"إن التقدم المستمر لكبح جماح التضخم ليس أمراً مضموناً، والطريق إلى الأمام غير مؤكد بعد"، جيروم بأول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، عقب القرار الأخير بتثبيت معدلات الفائدة على الدولار، في 13 ديسمبر الماضي، للمرة الرابعة خلال عام 2023، في إشارة إلى أن المخاطر المالية مازالت كبيرة، والتوقعات بشأن تعافي الاقتصاد العالمي غير واضحة ولا تدعو للتفاؤل كما يتصور البعض، خاصة مع تباطؤ معدلات النمو.
حالة الضباب الاقتصادي التي يعيشها العالم، وتخيم بظلالها على النطاق المحلي، تدعونا إلى ضرورة دراسة الأمور بطريقة متأنية، وعدم اتخاذ إجراءات أو قرارات من شأنها إدخال البلاد في منحنى الركود أو التباطؤ، الذي سيظهر كنتيجة مباشرة لتآكل السيولة وضعف معدلات ونسب الاستثمار، نتيجة توظيف المدخرات في أدوات بلا عوائد نقدية، ولا تسهم في دعم سوق العمل ومواجهة البطالة، مثل الاستثمار في شراء الذهب، باعتباره النموذج الأشهر في مصر خلال الوقت الراهن.
تجار الذهب وكل من يرتبط بهم من أصحاب المصالح يعرفون جيداً أن الأسعار التي يطرحونها في الأسواق للمعدن الأصفر غير عادلة ومبالغ فيها، والدليل أنهم يضعون فوارق كبيرة بين أسعار البيع والشراء، تصل إلى 200 جنيه في الجرام الواحد، بل إن بعضهم يبيع فقط ولا يشتري، تحت ادعاء نقص السيولة، وهو في حقيقة الأمر تحوط من انخفاض الأسعار، وتخوف من تحرك حكومي وشيك لضبط هذه السوق، خاصة أنها تضع أسعاراً للذهب قياساً على دولار غير موجود في الواقع، أو حتى بالسوق السوداء نفسها.
رئيس مصلحة الدمغة والموازين، وهو المسئول عن السلامة الفنية للمعدن النفيس، أكد في تصريحات صحفية، منذ عدة أيام، أن عمليات تسعير الذهب خلال الفترة الأخيرة مبالغ فيها وغير عادلة، ووجه نصائح مباشرة للمواطنين بعدم الشراء، خاصة أن التذبذبات حادة وسريعة، وتدار بأهواء مجموعة من الأشخاص، لا يقيمون الأسعار وفقاً للعرض والطلب، ولكن بقياسات تحسب المنفعة المباشرة، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، في الوقت الذي صار المستهلك فيه حائراً، كيف يحافظ على مدخراته في أجواء صارت السوق السوداء جامحة دون رقابة.
الكثير من المواطنين يتصورون أن الأموال التي خرجت من الشهادات مرتفعة العائد، في البنوك الحكومية سوف يتم توظيفها لشراء السبائك والعملات الذهبية، خاصة أن حجمها يقترب من 500 مليار جنيه، ولذلك سارعت البنوك لإصدار شهادات جديدة مرتفعة العائد بقيم 23.5% فائدة شهرية، و 27% فائدة سنوية بنهاية مدة الشهادة، التي يمتد أجلها لعام واحد فقط، لكني أتصور أن الطرح الخاص بخروج هذه الأموال لشراء الذهب ليس صحيحاً.
طبيعة المتعامل مع البنوك في الشهادات الادخارية تتسم بالموثوقية والأمان، خاصة أن القطاع المصرفي هو الأقوى والأكثر قدرة من بين المؤسسات المختلفة على استيعاب أزمات الاقتصاد خلال السنوات العشر الماضية، كما أن البنك المركزي يضمن أموال المودعين بصورة لا تقبل الشك، لذلك لن يغامر من يتعامل مع البنوك لتوظيف أمواله في قطاع آخر، أو أدوات جديدة، حتى ولو كانت ذهبا، لا سيما في مثل هذه الظروف التي باتت فيها الأسعار مرتبكة ومقلقة، بالإضافة إلى فكرة مهمة تتمثل في أن أغلب من يستثمرون أموالهم في شهادات الادخار من الفئة التي تحتاج لدخل شهري بعائد منتظم، للإعانة على أعباء الحياة، خاصة فئة كبار السن وأصحاب المعاشات، وليس لديهم شغف المتاجرة أو المكسب السريع.
أظن أن من يلجأون بصورة مباشرة لتحويل مدخراتهم وفي بعض الأحيان أموالهم وممتلكاتهم إلى الذهب هم فئة "التجار"، وهنا أقصد الشريحة الواسعة، بداية من تجار الخضراوات والفاكهة، حتى تجار الأعلاف والحبوب والمواد الغذائية.. إلخ، فهم أكثر من يعتبرون الذهب بديلاً مناسباً للنقود، وسلعة تحفظ قيمتها يمكن تسييلها إلى بضائع في أي وقت، لكن أخيراً تبقى شريحة مهمة وهى الفئة غير المتوقعة، التي قد تخالف قراراتها التقديرات الفنية المرتبطة بحيازة الذهب أو التخلص منه.
من وجهة نظري، أتصور أن شهادات البنوك مرتفعة العائد وسيلة مضمونة لمن لديهم أموال سائلة، حتى وإن كان بعض الغوغاء يشوهون هذه الفكرة، لكن الأفضل أن تضع أموالك في أدوات مضمونة، دون أن تقامر بها وتقع ضحية لمجموعات من التجار معدومي الضمير، الذين يأخذون الأسواق بقوة نحو الركود والانكماش، نتيجة المضاربة على العملة الوطنية وتشجيع المواطن على اكتناز الذهب والعملات الصعبة، حتى لو كان الأمر على حساب تصفية مشروعات أو أصول ثابتة تدر أرباحاً وتسهم في حركة التشغيل وفرص العمل.
مهزلة السوق السوداء للعملات الصعبة سوف تنتهي قريباً، ولن تستمر إلى مالا نهاية كما يتصور البعض، وأعتقد أن الموضوع لن يستغرق أكثر من 6 أشهر، لذلك سيصل عندها الذهب إلى نقطة أسعار عادلة، لن يحقق فيها المكاسب الخيالية التي يروج لها البعض، أو التي نسمعها ونراها في تحليلات مدفوعة الثمن، يمولها التجار على منصات التواصل الاجتماعي، وتحمل تنبؤات مكذوبة عن مستقبل أسعار الذهب في مصر، خاصة أن عمليات المراهنة والمضاربة على قيمة العملة الوطنية لن تستمر طويلا وستضربها الدولة قريباً.
ارتفاعات الأسعار في السلع والخدمات لن تكون إلى مالا نهاية كما يزعم البعض، خاصة أن هذا الأمر محكوم بالقدرة الشرائية للمواطن، الذي لن يتمكن من شراء بعض السلع أو الخدمات عند حدود معينة، وبالتالي لن يغامر المنتج أو المستورد أو التاجر أو الصانع ليمول مشروعات وإنتاج وسلع يشتريها الصفوة فقط، بينما يمتنع عنها عامة الناس، لذلك بات مهماً أن نعالج الأمور بالكثير من الوعي والفهم، وعلى الحكومة أن تسارع في خطتها بمراقبة الأسواق والتدخل الحاسم لمواجهة أصحاب المصالح.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة