النهج التصعيدي الذي يتبناه الاحتلال الإسرائيلي، سواء في غزة أو لبنان، وصولا إلى اليمن، وربما يمتد إلى إيران، يضع الإقليم على حافة الهاوية، بينما تتصاعد معه مساع دبلوماسية كبيرة، من قبل القوى الرئيسية بالشرق الأوسط، وعلى رأسها مصر، لاحتواء الأوضاع، عبر المفاوضات، لوقف إطلاق النار، مع العمل على تحقيق التوافقات مع دول العالم، حول تعزيز الشرعية الدولية، في مسارها السياسي القائم على حل الدولتين، مع استدعاء البعد الإنساني، من خلال تمرير المساعدات الإنسانية إلى سكان القطاع، والتوقف عن ممارسة الانتهاكات، التي طالت لعام كامل، دون رادع، وسط حالة من التقاعس الدولي، أبرز فشل المنظومة العالمية، بصورتها الحالية في احتواء الصراعات الكبرى، وهو الأمر الذي قد ينذر بكوارث كبرى خلال المرحلة المقبلة، ليس فقط في منطقتنا، وإنما في العالم بأسره في ضوء تصاعد الحالة الصراعية، في المشهد الدولي.
ولكن بعيدا عن المساعي الدبلوماسي، فإن الحالة الإقليمية الراهنة ربما أفرزت إمكانات مهمة تحظى بها القوى الرئيسية في المنطقة، أبرزها القدرة على استحداث أدوات جديدة، في إطار مقاومتها للأزمات، وهو ما يبدو بجلاء في النموذج المصري، والذي يضع على عاتقة أولوية التنمية، في إطارها المستدام، رغم ما يحيط بالمنطقة من أزمات، وهو الأمر الذي يتجلى في مواصلة العمل على بناء المشروعات العملاقة، وأحدثها محطة قطار بشتيل، وهي المشروعات التي تتزامن مع لحظة اشتعال المنطقة، لتكون بمثابة نقطة تحول مهمة في إطار استراتيجية إدارة الأزمات الإقليمية.
ولعل الحديث عن رؤية الدولة المصرية القائمة على مواصلة التنمية في زمن الأزمات، ليس جديدا على الإطلاق، فقد سبق لها وأن تبنت النهج نفسه في حقبة الوباء، مما ساهم في تحقيق أرقام إيجابية في خانة النمو الاقتصادي، إلا أن ثمة بعدا جديدا يقوم على تعزيز المقاومة في مواجهة الاحتلال، عبر التنمية في صورتها المستدامة، خاصة وأن أزمة العدوان الحالية، تضمنت أشكالا جديدة من الانتهاكات، لم تقتصر على القصف والقتل والتشريد، وإنما حملت أبعادا أخرى، تقوم على استخدام التكنولوجيا، وهو ما بدا على سبيل المثال في تفجيرات البيجر التي ضربت لبنان قبل أسابيع، وهو ما يتطلب تعزيز الاستدامة، وتهيئة بنية تنموية ذات نطاق مستدام، يمكنه تحقيق طفرة تنموية إلى جانب تعزيز قدرات الدول على المواجهة، حال حدوث أية تهديدات.
والمشروعات التنموية التي تتبناها الدولة المصرية في اللحظة الراهنة، وما تحمله من ارتباك إقليمي، وإن كانت تهدف في الأساس لخدمة المواطن المصري، وطمأنته حول قوة وسيطرة بلاده، فإنها تحمل في الوقت نفسه، دعوة للقوى الرئيسية بالمنطقة، لمواصلة العمل التنموي، وخلق الشراكات مع الدول الأخرى، لتحقيق حالة من التكامل، من شأنها تعزيز المصالح المشتركة، وتوسيع مساحات التوافق فيما بينها، وهو ما يصب بالطبع في صالح القضايا المشتركة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والتي تحتفظ بمركزيتها، بالإضافة إلى تحقيق حالة، أسميتها في مقالات سابقة بـ"الصمود الإقليمي" في مواجهة الاحتلال وانتهاكات الممتدة زمنيا والمتمددة جغرافيا.
وفي الواقع، فإن مواصلة العملية التنموية في جوهره، يمثل في جوهره إحباطا كبيرا للاحتلال الإسرائيلي، يصل إلى حد الهزيمة، في ضوء ما سعت إليه حكومة بنيامين نتنياهو منذ بداية العدوان على غزة، قبل عام كامل، والذي يقوم في جزء كبير منه على استنساخ مشهد الفوضى الإقليمية، الذي هيمن على منطقة الشرق الأوسط، في بداية العقد الماضي، واستبداله بالمشاهد الدموية، التي حملت طابعا أهليا، إبان الربيع العربي، بينما تحاول الدولة العبرية تحويله إلى حرب إقليمية واسعة النطاق في اللحظة الحالية، وهو ما يساهم في تقويض التنمية والإصلاح الذي تحقق بصورة كبيرة في عدد من الدول خلال السنوات الأخيرة، والتي عززت بصورة أو بأخرى الرؤى العربية في المحافل الدولية، وأعادت فلسطين مجددا إلى المركز، بعد سنوات من التراجع، بسبب التهديدات الأمنية التي أحاطت بالمشهد الإقليمي خلال السنوات الماضية.
والجانب التنموي يمثل مسارا مهما فيما يتعلق بما تناولته في مقالات سابقة، حول محورية البعد الداخلي، في الحالة الإقليمية الشاملة، والتي ناقشت خلالها فكرة الاستقرار الأهلي، خاصة داخل الدول الأطراف في الصراع، بينما تبقى التنمية مسؤولية القوى الإقليمية الرئيسية، من خلال خوض التجارب، وتعميمها، وهو ما ينطبق تماما على المشهد المصري، والذي قدم التنمية في السنوات العشرة الأخيرة، باعتبارها السبيل لحماية المستقبل، وتعزيز المجتمع، بينما يقدمها في اللحظة الراهنة كأداة لتعزيز المقاومة والصمود في مواجهة التحديات الضخمة.
وهنا يمكننا القول بأن البعد التنموي، وإن كان أولوية قصوى لدى الدولة المصرية منذ ميلاد الجمهورية الجديدة، إلا أنه يحتفظ بمكانته في أجندتها في مختلف الظروف الأخرى، وهو ما برهنت عليه مصر، سواء في زمن الأزمات، على غرار حقبة الوباء، أو حتى في ظل الصراعات الكبرى، كما هو الحال في اللحظة الراهنة، وهو ما يعكس قدرة استثنائية، ليس فقط على المواجهة، وإنما على استحداث وتنويع وسائل المقاومة، والتي لم تعد، بحسب معطيات المشهد الدولي الراهن، حكرا على معسكر بعينه، وإنما واجب إقليمي جمعي، يتعين تعزيزه عبر تحقيق التنمية في الداخل، من جانب، أو تعزيز الشراكات الجمعية بين القوى الرئيسية في المنطقة، من جانب آخر.