صار مشهدًا مُتمِّمًا لاحتفالات عيد الميلاد. تبدأ صلوات القُدَّاس، ويحلّ الرئيس ضيفًا على الكنيسة، يُقدِّم التهنئة ويَلقى حظًّا وافرًا من الترحيب؛ ثم ينصرف بينما تتدفَّق أصواتُ الشمامسة المُرنِّمين بتراتيل القبطيّة وألحانها المُميَّزة. تدخلُ المسيحية فى الحياة دخولاً عضويًّا كما أُريد لها منذ البداية، لا يمنعها الوقارُ الإلهى من أن تكون عفويّةً وبسيطةً مع الناس، ولا تسلبُها البساطةُ التزامَ أن تبقى ثابتةً على تقاليد الآباء ومُحافظةً طُقوسيًّا أمام السماء.. البابا تواضروس يُجسِّد المعنيين برمزيته الروحية وحضوره العام، والزيارةُ الرئاسيةُ تبنى جسرًا بين الكنيسة والمجتمع، رسميًّا وإنسانيًّا فى آن. أمَّا العاصمة الإدارية فقد تقدَّمت لتحجز موقعها من الروزنامة المُرقسية؛ بعدما كان إحياءُ ميلاد المسيح إيذانًا بإحيائها فى أرضٍ قاحلة، وبعدما انعقد رباطٌ وثيقٌ بين العيد وجدران الكاتدرائية الجديدة.
سَنَّ السيسى سُنّةً حسنةً قبل عشر سنوات؛ إذ للمرّة الأُولى تقريبًا تُقدِّم الدولةُ برهانًا على عدالتها الروحية، وحيادها أمام أبنائها، وكلهم مُواطنون لا رعايا. حلَّ الرئيس فى صلوات العيد مطلع 2014 ولم يكن أمضى سوى ستة أشهر فى الحُكم، وواظب على الزيارة البروتوكوليّة حتى تحوَّلت إلى عادةٍ لها رمزيّة الطقس وماديّة المُواطنة. وفى العام 2017 أعلن رغبته فى تدشين كنيسةٍ جديدة لتكون عنوانًا لمدينة إدارية تُجدِّد شبابَ العاصمة، وتبرَّع لها مع المسجد المجاور، ثمَّ حضر القُدَّاس فيها بالعام التالى، وافتتحها فى المناسبة نفسها بعد عامٍ آخر. وإن كان «ميلاد المسيح» فى أصله كان فاصلاً نوعيًّا فى الزمن والاعتقاد، تأسَّس منه تقويمٌ مُغاير، ورُؤيةٌ أخلاقيّة وروحية أشدّ صفاءً وليونة ممَّا كانت عليه اليهودية، فإنَّ البناءَ العصرى الذى انتسب للولادة الإعجازية بالاسم؛ كان تتويجًا لفلسفةٍ مُستجدّة فى التنظيم والتنمية، تخلَّت للمرة الأُولى عن الغرام القديم باحتضان النيل، وزحزحت قلبَ الدولة نحو أطراف القاهرة البعيدة؛ إيذانًا بميلادٍ لا تُنشئه الطبيعة إنشاءً سهلاً وعارضًا من الماء والطمى، إنما تستولده العزيمةُ بالعَرَق والكَدّ والمطامح الخضراء من مخلب الاعتياد وفتنة الوقوف على الأطلال، ومن رَهبة المُغامرات الجادّة ومَوات الرمل الأصفر الكالح.
ربّما كانت الزيارةُ الأولى للمُواساة أكثر من التهنئة. كانت مصرُ قد غادرت لِتَوِّها سجنَ الراديكالية الإخوانية الجارحة، وبذلت كثيرًا من الأمن والدم لتُحصِّن المُستقبلَ من لوثةِ الحاضر. والجماعةُ على عادتها بحثت عمَّا تعتبره خاصرةً هشَّة، وما أرادت أن يكون مقتلَ الإجماع الشعبى فى مشهد 30 يونيو؛ فأحرقت الكنائسَ وبيوتَ الخدمة فى أنحاء البلد؛ انتقامًا من اصطفاف المسيحيين مع الثائرين على التنظيم، وطمعًا فى تأليبهم ضد الدولةِ والسُّلطة المُؤقَّتة بعد الثورة. البابا تواضروس كان قد أكمل سبعة شهورٍ بالكاد وقتها، وكانت فوائض الشحن والخطابة على آخرها، وضغوطُ المُتطرِّفين لا تهدأ، وإغراءاتُ رُعاتهم الخارجيين لا تتوقَّف، وليس بعيدًا منها تحرُّكات الأوروبية كاترين أشتون، ولا هيلارى كلينتون وخليفتها فى الخارجية الأمريكية جون كيرى، لكنَّ البطريرك الذى يحمل صليبَ مارمرقس وتُراث 117 بطركًا سابقين يُلخّصون نحو ثُلث تاريخ مصر المعلوم، وقف بصلابةٍ قائلاً إن الحرائق كما لا تطال إيمانهم بالمسيح، فإنها لن تمسَّ قُدسيّة الوطن فى نفوسهم، وأنهم سيُصلِّون مع المسلمين فى مساجدهم أو يجتمعون معًا فى الشارع؛ لأنّ «وطن بلا كنائس، خير من كنائس بلا وطن».
كان البابا الآتى من حيِّز عقلانى تنويرى يُغالبُ خطابات التشدُّد داخلَ البيت وخارجه. وعُودُه الأخضر فى حديقة الكرازة؛ بدا صُلبًا ومُستقيمًا فى ميدان الحرب الوجودية، للبلد بكامله وليس للمسيحيين وحدهم. جلس البطريرك بين المُجتمعين فى 3 يوليو، وشهد على «خارطة الطريق» مسارًا للخروج من الأزمة، وما تهاون لاحقًا أو لانت عزيمته رغم شراسة الهجمة الإرهابية، ومُماحكات الأُصوليِّين من كلِّ جانب. ربما لهذا حرص الرئيس فى تهنئته المُوجَزة بالعيد، أن يقول أمام شعب الكنيسة إنه يحمل تقديرًا عميقًا لصاحب الحبرية التى عمَّدتها التضحيات، وأُضيفت الصلابةُ والثقةُ فى الله والوطن إلى أسرارها المُقدَّسة. قال السيسى إنه شاهدُ عيانٍ على مواقف باباوية لا تتأتّى إلا من رجالٍ صادقين مُخلصين، ورغم ما يُسوِّغ الفخر فيما فعله البابا وشهد به الرئيس؛ فلم يخرج الرجل من قلّايته مُتفاخرًا ولا مُزايدًا، ولم يتخلّ عن هدوئه الوقور وخجله الوديع، بل إنه آمن بالإصلاح المُتدرِّج إيمانًا حقيقيًّا، ولم يتلبَّس عباءةَ الزعيم السياسى أو ملك الطائفة الذى يُذوِّب الأتباع فى شخصه، وقد فعلها شيوخٌ ورجالُ دينٍ آخرون. هكذا عاد الأقباطُ جميعًا إلى المجال العام، ومارسوا مُواطنتهم بالتساوى، وأفرزت التجربة نجاحاتها الصاعدة دون توتُّرٍ أو مُشاحنة.
ليس مُفيدًا أن نعود فى الزمن؛ إلَّا بقدر ما تكشف العودةُ أثرَ الماضى المُمتدّ إلى حاضرنا. ومنذ اعتمد المحتلُّ العثمانى البغيض قانون الخطّ الهمايونى؛ صار المسيحيّون رعايا لا مُواطنين. صحيح أن الصفة انطبقت على عموم المصريين؛ إلَّا أن فاعليَّتها فى البيئة المسيحية كانت أشدَّ قسوةً وحصارًا. لقد ظلَّ بناءُ الكنائس مثلاً سرًّا مُقدَّسًا يُصادره الغُزاة بجبروتٍ لا يقبل النقد والمُراجعة، وأُبعِدَت الأجيالُ تباعًا عن الشأن العام، ومَن نجحوا فى اختراق دوائر السلطة قِلَّةٌ يُؤكّدون شيوعَ القاعدة ونُدرةَ الاستثناء. أمَّا جهودُ الدولة للخروج من رواسب التسلُّط على الاعتقاد؛ فظلَّت بطيئةً وغير مُثمرة، إلى أن أنجزت صيغة 30 يونيو تصوُّرًا ناضجًا يُعالج عِللَ الميراث الثقيل؛ فكان قانون بناء الكنائس بالعام 2016، وقد أضاف قُرابةَ نصف ما كان قائمًا من قبل، استحداثًا أو بتوفيق الأوضاع، حتى أن الإنجيليين مثلاً حازوا 500 كنيسة فى نحو قرنين، واقتربوا من العدد نفسه آخر سبع سنوات فقط.
ليس رمزيًّا ولا هامشيًّا أن تدور تروسُ العاصمة الإدارية دورتَها الأولى بالكنيسة والجامع. لقد كانت لَفتةً مُهمَّةً فى معانيها، أوَّلاً لأنها تُجفِّف مُستنقع الإحن القديمة، وتُثبت الندّية والتكافؤ بين جناحى الاعتقاد فى مصر، كما تُوطِّن النفسَ على رؤيةٍ تتوسَّلُ أدوات العصر دونما مُخاصمة لتُراثها السابق وخزَّانها الروحى العميق؛ والأهمّ أنها تعكسُ انحيازًا هويّاتيًّا لا يُهمِّش مسائلَ الاعتقاد، ولا يرى عداوةً بين التمدُّن والمَرجعيَّة العقائدية؛ الحداثةُ تُنظِّم علاقتَها بالميتافيزيقيا؛ لكنها لا تختصمها ولا تعاديها.. والرئيسُ نفسه قال فى أكثر من محفلٍ إن الدين مسألةٌ شخصية، ويحقُّ لكل مواطن أن يعتقد أو لا يعتقد فيما شاء، دون أن يزيحه ذلك عن موضعه فى منظومة الحياة والعمل. على هذا المعنى؛ فإنَّ الإزاحة من النيل شرقًا ليست انتقالاً فى الجغرافيا فقط؛ إنما نقلة زمنية وعقليّة أيضًا. كانت المسيحيّة الأرثوذكسية والإسلام الأشعرى الصيغتين الأوضحَ والأكثر تماسُكًا فى بنائهما المادى، فتيسَّر تحقيقهما فى البيئة الجديدة؛ ليحلَّ البابا وشيخُ الأزهر معًا فى افتتاح مسجد الفتّاح العليم وكاتدرائية ميلاد المسيح؛ لكنّ المعنى العميق أن ما بينهما من أطيافٍ روحية وفلسفية ليست مُغيَّبةً عن السياق الجديد، ولا محرومةً من بطاقة العضويّة الكاملة فى مصر، على قاعدة التساوى والجدارة وحاكميّة الدستور والقانون حصرًا، وبتجاورٍ حميد بين الحداثة بشروطها والهُويَّة بعناصرها، لا تبغى إحداهما على الأخرى؛ إنما تتفاعلان ليقع التطوُّر بالمُمارسة والتراكم، وليس بالتعسُّف أو الإلغاء أو القرارات الفوقية.
وفقَ هذا التصوُّر؛ تدخلُ بيوتُ العبادة فى صميم الحياة، ولا يعودُ الدين متحفًا مُغلقًا على أتباعه خارج الزمن. لقد حرصَ الرئيسُ فى كلمته المُكثَّفة، وبعد التهنئة ومُشاطرة المسيحيِّين فرحتَهم، أن يُقدِّم عبورًا سريعًا على يوميَّات المصريين؛ فأشار إلى التحدِّيات الصعبة منذ 2020، وامتدادها فى العام الجديد، مع أمل أن يكون فاتحةَ الانعتاق منها، وأشار إلى الوجيعةِ المفتوحة فى غزّة، ودور مصر المحترم حِفاظًا على القضية الفلسطينية، وعملاً على إسكات البنادق وإغاثة الغزِّيين، كما جدَّد تأكيده المُعتاد على أهمية التضامن ووحدة الصفّ، وفاعليَّة ذلك فى مُجابهة كلِّ الامتحانات وعبورها، ما كان داخليًّا بريئًا فيها، وما كان خارجيًّا عارضًا أو مقصودًا. وفى كلِّ الزيارات السابقة لم يغب الشأنُ العام عن تهنئة السيسى من قلب القُدَّاس؛ ليس لأن عبارات المودَّة قاصرةٌ عن ملء الدقائق الزهيدة لوقوفه بين المُحتفلين، ولكن لأنّ ذلك يفتحُ الكنيسةَ على الشارع، والطقوس الخاصة على الفضاء العام. بالإمكان أن يُوجّه الرئيسُ رسائلَه فى كلمةٍ مُتلفَزة، وسيراها المسيحيّون والمُسلمون باحتشادٍ أيضًا؛ إنما أن تكون أجواءُ الصلاة الطقسيّة الثابتة لألفى سنةٍ منصَّةً لاجتراح ما يجرى الآن؛ لَهِى إشارةٌ إلى أن الدين ليس من أدواره الانعزال عن العالم، ولا استقطاع الوقت والذهن من أسئلة الراهن؛ مهما كانت قداسة الماضى ورسوخه فى الأرواح.. وأنّ الدولة تدخل الكنائس والمساجد لمهمَّتين أساسيِّتين: المُشاركة الوجدانية، والانشغال بالمُشترك المادّى، وهذا أبلغ دليل على الحياد الإيجابى، وليس سلبيّة الانقطاع وتعلية الجُدران.
الحيويّة التى تُحدثها الزيارةُ يُمكن التماسُها فى علاماتٍ بصريّة ولفظيّة أخرى. فالمُحتفلون فى تلك الليلة يلتقون على ذكرى المسيح، وهُم فى ذلك كأنهم يتلمَّسون ملامحَ الميلاد فى بيت لحم، بكل ما كان فيه من فقرٍ وخوف وبشائر خافتة. ولا يمنعهم ذلك أن يُقيموا طُقوسَهم على ركيزةٍ من البهجة والألوان، والتراتيل الدافئة، ولا أن يتصافحوا مع الرئيس ويرفعوا صورَه ويهتفوا باسمه، وأن يُقدِّم له البابا هديةً تذكاريّة كسابقةٍ فى أجواء العيد، بينما عريسُ الليلة الذين يقفون على ذكراه، وصارت الكنيسةُ جسدَه الباقى فى العالم، تَلقَّى الهدايا من مُلوكِ الشرق قبل عشرين قرنًا. هُنا تتأخَّر الدلالةُ السياسية التى قد يُعجِّل بها البعضُ، فيما يخصّ تأييد القيادة أو محبَّة المُواطن/ الناخب، لرئيسٍ فاز بالانتخابات قبل أيام. وتتقدَّم رمزيّةُ الانفتاح والجدل الخلَّاق مع الواقع؛ إذ لم تعُد الطقوس حِجابًا بين الإنسان ومُحيطه، ولا تمنع أن تتَّخذ البهجةُ أشكالاً دنيويّة مُتنوّعةً، ثم تعود إلى المسيح مُجدَّدًا بشَجَنِ الترنُّم وخُشوع العِظة والتمثُّل فى قراءات الكتاب المُقدَّس.
قضى السيسى يومَه العَلَنى فى العاصمة الإدارية. افتتحه بزيارة المدينة الأولمبية وتدريب المنتخب قبل السفر لأُمَم أفريقيا، واختتمه فى كاتدرائية ميلاد المسيح وقُدّاس العيد. كأنها الحياة بلونيها الأساسيِّين: المادة بكل ما فيها من عنفوان وتسابُقٍ واجتهاد بدنى، والروح بأصفى ما فيها من إيمانٍ وشعائر ومَودَّة إنسانية صافية. ربما لم تكن تلك الدلالة حاضرةً فى ذهن الرئيس، ولا تقصَّدها فريقُ البروتوكول وهُم يضبطون المواعيد والالتزامات؛ إنما لا يُمكن صَرف الذهن عن دلالتها العفوية، ولا عن أن تكون المدينة الجديدة مسرحًا لانتقال الدولة؛ مُمثَّلةً فى قيادتها، بين الملعب وقاعة الصلاة، وفى الخلفية عملٌ لا يتوقَّف فى أرجاء العاصمة بين مرافق حكومية عاملة، ومشروعات تتجهَّز لساعة ميلادها. أهمّ ما تحتاجه مصر أن تتسابق مع الزمن والعالم كما فى مباريات الكُرة، وأن تحتفظ بهويَّتها وصفاء روحها كما فى الكنائس وقُدَّاساتها، وأن تبنى بإيقاعٍ لا يُوتِّره الجَدّ ولا يُعطِّله اللعب. العاصمةُ ليست ديكورًا مجانيًّا فى خلفية مشاهد السبت، وتدريب المنتخب لا يختلف فى أهمّيته عن اجتهاد العامل والطالب والمُقاتل فى مواقعهم، وصلاةُ العيد ترميزٌ لحالةٍ إيمانية نحتاجها فى الجامع والشارع، وفى سُلطة الضبط الأخلاقى بوازع الضمير والاعتقاد قبل القانون والعقاب. وما رأيتُه فى الاستاد والكنيسة، وفى هيئة الرئيس وكلامه، مع المصريين المُبتلِّين بعرق التدريب أو المُتأنِّقين بملابس العيد، أنَّ مصر التى قامت دعائمها منذ فجر التاريخ على المادة والروح، وأخلصت فى البناء كما أخلصت فى الاعتقاد، لا سبيلَ لديها إلَّا أن تعود مصر التى كانت: بنَّاءةً كأنها أخذت عهدًا على الخلود، وروحانيّةً كأنها ذابت فى المُقدَّس؛ فما عاد يشغلها العالمُ ولا تُكدِّرها المقاديرُ التى فى مكنون الغيب.