في الوقت الذي تمر فيه الديموقراطية العالمية بمرحلة مخاض، تحمل فيه نهاية المفهوم في صورته النمطية، تبدو التساؤلات ملحة حول مستقبل الآلية البديلة التي يمكن أن تستلهم بها الشرعية، في ضوء العديد من المعطيات، أولها تراجع الشعبية التي تحظى بها الحالة النمطية الخشنة في التطبيق، من جانب، بالإضافة إلى عدم قبول العودة إلى زمن الديكتاتورية الخشنة، والقائمة على الحكم المطلق للفرد، أو لحزب بعينه، عبر إجراءات قمعية، من شأنها فرض نمطيات سياسية واجتماعية أو ثقافية، أو بالأحرى تعميمها على العالم بأسره، في انعكاس صريح للمعضلة التي بات العالم في مواجهتها، والتي تكشفت تدريجيًا خلال سنوات، بدء من حقبة الوباء، مرورا بالحرب الروسية الأوكرانية، وصولا إلى العدوان على غزة، والذي يمثل أحدث حلقات الثورة على الثوابت التي أرساها الغرب الأمريكي الأوروبي، في ظل غضب شعبوي جراء ما يشهده القطاع من انتهاكات صارخة منذ أكثر من 90 يوما، كان النساء والأطفال اكثر ضحاياها.
ولعل الجديد الذي كشفته أزمة غزة، فيما يتعلق بالعلاقة بين الحكومات والشعوب في الغرب، يتجسد في انهيار بنود الصفقة الضمنية التي تعتمد مبدأ الديموقراطية، والقائمة في الأساس على منح المواطن سبل الحياة الكريمة في الداخل مقابل عدم المساس بالثوابت، على مسارين، أولهما تلك التي أرساها المفهوم، والتي تقوم على احترام آلياته من خلال التغيير عبر الصناديق الانتخابية بعد انتهاء الولاية التي تحظى بها الفئة الفائزة بأغلبية الأصوات، بينما يقوم المسار الاخر على عدم التدخل في الثوابت التي رسمتها الدولة كمحددات لعلاقاتها بالعالم الخارجي، خاصة وأنها لا تمس المواطن ومصالحه بصورة مباشرة، بالإضافة إلى كونها ترتبط بمصالح الدولة العليا، والتي كانت تخرج عن إطار اهتمام المواطنين، في ظل ابتعادهم الجغرافي عن مناطق الازمات، وبالتالي لا يتأثرون بالتداعيات، حتى وإن وصل الأمر في بعض الاحداث إلى التدخل العسكري المباشر على غرار الحرب الامريكية على العراق، والتي حملت تأثيرًا محدودا على الشارع ارتبط في جوهره بأسر الجنود والضحايا، وعائلاتهم، إلا أن الآلية الانتخابية ربما كانت كافية في بعض المراحل للثأر من الأنظمة الحاكمة.
الانهيار في بنود الصفقة، على المسار الأول، ربما أسهبت في شرحه في مقالات سابقة، باعتباره المسار الأقدم نسبيًا، حيث بدأ الانقلاب على الآليات المتعارف عليها منذ ما قبل كورونا مع بزوغ حركة "السترات الصفراء"، والتي خرجت خلالها الاحتجاجات جراء تراجع الاوضاع الاقتصادية، حيث تصاعدت المطالب من مجرد اتخاذ اجراءات لتحسين الاوضاع إلى المطالبة باستقالة القائمين على المؤسسات، بينما يبدو المسار الثاني مستجد نسبيا، خاصة وأن السياسات الخارجية للدول باتت مرتبطة بصورة مباشرة مع حياة المواطن في الداخل، وتتفاعل معها، وهو ما يبدو في الأزمة الأوكرانية أولا ثم تطور هذا التفاعل مع أزمة العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، وهو ما يعكس حقيقةً مفادها أن السياسة الخارجية أصبحت لب اهتمام الداخل في كل دول العالم، وبالتالي صارت جزءً لا يتجزأ من البرامج التي يتبناها المرشحون في مختلف المناسبات الانتخابية في ضوء ما تسببه المواقف المنحازة من حرج للأنظمة الحاكمة، خاصة مع انكشاف حالة الازدواجية في التسويق للمبادئ التي طالما تشدقوا بها للضغط على خصومهم الدوليين.
فلو نظرنا إلى الأزمة الأوكرانية، ربما نجد أن ثمة انقسامات عدة ضربت المجتمعات خاصة في أوروبا الغربية، في ظل دخول الأزمة للمرة الأولى منذ عقود في نطاقهم الجغرافي، جراء المواقف التي عكست خصومة تاريخية مع موسكو، والتي تجسدت في عقوبات متواترة، مما خلق أزمات عميقة جراء نقص الوقود، ناهيك عن تداعيات اقتصادية ترتبت على ذلك على خلفية موجات عاتية من التضخم، ساهمت في ارتفاع أسعار كلفة السلع والخدمات، أدت إلى ارتباك ملموس في وتيرة الحياة اليومية لدى المواطن العادي، دفعته للتداخل في لحظة محورية نحو تغيير ثوابت السياسة الخارجية، والمطالبة بإعادة صياغة العلاقة مع الدول التي تضعها بلاده في قائمة الخصوم، وهو ما يمثل نقطة تحول كبيرة تجاه الأحزاب اليمينية والمعروفة بتقاربها مع روسيا.
بينم تبقى أزمة غزة، مرحلة أخرى أكثر تطورا في المسار نفسه، حيث تبقى الاحتجاجات التي تشهدها عواصم الغرب انعكاسا صريحا لحالة التداخل الشعبوي في السياسة الخارجية، وذلك في ضوء العديد من المعطيات، أبرزها أن العدوان على غزة، وإن كآن الأشرس، لكنه ليس الأول من نوعه، بينما يبقى عامل الجغرافيا بعدًا آخر ، في ظل ابتعاد الازمة نسبيًا عن مناطقهم، وهو ما يعني أن حالة التداخل الشعبوي المرصودة لم تعد قاصرة على الأخطار المحدقة جغرافيًا بالشعوب وإنما باتت أكثر شمولًا وامتدادًا، لتتحول إلى أولوية ملحة في أجندة المواطن عند اختيار ممثليه في المؤسسات المنتخبة ديمقراطيًا، وهو ما يعكس معضلات عدة، أبرزها الحاجة إلى صفقة بديلة لإنقاذ المفهوم من الانهيار، بالإضافة إلى حاجة الأحزاب إلى تغيير أجنداتها لتتواكب مع الرؤى التي يتبناها الشارع، ناهيك عن حاجة المفهوم نفسه إلى إعادة هيكلة، بحيث يتبنى نهجا أكثر مرونة في إطار تعامل القوى الدولية الكبرى مع العالم الخارجي لاستعادة قدر من التوازن للمفهوم بعدما أصبح بصيغته التقليدية غير قادر على مواكبة المستجدات الدولية.
والتوازن المنشود لمفهوم الديمقراطية في صورته العالمية، يبقى في حاجة إلى صيغة دولية موازية، تعتمد في الاساس نهجا يقوم على تطبيق المبادئ نفسها على الدول، بحيث يمكن مراعاة الظروف الداخلية والاقليمية فيما يتعلق بإدارة مختلف الملفات، وهو ما يبدو في أزمة غزة، حيث يبقى الدور الذي تلعبه القوى الاقليمية في إدارة الأزمة، وفي القلب منها مصر، محوريًا، ليس فقط فيما يتعلق بإنهاء العدوان وإنما أيضا في إطار تمهيد الطريق نحو الحل النهائي للقضية الفلسطينية، خاصة وأن هذه القوى تبقى الأكثر دراية في التعامل مع مختلف تفاصيل القضايا بحكم تاريخها الطويل قي إدارة القضية من جانب، بالإضافة إلى الجغرافيا بحكم وجودها في محيطها الجغرافي، وبالتالي فهي الأكثر إدراكًا لطبيعة أطراف الصراع، بعيدا عن الانحياز المطلق لطرف دون الآخر.
وهنا يمكننا القول بأن الحاجة باتت ملحة لديموقراطية أكثر مرونة، تحمل في طياتها احتراما لخصوصية المجتمع بكافة صوره، سواء على مستوى الداخل، أو على مستوى الدول، أو على المستوى الاقليمي الجمعي، عبر احترام الثقافات والأدوار، مع العمل الدولي الجاد على دعم الأدوار البناءة لاحتواء الازمات الطارئة بعيدا عن المواقف من أصحابها، وهو ما يفتح الباب أمام تحقيق شراكات جزئية من شأنها تحقيق المصالح المشتركة، مما يفتح الباب امام تعميقها في المستقبل.