التى سجلتها بعد هزيمة 1967، وافتتحت بها مهرجان الأرز، فحققت نجاحا كبيرا، وصورها لشاشة السينما المخرج هنرى بركات فى وصلة مستقلة عند عرض فيلم «سفر برلك» الذى قامت ببطولته فيروز، وعبر رجاء النقاش عن إعجابه الشديد بهذه الأغنية المصورة فى مقال كتبه لمجلة الكواكب، ودعا إلى عرضها فى جميع دور السينما.
«على أرضها نزف المسيح ألمه»
غنى العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ عشرات الأغانى الوطنية، وكان من أكثر الفنانين تفاعلا مع الأحداث التى تمر بها الأمة، يعبر عنها دائما ويترجمها بإحساسه وفنه، فكان من أكثر المطربين الذين عبروا عن القضية الفلسطينية منذ بداياته، وطوال مشواره الفنى، فبعد رحيل الملك فاروق قدم العندليب أغنيته الشهيرة «ثورتنا العربية» تأليف مأمون الشناوى وتلحين رؤوف ذهنى، التى غنى فيها لفلسطين قائلا: «ضد الصهيونية.. بالمرصاد واقفين، وهترجع عربية.. حبيبتنا فلسطين»، كما شارك فى نشيد وطنى الأكبر عام 1960، تأليف أحمد شفيق كامل، وألحان محمد عبدالوهاب، وغنى فى نفس العام أغنية «ذكريات» وتحدث فيها عن فلسطين وما يجرى على أرضها.
وبعد نكسة 67 كان عبدالحليم حافظ سيحيى حفلا فى لندن لصالح المجهود الحربى، وأراد أن يقدم أغنية تتحدث عن القضية الفلسطينية ليغنيها أمام العالم، فلجأ للشاعر عبدالرحمن الأبنودى الذى كتب أغنية «المسيح» ولحنها الموسيقار بليغ حمدى، ووزع موسيقاها على إسماعيل، ليغنيها حليم بقاعة ألبرت هول أكبر مسارح لندن، فى 17 نوفمبر عام 1967 بمصاحبة الفرقة الموسيقية بقيادة أحمد فؤاد حسن، أمام جمهور يزيد عن 8 آلاف شخص، أغلبهم من الجاليات العربية ومنهم عدد كبير من الأجانب، وتم بث الحفل عبر إذاعة لندن ونقلته الإذاعة المصرية، واهتزت القاعة بالتصفيق، وطلب الجمهور إعادتها أكثر من مرة، وبعد أن انتهى حليم من الغناء غادر المسرح ليرتمى على صدر بليغ حمدى تأثرا بالأغنية، حيث كان بليغ يتابع الحفل بترقب خلف الكواليس، وكان هذا أول غناء للعندليب خارج الوطن العربى وفى عاصمة أوروبية، وكانت كلمات الأغنية تقول: «يا كلمتى لفى ولفى الدنيا طولها وعرضها، وفتحى عيون البشر للى حصل على أرضها، على أرضها طبع المسيح قدمه، على أرضها نزف المسيح ألمه، فى القدس فى طريق الآلام، وفى الخليل رنت تراتيل الكنايس، فى الخلا صبح الوجود إنجيل، تفضل تضيع فيك الحقوق لامتى يا طريق الآلام، وينطفى النور فى الضمير وتنطفى نجوم السلام، ولامتى فيك يمشى جريح، ولامتى فيك يفضل يصيح، مسيح ورا مسيح».
«وردة من دمنا» بين فريد وأم كلثوم
حكى فريد الأطرش فى تسجيل نادر قصة أغنية «وردة من دمنا» التى غناها لفلسطين بعد النكسة، وقال: إنه كان قد جهز هذه الأغنية قبل عام ونصف العام من النكسة ليقدمها لأم كلثوم، وبالفعل عرض عليها الأغنية وكلمات القصيدة، التى أهداها له الأخطل الصغير بعدما أعجبته كلماتها.
وقال فريد الأطرش: إن أم كلثوم أعجبت بكلمات القصيدة وباللحن الذى وضعه لها وطلبت منه بعض التعديلات فاستجاب، وأعاد إليها اللحن فكانت شديدة السعادة به، وانتظر فريد الخطوة التالية، غير أن أم كلثوم بدون أسباب امتنعت عن غنائها، وهو ما تسبب فى ضيقه وحزنه، حيث كان يتطلع أن تغنى كوكب الشرق من ألحانه، ونتيجة لهذا الموقف، قرر فريد أن يغنى بنفسه هذه الأغنية التى تقول كلماتها: «وردة من دمنا فى يده لو أتى النار بها حالت جنانا، يا جهادا صفق المجد له لبس الغار عليه الأرجوانا، شرف باهت فلسطين به وبناء للمعالى لا يدانى، إن جرحا سال من جبهتها لتمته بخشوع شفتانا».
نجاح سلام غنت تحت القصف
كانت الفنانة الكبيرة نجاح سلام من أكثر الفنانات اللاتى أزعجن الكيان الصهيونى لكثرة أغانيها الوطنية الحماسية فى كل الأحداث التى تمر بها المنطقة العربية، وغنت مئات الأغانى الوطنية الشهيرة طوال مشوارها الفنى، وفى كل أنحاء دول العالم العربى، وكانت من أكثر الفنانات اللاتى غنين للقضية الفلسطينية، ففى عام 1949 دعيت للغناء فى إذاعة رام الله لمدة أكثر من شهرين، وأحيث العديد من الحفلات فى بيت لحم ونابلس وغيرهما، وكانت تتبرع بريع هذه الحفلات لفلسطين التى أنشدت لها قصيدة «يا زائرا مهد عيسى» كلمات بولس سلامة ولحن والدها محيى الدين سلام، وعاشت الفنانة الكبيرة فترات طويلة فى مصر، حيث كانت من أوائل الفنانين المؤيدين لثورة يوليو 52، وعبرت عن ذلك فى العديد من الأغانى، وقدمت العديد من الأغانى الحماسية خلال فترات الحروب التى مرت بها مصر والمنطقة العربية، خاصة فى فترة العدوان الثلاثى، حيث كانت أول صـوت انطلق فـى إذاعــة صـوت الـعـرب بعد أربـع ساعات من بـدء الـعـدوان الثلاثى على مصر، وسجلت أغنياتها تحت القصف ومنها «وطنا فى خطر »، نــداء الـعـروبـة، لمواجهة الأخـطـار الـتـى تـهـدد الأمــة وفلسطين، و «أنا النيل مقبرة الغزاة، ويد الله، يا أغلى اسم فى الوجود، ونشيد الـمـؤامـرات، وانـحـنـى يــا تــاريــخ وإعــلــى وصـافـح »، وغيرها عشرات بل مئات الأغانى الوطنية لمصر ولجميع الدول العربية، والكثير من الأغانى لفلسطين، ومنها «مقاومة، يا عايدة يا فلسطينية، عيوم البرتقال، أخـرج للعالم يا مـوسـى واضــرب بـعـصـاك»، وبعد النكسة ارتدت نجاح سلام بدلة المقاومة الشعبية، وكانت من أوائل الفنانين الذين اتجهوا لإذاعة بيروت وقتها، حيث كانت فى لبنان، وسجلت عددا من الأناشيد، منها «جيش بلادى، موكب البطولة، جيشنا يا وثبة الفدا».
سعاد محمد فتاة من فلسطين
من أوائل الأعمال الفنية التى تحدثت عن القضية الفلسطينية فيلم «فتاة من فلسطين» عام 1948، أى بعد النكبة مباشرة، الذى قامت بإنتاجه رائدة السينما عزيزة أمير، وهى أول امرأة تقتحم مجال السينما إنتاجا وتمثيلا وإخراجا، ليس فى مصر فقط بل فى العالم، وأطلق عليها طلعت حرب لقب أم السينما المصرية.
كانت عزيزة أمير أول من استخدم السينما لخدمة القضايا القومية والوطنية، حيث أنتجت شركتها أول فيلم يتحدث عن القضية الفلسطينية فى وقت مبكر عام 1948 باسم «فتاة من فلسطين»، وعرض فى نوفمبر 1948، وكتبت بنفسها قصة الفيلم والسيناريو، وأخرجه محمود ذو الفقار، وقامت ببطولته الفنانة الكبيرة سعاد محمد فى أول ظهور لها، ويحكى الفيلم قصة ضابط طيار مصرى يستبسل فى الدفاع عن الأرض الفلسطينية ضد العدو الصهيونى، وفى إحدى الغارات الجوية تسقط طائرته فى قرية فلسطينية، وتعثر عليه سلمى الفلسطينية مصابا فى قدمه، فتستضيفه فى منزلها لعلاجه، ويتعرض الفيلم لقصص الفدائيين الفلسطينيين اللذين يضحون بحياتهم دفاعا عن أرضهم ضد الاحتلال الصهيونى.
وخلال أحداث الفيلم، غنت سعاد محمد عددا من الأغانى التى تعبر عن القضية الفلسطينية منها «يا مجاهد فى سبيل الله، والهلال الأحمر، وبنت البلد، وحبيبة السماء»، حيث كتب أغانى الفيلم بيرم التونسى وعبدالعزيز سلام، ولحنها رياض السنباطى ومحمد القصبجى ومدحت عاصم.
وخلال مشوارها الفنى غنت سعاد محمد عددا من الأغانى التى تتحدث عن القدس وفلسطين ومنها «يا قدس يا حبيبة السماء قومى إلى الصلاة » شعر محمود حسن إسماعيل، ألحان رياض السنباطى الذى لحن أيضا أغنية فلسطين.
p
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة