الأبطال لا يموتون تبقى أعمالهم وتضحياتهم مشرقة في الذاكرة الوطنية، تزينها بالتقدير والعرفان وتملؤها بالفخر والاعتزاز..لا يكفى يوما أو مناسبة للاحتفال بهم وتكريمهم وتذكير الأجيال بهم وبطولاتهم .. منهم من قضى نحبه شهيدا فوق أرض المعركة أو لقى وجه رب كريم بعدها ومنهم من ينتظر.
هم الأبطال الحقيقيون الذين ضحوا بأرواحهم وهانت عليهم حياتهم في سبيل نصرة الوطن ومجده وعزته وكرامته وتواروا في تواضع العظماء بعد أداء الواجب المقدس ولم ينتظروا جزاءا ولا شكورا، قانعون وراضون بما قدموه من أجل مصر في ساحة المعارك.
مازال يوم 6 أكتوبر عام 1973 معجزة بطولية بكافة المقاييس العسكرية ومازالت المراكز الاستراتيجية الكبرى والكليات والمعاهد العسكرية تدرس أسرار هذا النصر الكاسح وفي وضح النهار. وتقف حائرة ذاهلة أمام تلك المعجزة التي صنعها المصريون عند الظهيرة بالمخالفة لكافة النظريات العسكرية وعلى عكس المنطق في الأعراف والقواعد الحربية في الحروب بين الجيوش.
فلماذا اختار المصريون يوم 6 أكتوبر بالذات ولماذا أيضا عند الساعة الثانية بعد الظهر تحديد ..؟ من هو العبقري المصري الذي كان وراء الفكرة وصاحب اقتراح ساعة الصفر..؟
ربما مرت سنوات طويلة طغت فيها السياسة بنفوذها على السلاح وتوهجت فيها المناصب على البطولات الحقيقية، لكن التاريخ دائما ما ينصف الأبطال ولا يضيع مجهود أحد منهم ويقف صامدا في وجه التغييرات والتحولات مهما طال الزمن. فالحقيقة دائما هي الثابتة حتى ولو توارت قليلا وسط غبار السياسة. ويبقى المعدن أصيلا وجليا ولامعا في الأعين مهما تراكمت عليه الأغبرة.
فمن كان البطل الحقيقي في تحديد ساعة الصفر الذي على أساسه اتخذ الرئيس السادات قرار الحر الشجاع ..؟
الاعداد للمعركة كان يجري على قدم وساق والتخطيط للحرب كان يدرس بدقة متناهية داخل هيئة عمليات القوات المسلحة لشهور طويلة وربما لسنوات ما قبل الحرب مباشرة .
داخل فرع التخطيط بهيئة العمليات كان العقيد أركان حرب صلاح فهمي رئيس الفرع يقبع خلف مكتبه، يصل الليل بالنهار يفكر ويدرس اليوم والموعد الأنسب لبدء معركة التحرير واسترداد الأرض. يضع أمامه بصورة مبدئية كافة الاحتمالات من كافة الجوانب. وفي ورقة مكتوبة بالقلم الرصاص تقدم بها الى اللواء عبد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات ورئيسه المباشر والذي كلفه بدراسة شاملة ووافية قبل عرضها على القيادات الأعلى.
شهور وأسابيع وأيام وليالي قضاها العقيد صلاح فهمي على الدراسة مستعينا بكافة الوثائق والكتب والدراسات وبمراكز الأبحاث والدراسات العسكرية والمدنية بالتنسيق والتشاور مع كافة قادة أفرع القوات المسلحة. لم يترك شيئا للصدفة وبدون دراسة... اليوم والساعة وظروف الجو والتيارات في قناة السويس والمد والجزر وضوء القمر، والفترة الزمنية التي تستغرقها القوات المصرية في العبور بعد الضربة الجوية والوقت الذي تستغرقه قيادة اسرائيل لرد الفعل وتحديدا يوم 6 أكتوبر.
