ليس من وظيفة السياسة أن تُجنّبَنا الحروبَ فحسب؛ بل أن تُديرَها إذا ما ذهبنا إليها اختيارًا أو فُرِضَت علينا قهرًا. والحال أنَّ الدُّوَل مهما كانت مطعونةً فى شرعِيَّتِها؛ لا تُضحِّى بقُوَّتها الليِّنة، بينما تفتقدُها الميليشيا بالبِنية وفلسفة العمل، ونتيجة فتنتِها الحصريّة بالخيارات الزاعقة. وهذا ما يُرتِّبُ الفوارقَ ويُوسِّعُها استباقًا لصالح طرفٍ على حساب الآخر، فيُعزِّز قوّةَ الباغى المُنظَّمِ، على المُستَحِقِّ الفوضوىِّ، مثلما يقعُ عيانًا على أرض غزَّة منذ سنةٍ ويزيد، ويتمدَّدُ بوتيرةٍ جنونيّة فى الخريطة اللبنانية، ويبدو أنه سيتكرَّر بتعديلاتٍ طفيفة مع إيران؛ إذ لدى الجمهورية الإسلامية ظاهرُ الدولة وجوهرُ الميليشيا، وهى تتخبَّط بينهما؛ فلا تستفيدُ من هذا ولا ذاك. والدليلُ أنها ما كسبتْ فى الدبلوماسية ولا فى الميدان، وترتهنُ أربعَ عواصم من خلفِها فى مُغامرةٍ شَبَقيّةٍ تتلبَّسُ صورةَ الانتحار الرخيص. بينما العدوُّ الصهيونىُّ لم يخلَعْ جلدَه العصابىَّ القديم؛ لكنه لم يَتَعالَ على بِزّته السياسيّة؛ بغَضّ النظر عن تقديرنا الأخلاقىِّ والضميرىِّ لها، وكل ما يُمكِنُ أن نُدبّجَه فى هجاء نازيَّتها الوَقحة المُتوحِّشة.
يُؤثَرُ عن ترامب قولُه إنَّ «إيران لا تربحُ فى الحروب، ولا تخسرُ فى المفاوضات»؛ لكنَّ المُفارقة أنها ربما لا تعلمُ ذلك عن نفسِها، أو لعلّها تعرفُه واختارتْ تفعيلَه لصالحِها فحسب، ولو كان على حساب أذرُعها من الحلفاء والساحات الرديفة. لقد أبرَمَتْ الاتِّفاقَ النووىَّ وانتفعت به عدَّة سنواتٍ قبل أن ينسفَه ترامب، وإلى وقتٍ قريبٍ أنجزَتْ صفقةً تخلَّت بمُوجَبِها عن عدَّة رهائن، مُقابل تحرير حصّةٍ غير قليلة من أموالها المُجمَّدَة. وعلى ما يبدو؛ فإنها تستهدفُ من أجواء التشدُّد القائمة أن تتوصَّل لصفقةٍ مع الشيطان الأكبر، كما تصفُ واشنطن، تُقلِّص بها الضغوطَ الواقعةَ عليها، أو تُثبِّتُ مُعادلةَ نُفوذِها المُتمدِّدَة فى ساحات الإقليم. ومن هُنا؛ لا يُغنى القولُ إنَّ «السنوار» فاجأها فى طوفان الأقصى، عن النظر فى مُمارساتها السياسيّة والميليشياويَّة التالية للشرارة الأُولى؛ إذ دفعت حزبَ الله على خطِّ المُواجهة دون اعتبارٍ للمصالح اللبنانية، وأبدت رفضًا عَلَنِيًّا لمُداولات الهُدنة الغزّية غيرَ مرَّةٍ؛ بل إنَّ المُرشدَ على خامنئى اعترضَ بنفسِه عليها فى إحيائه لذكرى سلفِه الخمينى. صحيح أنّه لا يُمكن، ولا يصحُّ، تبرئةُ الصهاينة من المسؤولية المُباشرة والأكبر عن كلِّ ما حدث خلال السنة الماضية؛ إلَّا أنه يتوجَّبُ السؤال أيضًا عن فلسفة المُمانَعة فى اقتحام النار بصدرٍ عارٍ، ومصلحتِها من تغييب السياسة أو الترفُّع على مقامِها الإنقاذىّ؛ لتبدو كما لو أنها بطلٌ تراجيدىٌّ يسيرُ لحتفِه بإصرارٍ عجيب.
ارتدى القسَّاميّون حَطَّة فلسطين، وما سُمِعَت لغةٌ فى غلاف غزَّة سوى العربية؛ لكنَّ «الطوفان» لم يكن فلسطينيًّا خالصًا مهما ادَّعى صانعوه. سَهمُ الخارج فيه يتَّضحُ من أوّل الاستعداد والتخطيط واللوجستيات وتأهيل المُقاتلين، ومن تنسيق «حماس» مع المحور الشيعىِّ قبله وبعده، ورهان قائدِها الميدانىِّ على أن تُلاقيه بقيَّةُ الأذرُع تحت شعار «وحدة الساحات». أمَّا نتنياهو فقد أوحى للجميع بالتقاطه طُعمَ الحركة، ودبَّج رُزمةَ أهدافٍ ليس من بينها الحَسْمُ خارجَ القطاع، ولا فتحُ الجبهاتِ على بعضها. وكان فى العُمق يُخطِّطُ لمسارٍ آخر غير ما أظهرَه على الناس، خُلاصتُه أنّه اعتبرَ الهجومَ دعوةً للرقص من إيران رأسًا، وفرصةً مِثالية لاختبارها عمليًّا فى الحلبةِ؛ على أملِ ضَبط القواعد المُنفلِتَة بينهما، أو تحطيمِها تمامًا لو تيسَّر. لهذا رفعَ رايةً عاليةً وشِبه مُستحيلة، تمثّلت فى المُطالبة بإفناء الحركة وشَطبِها من بيئة القضيّة، ولخِبرته العميقة معها، ولَمسَتِه الواضحة فى تقويتها وتوطيد سُلطَتِها لعقدين سابقين على الأقلّ؛ فلعلَّه أكثرُ العارفين بأنه نادَى بما لا يُطال، ومن نافلة القول إنّه ليس هاويًا ولا مُغيَّبًا، وقد عركَتْه التجاربُ حتى تجسَّدت فيه أسوأُ صِيَغ الصهيونية التوراتيّة على الإطلاق. وبتلك الخلفيَّة؛ فإنه ما طلبَ رقبةَ الحركة إلَّا ليتمدَّد إلى جسدِ المحور، وما رفعَ شعارَ الإفناء هُنا؛ إلَّا ليصل إلى أعمق نقطةٍ من الإيذاء هناك.
نشوةُ الطوفان بادئًا؛ ثمَّ وَهمُ القوَّة والامتناع على العدوِّ الهشِّ كما يتصوَّرُ المُمانعون، لَعِبَا دورًا فاعلاً فى خداع النفس وتغذية الضلالات. والحزبُ فى لبنان، أو أئمَّتُه من الحرس الثورىِّ فى طهران نفسِها، لم يقرأوا الرسائل العِبريَّة المُضمَرة وراءَ ما أنزلوه بغزّة، كما فوّتوا كلَّ الشواهد التالية بعدها: من إفساد الهُدَن المُتتالِيَة، إلى التصعيد فى الضفَّة الغربية، واغتيال صالح العارورى فى قلب الضاحية عند مطلع العام؛ فأفضى بهم الكسلُ الذهنىُّ وبطءُ الاستيعاب، إلى استقبال ضرباتٍ أثقل وأكثر إحراجًا، من قَصفِ القُنصليَّة الإيرانية فى دمشق، إلى تصفية فؤاد شكر وإسماعيل هنيَّة فى القلبين الحصينين للمحور، وبعدها مجزرة البيجرات وأجهزة الاتصال، وصولاً للطامَّة الكُبرى بإزاحة الأمين العام التاريخىِّ حسن نصر الله فى كهفِه الآمن وبين زُمرَةِ رجاله المُقرَّبين، ثمّ وريثه ووريث الوريث. والواقعُ أنَّ التسلسُلَ الدرامىَّ لم يتصاعد بتلك الوتيرة لعبقريّةٍ فى إسرائيل، بقدر ما لغَباوةِ أعدائها. صحيحٌ أنَّ الفارقَ التقنىَّ والعسكرىَّ مائلٌ للأُولى بوضوح؛ لكنَّ مسارات التعويض عن الخَلَل لم تُختبَر أصلاً، وكلُّها تقعُ فى حيِّز السياسة بأكثر مِمَّا تتَّصلُ بالسلاح وجنون العظمة. ومن جديدٍ؛ تتبدَّى مأساويَّةُ خَوضِ الحروب على صِفَةٍ وجوديَّة، وبمَنطق القول المأثور عن طارق بن زياد «البحرُ من خلفكم والعدوّ من أمامكم»، بينما تتعطَّلُ المراكبُ بأيدى أصحابها أوّلاً، قبل أنْ تحرقَها نيرانُ الصهيونيَّة الهاطلةُ كالمطر.
صعَّد الاحتلالُ فى اليومين الأخيرين من أنشطته على أطراف غزَّة. زادت وتيرةُ العمليَّات شمالاً، وتكثَّف القصفُ الجوىُّ والمدفعىُّ، مع عمليَّاتٍ بريّة وأحزمةِ نيرانٍ حول جباليا وغيرها. ثمّة تحرُّكاتٌ عديدة، خَفِيَّة ومُعلَنة، تُرجِّح أنه بصدد تفعيل «خطّة الجنرالات» التى أعدَّها مستشارُ الأمن القومىِّ السابق جيورا آيلاند وعددٌ من رفاقه العسكريِّين. ومفادها فصلُ رأس القطاع عن بقيّة جسمِه، وترحيل عشرات الآلاف من الباقين فى غزة ومُحيطِها جنوبًا، على أن يَنفُذ لهذا عبر الإرعاب والتجويع، وأن يُصنَّفَ الباقون وغيرُ المُستجيبين للإجلاء تحت الصِّفَة الحماسيّة. الفكرةُ هُنا أنه يسعى لتطويق ما تبقَّى من قُدرات الحركة فى أعمق معاقلها، ويُعزِّز مساحات العَزل عن المناطق الحيويَّة فى إسرائيل، بحيث لا يعودُ بمقدور صواريخ الحركة أنْ تمتدَّ إلى نطاق تلِّ أبيب الكبرى، أو تُشكِّلَ مخاطرَ حقيقيَّةً على المراكز الديموغرافية الثقيلة فى الوسط وعلى طُول الساحل.
ربما يصحُّ ما يتردَّدُ عن خلافٍ إسرائيلىٍّ أمريكىٍّ بشأن طبيعة الردِّ على إيران؛ لكنَّ السوابقَ كلَّها تُؤكِّدُ أنَّ حكومةَ نتنياهو لا تنضبطُ وفقَ رُؤية إدارة بايدن، وكثيرًا ما تجاوزتها فى التكتيكات الحربيّة أو المُقاربات السياسية. وإذا كُنّا بصددِ سياقٍ غير معهودٍ عنها، بإرجاءِ الهجوم الموعود على طهران لنحو أسبوعين بعد استقبال صواريخها؛ فلعلَّ المسألةَ تتصلُّ بالسياق الداخلىِّ فى الدولة العِبريّة؛ بأكثر مِمَّا تحتكمُ إلى نظرة واشنطن، أو لرغبتِها فى امتصاص فائض الحرارة هُروبًا من شبح الاحتراق. والمعنى؛ أنَّ زعيم الليكود اتَّخذ من التنازُع الظاهر غطاءً للصمت المُؤقَّت، وكلّ ما أراده أن يُمرِّر فُسحةَ «عيد الغفران» دون أن يتسبَّب فى قلاقل داخليَّةٍ تُعطِّلُ الاحتفال، ولا أن يبدو كأنه يُراجِعُ ثوابتَه الاستراتيجية بشـأن إظهار القوَّة وإعادة مُعادلات الردع لتوازناتها القديمة، والاحتفاظ دائمًا بمِلكيَّة الضربة الأخيرة. وبما أنَّ الأعيادَ انتهت، ورغبتَه فى التواصل مع البيت الأبيض تحقَّقت بالفعل؛ فالأرجحُ أنَّ طبيعةَ الضربة قد تحدَّدت بشكلها الكامل، وجرى الاستقرار على بنك الأهداف وحجم العمليات ومداها، وطبيعة الأسلحة المُستَخدَمَة، وغيرها من التفاصيل الفنيَّة واللوجستية، وما يتبقّى إقرارُ الموعد وإشارةُ التنفيذ فحسب.
انتقلَ مركزُ الثِقَل من الجنوب إلى الشمال، من غزَّة للبنان. وليس القصد ما يخصُّ الطابعَ العَمَلانىَّ، وإن كانت تركيبتُه هو نفسُه قد تغيَّرت بالفِعل؛ إنما ما يُرافقُه ويُحدِّدُ فاعليّتَه عبر المُواكبة الإعلاميَّة والاهتمام الإقليمىِّ والدولىِّ. لدى الاحتلال حاليًا سبعُ فِرَقٍ عاملة على الأرض: ثلاث فقط على امتداد القطاع بتقسيماته المُصطَنَعة شمالىَّ نتساريم وجنوبىَّ خان يونس إلى محور فيلادلفيا، والأربع الباقية عند الخطِّ الأزرق فى مُواجهةٍ لم تستَعِرْ بكامل لَهيبِها مع «حزب الله» حتى الآن. والحادثُ أنَّ نتنياهو يُقسِّمُ هدفَه الوحيدَ على ثلاثة، ويُدثِّر الجبهات فى بعضها؛ فبينما يُغطِّى على ما يحدثُ مع الغزيِّين بما يرتكبُه بحقِّ اللبنانيِّين، فإنه يستغلُّ انصرافَ الاهتمام إلى لَبنَنَة المأساة؛ ليعود للتنكيل بجبهة الطوفان الأساسيّة، وبفضلِ إطالتِه الفاصلَ بين الهجمة الإيرانية والردِّ عليها؛ يحرِفُ جانبًا من التركيز عن البيئتين المنكوبتين فعلاً، إلى الهَلَع المُتنامِى عند رأس المحور المُمانع، بأثر ما يترشَّح عن المُواجهة بينهما من مخاطر الصدام وتَوسِعَة قوس الحرب الإقليمية وحِدَّتها. وهذا ما يُشبِهُ لُعبةَ «الثلاث ورقات» لدى الحُواة والمُهرِّجين فى فقرات السيرك؛ إذ يُمارِسُ خِفّةَ اليد والخداعَ البصرىَّ ليخفى الصورةَ عن المُقامرين، ويَخلُص بهذا لغايتِه الأثيرةِ فى الكسب السهل، وبالضرورة لإطالة الحِيَل وإرباك اللاعبين.
عقدةُ الماضى تتحكَّمُ فى ذِهنيَّة الشيعيَّة المُسلَّحة. لقد رُسِمَت حدودُ علاقتها بالولايات المُتَّحدة من حادثة اقتحام السفارة الأمريكية بعد شهور من ثورتها الخُمينيّة، ولم تتجاوزها إلى اليوم. أمَّا الحربُ الطويلةُ مع الجار العراقىِّ فقد تسبَّبت لها فى وجيعةٍ أكبر من الجغرافيا وأعمق من التاريخ؛ فانصرفت عن قُدراتها الذاتية إلى اختراق الآخر، وعن ثِقَلها إلى الاستعانة ببدائل أخفّ وأكثر هشاشة، وهكذا أقنعت نفسَها بأنَّ الدولةَ المُمتدَّة لأكثر من مليونٍ و600 ألف كيلومترٍ مُربَّع، تحتاجُ للحماية عبر قنواتٍ رديفةٍ لا تُكافِئُها فى المساحة والإمكانات. وهكذا خُرِّبت القاعدةُ القريبةُ غرامًا بالرايات البعيدةِ ونظرية «الدفاع المُتقدِّم»، وتعطَّلت الأُصولُ الأساسيَّةُ لصالح التحويط على مليون كيلو مترٍ أو يزيد قليلاً فى العراق وسوريا واليمن ولبنان مُجتمعةً، مع ما فيها من قلاقل داخليَّة ونزاعات إثنيَّة وطائفية. والعُقدةُ ذاتها جمَّدَتْ استراتيجيَّات الحزب على خطِّ التَّمَاس عند دراما الحرب الأخيرة فى 2006، فما استوعبَ أنَّ إسرائيلَ درَسَتْ إخفاقَها ونجاحَه، وتحسَّبَتْ للجولة التالية بِنِيَّةٍ واحدة؛ ألَّا تكونَ مثل سابقتها. لذا رصَّصَتْ طبقات الحماية الدفاعيّة فى سمائها لتحييد قُوَّتِه الصاروخية، وعملت بدأبٍ على اختراقِه وتفخيخِه من الداخل، والأهمّ أنها لم تعُد تنظرُ إليه فى نطاقِه الضيِّق حصرًا، وبمَعزلٍ عن امتداداته الماديّة والأيديولوجية، والحبلِ السُّرِّى الذى يربطُه برَحْم الأُمِّ الحاملة للمشروع. وهكذا يُمكنُ القولُ إنَّ نتنياهو لا يخوضُ معركةً ضدَّ الحزب وأُخرى مع إيران؛ إنما يشنُّ حربًا واحدةً على المحور، ولا فارقَ فيها لديه بين غزَّة والحُدَيدة، ولا بين الضاحية والبوكمال وحىِّ المزّة، وتُحرِّكه حقيقةٌ واحدة لا نزولَ عنها؛ ألَّا وهى أنه لا حياةَ للحزب خارج عباءة طهران، ولا أملَ لمشروع الجمهورية الإسلامية وتصدير ثورتها بعيدًا من الحزب.
هذا الرهانُ معناه أنه لا يُعوِّل على الهزيمة المُطلَقَة فى الجولة الراهنة؛ وإن طالبَ بها وسعى إليها. التكتيكُ هُنا يتقدَّمُ على الاستراتيجية، وغايتُه توحيدُ الساحات فى الخطاب لتسهيل الحرب عليها جميعًا، وفصلُها فى المُمارسة لتعبيد مسار الانفراد بها واحدةً بعد أُخرى. والإثقالُ على غزَّة ولبنان معًا هدفُه إبعادُ الحزب عن مطلَبِه القديم برَبط الجبهات، وتعليق وقفِه للنار على التهدئة مع القطاع. وبالمِثلِ؛ فإنَّ مُلاحقةَ القُدرات الحزبيَّة بالتزامن مع إحماء الأجواء بين تل أبيب وطهران، ظاهرُه استدعاء الأخيرة لميدان القتال دِفاعًا عن دُرَّة التاج لمشروعِها الإقليمىِّ، وجوهرُه أن يُجبرَها على التخلِّى عنه بالحديد والنار، أو بصفقةٍ تتولَّاها واشنطن فوقَ الصِّدام الشامل ودون العَسفِ بأُصولِها الحيويَّة. والخيارُ لديها بين اثنين: أنْ تتمسَّك بمَوطئ قدمِها فى لبنان؛ مع احتمال مُخاطرة اللقاء بالكاسِحَة الأمريكية المَقطورةِ وراء درَّاجة نتنياهو الطائشة، أو ترتدّ فى الزمان والمكان فتُخلِى طريقَ الاحتلال إلى لبنان، وتُوفِّر نفسَها لجولةٍ تاليةٍ؛ على أمل أن تُلاقيها الظروفُ والمُصادفات قبل إطلاق النفير. وفى الحالين، ستكونُ الخاسرَ الأكبرَ فى مُنازلةٍ لم تُقرِّر فيها سوى ضربةِ البداية: إمَّا تنجو من دونِ الحزب، أو تُقامر بكلِّ ما لديها مع احتمال خسارته أيضًا، وكلاهما يصبُّ فى حصَّالةِ هزائمها التكتيكيَّة، ومن مجموعها تتعاظَمُ احتمالاتُ الهزيمة الاستراتيجية. هذا قَطعًا قد يُغريها بالمُغامرة غير المحسوبة كما يُريد نتنياهو؛ مُستنِدًا لفائض القوَّة الأمريكى وانحيازه الصارخ، والفائضُ نفسُه يقومُ مقامَ الرادع الباعث على التعقُّل؛ وهو ما يُؤمِّنُ مكاسبَ الصهيونىِّ العجوز أيضًا، وإنْ بفاتورةٍ أكبر ومدىً زمنىٍّ أطول؛ لأنه يتحقَّقُ من دون الزَّجّ بواشنطن فى حلبة الصراع بالأصالة.
زبدةُ القول؛ إنَّ نتنياهو مثلما تلقّى هديةَ الطوفان على شوقٍ واحتياجٍ حقيقيين؛ فإنه يُوظِّف إخفاقات خُصومِه فى تمكين أجندته، ويُجنِّد «وحدة الساحات» وكلَّ ما يترشَّح عنها من شعاراتٍ وأداءاتٍ باهتة، لتكونَ سلاحًا أساسيًّا فى قوّته العاملة داخل الميادين وخارجِها. لقد خدعَهم سابقًا بمَوقفِه فى أوّل الطوفان، وتسريب أنَّ وزيرَ دفاعِه وطائفة الجنرالات دَعوا لضربةٍ استباقيّةٍ للحزب، وتصدَّى لها مُنفردًا؛ ففَهموا من هذا أنه مُرتَدعٍ أو عاجزٍ عن الدخول فى معاركَ مُتزامِنة. وتأخيره للردِّ على إيران؛ بقدر ما يُزعِجُ الفاعلين فى طهران، فربما يُغذّى لديهم شعورًا بالمَنْعَة والبأس، حتى أنَّ العدوَّ يحسبُ حِسبتَه ويُعيدُها مرَّة بعد مرّة. والحال أنَّ السياسةَ تلبَسُ سترةَ القتال، وتخوضُ المواجهات مع الجنود منذ اللحظة الأُولى. والأغلب أنَّ المحورَ سيستفيقُ على ضربةٍ قاسية لقَلبه الصلب، ربما تُوفّر المرافقَ النوويّة والنفطيّة؛ لكنها ستطال أُصولاً لا تقلُّ عنهما فى القيمة والأَثر، بما يسمح بأنَّ تكون مُوجعةً وأقلّ إزعاجًا للمنطقة والعالم؛ وعلى القيادة المُعمَّمَة أن تمدَّ له حبلَ الذرائع من جديد؛ إذ يقفُ ذئبُ الليكود على أطراف بلدٍ صغير، ومحدودٍ فى عُمقه الاستراتيجىِّ، وإن أُلقِيَت عليه حصَاةٌ يَسهلُ استثمارُها فى حروب الدعايات. وإذا كان العنفُ كَلبًا أليفًا لدى الصهاينة، وأباطرة الكوكب وبلطجيّته الكبار فى خدمته؛ فالسؤال عن مبعث الثِّقة والتصلُّب الذى يُطابقُ الجمودَ، وعن فتنةِ الجَرى فى المكان والإصرار على تغييب السياسة كأنها رجسٌ من الشيطان.. صِرنا أمامَ واقعٍ لا حيلةَ فيه ولا وجاهةَ لهجائه، أو البكاء على رُكامه الآخذِ فى الاتّساع؛ والذين حَفَروا حُفرتَهم يَجُرّون معهم دُوَلاً وعواصمَ من غير جريرةٍ أو فائضِ عافيةٍ، والمأساةُ إن كانت تتجسَّد بلَونِها القاتمِ فى الطَّلَل والأشلاء؛ فإنَّ أشدَّ مَواجعِها وأثقلَ فُصولِها حاضران فى الخِفَّة والاستخفاف، وفى تكرار اللعبة وانتظار نتائج مُغايرة، والإدمان على دَوس الفخاخِ دون وعىٍ أو استبصار. الحربُ وسيلةٌ للنجاة؛ إن تعطَّلت فلا بديل عن السياسة، والأخيرةُ لا تعرفُ المُكابرةَ ولا الانتحارَ المجانىَّ. كانت «أجهزة البيجر» ثغرةً حارقةً فى جيوب الحزبيِّين، مثلما الفيروس الرقمىّ الذى زرعته إسرائيل قبل سنوات فى مرافق نطنز النووية، واليومَ صار شعارُ «وحدة الساحات» نفسُه الخاصرةَ الهَشَّة التى يُضرَبُ منها المحور، وتُسحَق تحت رايته مُقدَّرات الإقليم وقضاياها العادلة؛ ويبدو أن المُمانِعين قد باتوا أحوجَ الناس إلى المُبادَرة بالتخلّى عنه؛ على الأقل من أجل ألَّا تُنتَدَب أُصولُهم كلُّها لمعركةٍ خاسرة، وألَّا يُستَنزَفوا بكاملهم فى جولةٍ واحدة.