من النصوص الجميلة التي قرأتها مؤخرا السيرة المعنونة (مشاهد تنبض في ذاكرة مثقوبة ـ سيرة ذاتية) للدكتور أحمد جمال الدين موسى، وهو صاحب عدد من النصوص الأدبية المهمة المنشورة في السنوات الأخيرة، وبعضها كان وظل حبيس الأدراج لفترة طويلة سابقة. النص الجديد يصوغ سيرة حافلة، متعددة التجارب، ويمكن مقاربته من زوايا عدة، على مستوى الملامح البنائية لهذه السيرة، وعناصر الرحلة أو الطريق والمنعطفات التي اجتازتها، وحركة الزمن ومستوياته الماثلة فيها، وبعض القضايا العابرة للزمن التي تطرحها.
من الملامح البنائية في هذا النص تماسكه الواضح، الذي يتأتى من وجهات عدة، فهناك تبويب وتقسيم دقيق عبر الفصول التي تقطع مسيرة طويلة على مستوى الزمن والأماكن والتجارب، وعلى مستوى رصد النمو الخاص بالشخصية، صاحب السيرة، علميًا ومعرفيًا وثقافيًا ووطنيًا وعاطفيًا، ويتحقق هذا خلال سبعة فصول:
الأول: القرية
الثاني: المرحلة الثانوية - منظمة الشباب وأوائل الطلبة
الثالث: المرحلة الجامعية - الحركة الطلابية
الرابع: الخدمة العسكرية - حرب اكتوبر 1973
الخامس: مجلس الدولة وشهور ما قبل البعثة
السادس: البعثة
السابع: بدايات الحياة الأكاديمية
وهناك التقسيم الداخلي في كل فصل من هذه الفصول إلى مشاهد مرقمة، متتابعة زمنيا، تلتقط ما هو جوهري أو ما تبقي من الواقائع والتجارب حاضرا في الذاكرة. أحيانا يتم اختزال تفاصيل كثيرة، متزاحمة او غائمة في منطقة ماثلة بين التذكر والنسيان، خلال "تلخيص" عبر مواقف محددة، كما هو الحال في استعادة ما بقي بالذاكرة من يوميات الحركة الطلابية في مصر، في تسعه مواقف، أو استخلاص بعض الأمور من تجربة العمل في جامعة "بين النهرين" بالعراق، في أكثر من موقف أيضا.
يتصل بهذا أن عنوان السيرة (مشاهد تنبض في ذاكرة مثقوبة) يشير الى ما بقي حيًا نابضًا في الذاكرة التي تسقط منها، بالطبع، أشياء وتفاصيل وتبقى أشياء وتفاصيل أخرى.. لكن كلمة "مثقوبة" في هذا العنوان تبدو خادعة، أو بدت خادعة بالنسبة إلىَّ، مع التصاعد في قراءة هذا النص المُدقَّق والمتقصّي والموثَّق بأكثر من طريقة، بما يجعل هذه الذاكرة بعيدة تمامًا عن أن تكون مثقوبة.
وفي هذه الوجهة، التي تنتفي معها ثقوب الذاكرة، يمكن ملاحظة نوع من المراوحة بين التذكر والنسيان، حاضرة في النص من أوله إلى آخره، لكن الذاكرة التي لا تنسي تستند إلى بعض الدعائم ومنها نصوص الخواطر، ونصوص الرسائل المتبادلة مع الأهل والأسرة والأصدقاء، ونصوص أدبية كتبها صاحب السيرة في مناسبات عدة، وتعقيبات كتبها عن بعض الكتب، وما يشبه "اليوميات" عن حرب أكتوبر 1973 التي شارك فيها على الجبهة، كضابط احتياط، الدكتور أحمد جمال الدين.. إلخ، وكل هذه النصوص أشبه بوثائق دقيقة ومؤرخة بتواريخ محددة بالأيام، وأحيانا بالساعات.
يتصل بهذا البناء المتماسك أن النص كله يمضي مشّيدًا على تتابع من رصيد مسيرة صاحبه.. وهو رصد قائم على التعاقب والنمو والتصاعد من التكوين الأول الى التحقق الأخير، وإن تضمن وقفات أو استدعاءات تتحرك من حاضر الكتابة، إلى زمن الوقائع القديمة، وإلى ماض أقدم أو أحدث يتم استدعاؤه والانتقال منه إلى الحاضر المتدفق دائما، خلال فعل استحضار، هو بطبيعته غير زماني.
تتصل هذه المسيرة طبعا بصاحبها منذ طفولته الأولى وحتى زمن الكتابة، وتتوقف عند الوجهات التي مضت فيها رحلته، وتوزعت عليها اهتماماته، وفي هذه الرحلة تتوازى معا مسيرات عدة: مسيرة ثقافية، ومسيرة علمية/ ومسيرة إبداعية، ومسيرة عاطفية، ومسيرة وطنية.
تعد حركة الزمن من أغنى وأثمن ما في هذا النص، ويتصل هذا بتعدد مستويات هذا الزمن، والحركة المتدفقة والمحسوبة ، معا، خلال هذه المستويات، كما يتصل باهتمام برصد التغيرات والتحولات التي طرأت على بعض الشخصيات، وبعض الأماكن، وبعض القيم والأخلاقيات، وبعض الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية .. إلخ، وبجانب هذا يتم الاهتمام كذلك بطرح بعض القضايا القديمة المتجددة، العابرة للأزمنة، ومنها علاقة الشرق والغرب، ومنها عدد من التجارب في إدارة القرية بشكل ديموقراطي، استنادا إلى الجهود الذاتية والابتعاد عن المركزية، ومنها أهمية طباعة، وقبلها ترجمة، الرسائل الأكاديمية التي قام ويقوم بها المبعوثون إلى أوروبا، ومنها قضية الطاغية والطغيان، في تحليل تجربة صدام حسين، استنادا إلى نص من "جمهورية أفلاطون"، ومنها ضرورة الاهتمام بالعلوم الإنسانية والعلوم العلمية البحتة الخالصة، والاهتمام بترابطهما معًا، ومنها قضية التدين الشكلي أو الاستغراق في الجدال حول تفاصيل سطحية بعيدة عن روح الدين.
هذه سيرة جميلة عن مسيرة حافلة، تستحق أن تقرأ وتستحق أن تبقي في ذاكرة قرائها وقارئاتها، كما بقيت وقائعها وتجاربها وتأملاتها في ذاكرة صاحبها، وهي ذاكرة منظّمة وموثّقة، ولم تكن مثقوبة أبدًا.