يحكي اللواء أركان حرب صلاح فهمي في حوار تليفزيوني مع الاستاذ ابراهيم حجازي عام 2015 تفاصيل دقيقة عن كيفية اختيار اليوم والساعة.." كانت عملية علمية في غاية التعقيد. ويتذكر أن اللواء الجمسي أعطاه كتيب عن مواعيد أعياد اليهود في اسرائيل فقرأه ووجد ضالته في اليوم المناسب وهو يوم عيد الغفران وهذا العيد يمتد لستة ايام تتوقف فيه الحياة داخل الكيان الصهيوني بصورة شبه تامة ويتفرغ فيها الاسرائيليون للعبادة فقط وتتوقف الصحف والاذاعة الاسرائيلية والتي تستخدم للتعبئة في أوقات الطوارئ والحروب.
أما عن الساعة 1400 أو الثانية بعد الظهر فكانت الاختيار الأنسب بالحسابات الدقيقة، لا قبلها ولا بعدها رغم اقتراح بعض القادة في غرفة العمليات بأن يبدا العبور الساعة 12 ظهرا. لكن وفق دراسة وحسبة العقيد صلاح فهمي فالساعة الثانية كانت الأنسب والأدق حتى تتمكن القوات من العبور وقت خط الزوال وحتى لا تكون الشمس في المواجهة.
ويساعد ذلك في تنفيذ الضربة الجوية على أكمل وجه وبناء الجسور مع آخر ضوء وعبور الدبابات حيث لا يتمكن العدو من رؤيتها وقواته في حالة استرخاء.
انتهت حسابات البطل الأسطوري صلاح فهمى إلى أن مدة تنفيذ العملية العسكرية المصرية لعبور القناة، تستغرق 8 ساعات، وأول رد فعل إسرائيلى سيكون بعد 6 ساعات وفقا لقواعد انعقاد مجلس الوزراء الإسرائيلى واتخاذ قرار الحرب، ومن ثم يكون التوقيت الزمنى المناسب لساعة الصفر 2 ظهرا، بحيث تنتهى العملية العسكرية المصرية مع نهاية اليوم وتعجز إسرائيل عن الرد لحلول الظلام وتكون مصر أمام نجاح حقيقى على أرض المعركة
ويحكى الخبير الاستراتيجي اللواء الدكتور سمير فرج أن البطل صلاح فهمي جلس بعد انتهاء دراسته وحساباته وكتب ما توصل اليه في احدى كراسات ابنته حنان صلاح فهمي التي كانت تدرس وقتها في الجامعة. وفى صباح اليوم التالى قدمها للواء الجمسى الذى رفعها للفريق سعد الدين الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة ثم للمشير أحمد إسماعيل على وزير الدفاع ومنه الى الرئيس السادات القائد الأعلى للقوات المسلحة وتمت الموافقة على الميعاد.
ويكشف الاعلامي أحمد المسلماني في احدى حلقاته الطبعة الأولى أن من بين أسباب اختيار يوم 6 أكتوبر أيضا من العقيد صلاح فهمي ان انتخابات الكنيست الاسرائيلي- البرلمان كانت على وشك الانعقاد في هذا الشهر والكل داخل اسرائيل مشغول بهذه الانتخابات.
لم يكن فقط البطل صلاح فهمي هو صاحب اقتراح ودراسة موعد الحرب وساعة الصفر، فهو أيضا صاحب فكرة غلق مضيق "باب المندب" أمام الملاحة الإسرائيلية، والتي كانت أعظم مفاجآت حرب أكتوبر 73 لإسرائيل، حيث سافر العقيد صلاح فهمي إلي اليمن عدة مرات في عام 71 و73 مع ضباط من أجهزة الأمن والقوات المسلحة المصرية كمدرسين ورجال أعمال لوضع خطة تأمين عمل المدمرات والغواصات ولنشات الصواريخ المصرية في البحر الأحمر عند مضيق "باب المندب"، لمنع مرور السف الاسرائيلية أو سفن الدول الداعمة لها والتقي قادة اليمن الشمالي والجنوبي وأصبح ميناء إيلات الإسرائيلي ميناءا مهجور خلال فترة الحرب وفقد الصهاينة أهم منفذ لهم علي البحر الأحمر.
بقى أن نذكر بسطور من السيرة العطرة للبطل صلاح فهمي فهو من مواليد القاهرة عام 1936 وتخرج من الكلية الحربية عام 56 وشارك في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر..عاش بعيدا عن الأضواء حتى رحل في هدوء يوم 27 يناير عام 2017 عن عمر يناهز 81 عاما
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة